الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كاتب في جبة قَاضٍ

كاتب في جبة قَاضٍ
22 ابريل 2009 23:16
الكتابة الإبداعية هي التي تمدّ الكاتب بالمقدرة على التطهّر من ضعفه وهشاشته ومنازلة عدمه الخاص. لأنها حركة انتقال من الواقع المعيشي المتناهي إلى عالم الكلمات اللامتناهي. تجسّد سيرة الكاتب الإيطالي جيانريكو كاروفيغلو هذا البعد التطهيري الذي تمدّ الكتابة به منتجها. يذكر كاروفيغلو أنه كان يصاب بالسعال الهستيري كلّما أحسّ بخطر ما أو كلّما خاف من شيء ما، سواء كان ذلك الخوف ناتجا عن اقتراب موعد الامتحانات المدرسية أو عن الخشية من عقاب عائلي أو عن مناقشة مع شخص مهمّ. يلحّ كاروفيغلو على أنه إنما تغلّب على هذه النوبات الهستيرية عندما شرع يمارس كتابة الرواية. حالما كتب رواية «العينان المغمضتان» التي نشرها سنة 2007 و»شاهد عن غير قصد» التي نشرت سنة 2008، لمع نجمه وأجمع النقاد على أنه من أهم كتاب الرواية البوليسية في العالم. لذلك تخطّف المترجمون أعماله فترجمت إلى أكثر من 13 لغة وبيع منها أكثر من مليوني نسخة. ولذلك أيضا تلقّفت القنوات التلفزيونية رواياته وتبارت في تحويلها إلى أفلام ومسلسلات. وتعدّ روايته الأخيرة التي نشرت هذا العام تحت عنوان «الماضي أرض أجنبية» رواية بوليسية بالتمام. لكنها تمضي إلى مناطق يختلط بموجبها التحليل النفسي مع الفلسفة. وتصبح الشخصيات والأحداث بمثابة تجسيد لتمزّق الكائن بين الشكّ والحقيقة، بين الحيرة واليقين، بين الرغبة في السعادة وقتل الفاقة واستحالة تأمين الغد الأفضل. والراجح أن كاروفيغلو يدين بلمعان نجمه وانتشار رواياته إلى مهنته. فهو قاضي تحقيق نذر على نفسه أن يواجه عصابات المافيا ويسهم في تفكيكها والإيقاع بزعمائها. لذلك جاءت أغلب شخصيات رواياته من عامة الناس الذين تعجّ بهم أروقة المحاكم في الأرض قاطبة سواء كانوا من المظومين أو من الجُناة (نساء منحرفات أو مطاردات، مهاجرين سرّيين أُلقِي عليهم القبض، بائعون جوّالون في مدن تسحق قاطنيها كالرّحى). تسطّر رواية «شاهد عن غير قصد» مثلا محنة بائع سينغالي جوّال يدعى عبدو ثيام يُتَّهم زُوراً بقتل صبي إيطالي. ويتولّى محام محبطٌ يائسٌ من الحياة الدفاعَ عنه. فتصبح الكتابة قائمة على حركتين: كشف لما يجري في أروقة المحاكم من مكائد وحيل ومغالطات، وكشف لما يعيشه محامي عبدو ثيام من عذابات وتمزقات نتيجة وعيه بأن مأساة مُوَكِّله عتبة مفتوحة على محنته الشخصية وما يعانيه من شكّ قاتل وإحباط مبيد وضجر من الحياة. وسرعان ما تقوده تأملاته إلى التسليم بأنه في حضرة محنة الكائن عبر التاريخ. لكأن جيانريكو كاروفيغلو الذي يحترف مهنة قاضي التحقيق هو الذي يطرح الحكايات والشخصيات والوقائع ويقوم جيانريكو كاروفيغلو الكاتب بصياغتها. لهذا كله صارت الكتابة لدى جيانريكو كاروفيغلو عبارة عن كشف لما يجري في أشد مناطق النفس البشرية عتمة. تلك المناطق الجحيمية التي تقبع فيها ميولات الإنسان إلى الشرّ وافتتانه بالانحراف والجريمة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©