الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التعددية الحزبية في بولندا··· وهم الرسوخ ومأساة التبدل

التعددية الحزبية في بولندا··· وهم الرسوخ ومأساة التبدل
30 أكتوبر 2007 23:10
كلما اعترى المرء الملل والتعب من ذكر سيرة الديمقراطية، كلما حدث ما يعيد إلى الذاكرة مدى بريقها وسحرها· وليس أدل على ذلك من الوقوف الطويل للشباب البولنديين في صفوف الاقتراع التي تقتصر على العاصمة وارسو ومدينة ''روكلو''، وكذلك امتداد الصفوف نفسها حتى في لندن ودبلن، تعبيراً عن إصرار الشباب البولندي على الإدلاء برأيهم حول مستقبل بلادهم عبر صناديق الاقتراع· ولنذكر بهذه المناسبة أن آباء هؤلاء الشباب، لم يحدث لهم أن نعموا بهذه الممارسة طوال حياتهم وحتى لحظة انهيار النظام الشيوعي الحاكم في عام ·1989 لقد دفعت تلك الممارسة بالغبطة في نفوس البولنديين الذين تتراوح أعمارهم بين 18-19 سنة، رغم ضعف مشاركة الناخبين في الانتخابات الأخيرة، غير أنها تعد أعلى مشاركة لهم على الإطلاق منذ انتخابات 1989 الشهيرة التي جرت لأول مرة بعد عدة عقود من الحكم الشمولي؛ يذكر أن المشاركة الواسعـــة للشباب البولنديين بصفة خاصة في الانتخابات هـــذه، هي التي أدهشـــت جميــع المراقبين وبفضلها تحققت هذه النتيجة المذهلة· شعار هذه الانتخابات هو ''كفانا··· فقد آن وقت التغيير''؛ وما أن بدأت الاقتراعات حتى اعتزم البولنديون تحقيق هذا الحلم بتخلصهم من هيمنة التوائم الثنائية على سدة الحكم، فبينما انتهت المعركة على الإبقاء على التوأم الأخف ''رعباً'' أو رهبة في القصر الرئاسي، فـــإن شقيقـــه ''جارسلو كازينسكـي'' -الذي عرف بكونه الأشد مكراً وتآمراً- لم يعد له من سبيل للبقاء في رئاسة الوزراء؛ والسبب هو أن حزبه الذي حصد ما يقارب ثلث أصوات الناخبين، قد مني بهزيمة حاسمة في نهاية الأمر· كما كان مريحاً أيضاً حصول الحزبين الشعبويين الصغيرين ''حزب الدفاع عن النفس و''رابطة العائلات البولندية'' على نسب انتخابية دون الخمس في المائة فحســب، ما يستبعد احتمال مشاركتهما في البرلمان البولندي· والذي يجب قوله هنا إن هذه النتيجة جاءت فألاً وخيراً للبولنديين ولأوروبا بوجه عام، والسبب أنها وفرت لنزعة الخوف المتوارث من الجارة ألمانيا، والسائدة في أوساط المجتمع البولندي، فرصة للمشاركة في إدارة دفة البلاد هذه المرة، وكانت هذه النزعة قد استغلت أبشع استغلال خلال السنتين الماضيتين· غير أن أغلبية بولندية ناخبة جهرت بصوتها مؤخراً وعبر انتخابات حرة نزيهة، لتعبر عن رفضها العلني لبولندا التوأمين، ولتقول صراحة إن هذه هي ليست بولندا التي حلم بها الشعب، وإنه لا بد لها من أن تتحول لتكون أكثر حداثة وليبرالية وأوروبية وغربية· والمؤسف أن تلك الفوضى التي أحدثها التوأمان ''كازانسكي'' لم تقتصر تأثيراتها السالبة عليهما وحدهما، وإنما ألقت بظلالها الوخيمة على البلاد كلها، ناثرة فيها سموم الحزبية البغيضة وآفة الفساد، ولذلك فإن من أوجب واجبات الحكومة الجديدة تطبيق تجربة الحكم الرشيد القائم على سيادة القانون للمرة الأولى في بولندا ما بعد الحرب الباردة· وترتبط بالقصة البولندية هذه، حقيقة عجزها المستمر طوال مرحلة ما بعد الحرب الباردة عن ترسيخ التجربة الحزبية الواسعة، سواء كانت في يسار الوسط أم في يمينه، وبالنتيجة، اتسمت التجربة الحزبية البولندية خلال الفترة المذكورة بميلاد واختفاء الأحزاب سريعاً مثل ما ينتهي لقاء غرامي عابر بأي عاشقين مؤقتين· ففي لحظة ما خلال الفترة نفسها، بدا الشيوعيون السابقون وكأنهم الوعد الأكبر بميلاد حزب اشتراكي ديمقراطي حديث، إلا أنهم سرعان ما سقطوا في بركة من وحل الفضائح والفساد· كما عجزت هذه الدولة التي تغلب عليها الأغلبية المسيحية الكاثوليكية عن إنشاء أي حزب ديمقراطي اشتراكي فيها، على غرار جارتها القريبة ألمانيا، وبدلاً من ذلك دأبت الوجوه الحزبية القديمة نفسها على تكرار ظهورها تارة إثر الأخرى تحت مسميات ولافتات جديدة يتبدل معها ظهور الأحزاب، باستثناء حزب واحد حافظ على بقائه منذ عام 1989 ألا وهو ''حزب الفلاحين'' الذي تقتصر قاعدته الشعبية وتمثيله السياسي على الفلاحين وحدهم· غيــر أن ظاهـــرة التبـــدل السياســــي هـــذه لا تقـــف عند حدود بولندا وحدها، وإنما تشمل عدة دول شيوعية سابقة في منطقة شرق أوروبا، إلى جانـــب دول أخرى مجــاورة· ولنضرب لهذه الظاهرة مثلاً بإيطاليا التي شهدت هزة أرضية سياسية قوية في نظامها السياسي منذ نهاية الحرب البـــاردة، وحسبمــا واقـــع اليــوم، فليــس هنــاك وجود لأي من تلك الأحزاب السياسية التي جرى تمثيلها في مجلس النــواب الإيطالي في خريــف عـــام 1987؛ أمــا التجـارب الحزبية الراسخة في كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، حيث توطدت أقدام حزبين أو ثلاثة من أحزابها بصرف النظر عن الحركات والأحزاب السياسية الصغيرة التي تنشأ وتختفي، فهذه تبدو هنا في بولندا والكثير من الدول الشيوعية السابقة غيرها، أشبه برقصة لاتينية سلافية لا وجود لها إلا في التراث الشعبي الراسخ عند تلك الشعوب، مع الإشارة إلى أنه تراث غير قابل للتحول إلى الحقل السياسي البتة· والسؤال الرئيسي الذي نختتم به هو كيف لبولندا أن تنشئ اليوم ما لم يكن لها يوماً أصلاً؟ وبالمثل كيف يمكن ابتكار التجربة الحزبية الراسخة في حال انهيارها، على نحو ما حدث في إيطاليا؟ أستاذ العلاقات الدولية بجامعة أوكسفورد ينشر بترتيب خاص مع خدمة لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©