السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كم أنتَ مقدسٌ يا بيتَ الألواح!

كم أنتَ مقدسٌ يا بيتَ الألواح!
13 ابريل 2016 21:42
محمد الأسعد لم تتعرض مكتبتي للحرق أو النهب أو الطمر في قيعان الآبار، مثلما حدث لمكتبات شهيرة، بدءاً بمكتبة مملكة «إيبلا»، مكتبة الآلاف المؤلفة من الألواح في شمال غرب سوريا، في الألف الثالث ق.م، مروراً بمكتبة الإسكندرية (48 ق.م)، فمكتبة نوح الساماني في بخارى، فمكتبة الحكم المستنصر بالله في قرطبة في أوقات متقاربة من القرن العاشر الميلادي، فمكتبة قلعة «آلموت» الهائلة، وصولاً إلى مكتبة بغداد التي صبغ حبرها كما قيل مياه دجلة بالسواد (1256م- 1258م)، ولا تعرضت كتبي للحرق كما حدث مع كتب ابن رشد حين غضب عليه الخليفة الموحدي يوسف بن تاشفين في سنة من سنوات القرن الثاني عشر في قرطبة، ولا أمسكت بي عصابة من الهمج وأنا عائد من محاضرة وسحلتني عارياً في الشوارع حتى تقطع جسدي مثلما فعلت عصابة مشابهة بمدرّسة الرياضيات والفلسفة الإسكندرانية «هيباثيا» في عام 415 م. لم يحدث شيء من هذا، إلا أن عدداً لا يستهان به من كتب مكتبتي المتواضعة (6 آلاف كتاب)، وبضعة تماثيل منها نسخة عن تمثال الشاعر السومري «جوديا»، تعرض في العام 1991 للإقامة في فناء بيت مكشوف مدة زمنية تصل إلى عقد من السنوات، معرضاً للمطر والريح والغبار وحرارة الشمس اللاهبة، لا تغطيه سوى قطعة خيش تتلاعب بها الريح، في وقت اتخذتُ فيه سمة الشريد مرغماً، أتنقل من بلد إلى آخر طلباً للأمن والأمان، لي ولزوجي ولطفليّ حاملي اسمين قدستهما حضارات غابرة. حدث هذا إثر الغزو العراقي للكويت، موطن إقامتي، حين لم يعد من مفر أمامي إلا الرحيل، فحتى النهارُ لم يعد آمناً، ولم تعد أحاديثُ ونقاشاتُ آلاف الأصدقاء، من روائيين وفلاسفة وشعراء وتشكيليين ومؤرخين وعلماء، تُسمع في أرجاء مكتبتي، بعد أن أصيبت الكتبُ بالصمتِ والذهول، وتحوّلت إلى آنيةٍ لا تصدر حتى الرنين. وظلّ مطرُ الشتاء يتساقط، ويتلوه قيظُ الصيف، فتتحوّل الأوراقُ الرطبة إلى جذاذاتٍ مهترئة. ويتذكر الشريدُ/‏‏الطفلُ، في مطارٍ غريب أو زاوية مقهى أو حجرة باردة، صوت أبيه يصله متغنياً بأبيات من تغريبة بني هلال، أو طالباً منه أن يقرأ له صفحات من كتاب لأن نظره لم يعد يسعفه، فيقرأ من دون أن يفقه معنى لما يقرأ، ولا يفسر له أبوه شيئاً، إلا أنه يتذكر الآن عبارة أو عبارتين اتضح له معناهما بعد سنوات طويلة، تقول العبارتان: «.. فوجدها مهرة لم تُركب، ودرّة لم تُثقب». ويعود بالذاكرة، فيتساءل إن كانت هاتان العبارتان من قصص ألف ليلة وليلة أو من كتاب آخر، ولماذا لم يبق في الذاكرة من ذلك الكتاب سوى هاتين العبارتين؟ مكتبات ليست للقراءة الكتبُ.. الكتبُ.. هو لا يذكر متى تحوّلت إلى عالمٍ ساحر يطلُّ عليه من آلاف النوافذ، فلا يفارقه في حل وترحال، يلفتُ نظره في أي بيت يزوره، وفي أي بيت مهجور ينقب في زواياه، وفي يد أي راكب أو راكبة قطار أو طائرة، أو في واجهة أي متجر يمرّ به. وحين يصادفُ رفيقَ مسكن، في كويت السبعينات، يعدّ رسالة جامعية يسأله قبل أن يعرف عنوان رسالته عن عدد مراجعه، ويستغرب حين يعرف أن صاحب الرسالة يستعد لنيل درجة دكتوراه بكتاب أو ثلاثة، بينما هو الذي لا يسعى إلى تقديم رسالة ولا نيل درجة، يمتلك مئات الكتب. وحين يدعوه صديقٌ تعرّف عليه حديثاً لزيارته، تلفت نظره رفوفٌ مزدانة بمجلداتٍ فاخرة لغتها إنجليزية فصحى، فيسأل: «هل قرأتَ كل هذه المجلدات؟» ويسمع أعجبَ جواب يحمل مفارقة فكهة: «قرأتها قديماً حين كانت لغتي الإنجليزية ممتازة.. أما الآن، فلم أعد أقرأها.. لغتي الإنجليزية صارت ضعيفة». فيقول بينه وبين نفسه: «ترى كم هو عدد سكان البيوت الفاخرة الذي يحتفظون بمكتبات لا يفقهون لغتها؟». ولن يجد الجواب إلا بعد سنوات حين يخبره نجارٌ سوريٌّ رحل عن عالمنا، كان يهوى كتابة الشعر الموزون المقفى ويكتب قصائد تمجّد حرب الأنصار، أن كثيرين من زبائنه يطلبون منه صناعة رفوفٍ مزخرفة ودمى خشبية على هيئة كتب، لها ما للكتب من سمات ومظاهر، تملأ هذه الرفوف. رفوف الأحياء المطرُ ما زال يتساقط، والغبار يدوّم، والأصيافُ تقلّب كتبهُ في فناء البيت المكشوف ذات اليمين وذات الشمال، وهو ممعنٌ في غربته، يتلقط كتاباً من هنا وهناك، ثم يرحل تاركاً ما تجمع في عهدة صديق من البحرين يعيش في جزيرة «قبرص» ويحب «السفلاكي» اليوناني، أي لفيفة «الكَص» باللهجة العراقية، و«الشاورما» باللهجة التركية (كل اللغات لهجات في عالمه الذي ستتحول فيه الكتب إلى أصدقاء يفضلهم على أصدقائه البشريين من أي فصيلة كانوا)، ويلاحقه عاشق «السفلاكي» كي يدفع أجرة شحن الكتب، فيدفع رغم شحة موارده، ولكن الكتبُ لا تصله كاملة تحت سماء «صوفيا»، بعضها تخلف لدى ذاك الصديق لسبب لم يعرفه حتى الآن. وتتذكر، وأنت بصدد إيجاد سبب منطقي غير عاطفي لولعكَ بالكتب والمكتبات، أن فيلسوفاً/‏‏ طبيباً يلقب بابن سينا، من سكان النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي، ترك كتابه «الشفاء» وراءه ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى، ولكن الشاعر والروائي الجميل، إدواردو غاليانو، من الأورواغوي، ومن سكان النصف الثاني من القرن العشرين، يقول إن ابن سينا ظلّ بعد وفاته بزمن طويل حياً يعتني بالمرضى. غاليانو على حق ما دام الإنسان هو «ما كتب»، هو «ما عمل»، فإن ظل كتابه ينفع الناس، فمعنى ذلك أنه حيٌّ فعلاً، لا قولاً فقط. إذاً، عليّ أن أحسب كم هو عدد الأحياء الذين يتزاحمون ويتدافعون الآن فوق رفوف مكتبتي، وكم كان عدد الأحياء الذين تعرضوا للبلل والغبار والريح وحرارة الصيف متلاصقين في انتظار عودتي، تحت قطعة الخيش، في فناء ذلك البيت، طيلة جمهرةٍ من أصيافٍ وشتاءات؟ أحد هؤلاء، صديقي «هولدرلن»، الشاعر الذي مررتُ ذات صيف بضفة نهر «النيكر» رفيق منزله في «لاوْفن» وطفولته وقصائده، أسمعه يقول ذات يوم من أيام منتصف القرن التاسع عشر مخاطباً جدته وأمه، معتذراً عن عدم استطاعته التحول إلى قسيس في قرية، ومدافعاً في الحقيقة عن جريه، من دون بيتٍ ولا منصبٍ خاليَ الوفاض غريباً في هذا العالم، وراء أشباحٍ لا معنى لها في نظرهما: «.. أدركُ إدراكاً عميقاً أن القضية التي أعيش لها قضية نبيلة، وأنها تعود بالشفاء على البشر حين تنتهي إلى تعبير وصياغة ملائمين». وأعود إلى كتاب «الشفاء»، فهناك ظل ابن سينا يعتني بصحة أجساد الناس بعد رحيله عن عالمنا بزمن طويل، وهنا يشتغل هولدرن على قضية لا تقل عن قضية ابن سينا نبلاً، أعني كتابة شعر «يعود على البشر بالشفاء». كلاهما يؤلف كتباً، الأول لشفاء الأجساد والثاني لشفاء الأرواح، فأي مهمة أكثر نبلاً من هاتين المهمتين؟ وأي معنى للقول أن هذين الكاتبين رحلا، ما دام بإمكاننا أن نلمح بعين البصيرة لا البصر ابن سينا قائماً بجوار سرير مريض، وهولدرلن يرتل نشيده على أسماعنا؟ كم أنت ساحرة أيتها المكتبات، وكم أنتَ مقدس يا «بيت الألواح» حين أطلق عليك البشر منذ فجر الحضارات في وادي الرافدين هذه التسمية! أليس لنا أن نسميكَ بعد كل هذه العصور.. «مرفأنا ومعبرنا إلى الخلود»؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©