الجمعة 10 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من الريف الى السوربون الى مشيخة الأزهر

من الريف الى السوربون الى مشيخة الأزهر
2 أكتوبر 2007 22:27
حياة الإمام الأكبر الدكتور عبدالحليم محمود شيخ الأزهر الراحل رحلة طويلة من الجد والدأب والالتزام والتحصيل المتواصل· ولد عام 1910 بعزبة جده ''أبو أحمد'' التابعة لمدينة بلبيس محافظة الشرقية، وحفظ القرآن الكريم وهو دون التاسعة من عمره، وقضى طفولته وشطرا من شبابه دارسا مجدا في الازهر الشريف، وحصل على ''عالميته'' عام ،1932 وكان المأمول بالنسبة لوالده ان يعمل مدرسا في معاهد الازهر، ولكنه آثر خوض مغامرة السفر الى فرنسا لمواصلة تحصيل العلم، وحصل على الدكتوراه في التصوف الاسلامي في جامعة ''السوربون''، وبعدما عاد الى مصر وتدرج في عدة مناصب منها ''عمادة'' كلية اصول الدين و''أمانة'' مجمع البحوث الاسلامية و''وكالة'' الأزهر ثم وزيرا للأوقاف عام ·1970 وتولى د· عبدالحليم محمود مشيخة الازهر عام 1973 في نهاية فترة بالغة الحرج من تاريخ الجامع العتيق ومشيخته، فاندفاع قادة ثورة يوليو وراء شعارات العلم والتحديث جار على الازهر وقلص كثيرا من سلطاته ومكانته وألغى مجلس علمائه، فبمجرد أن تولى د· عبدالحليم مشيخة الازهر فوجئ بصدور قرار جمهوري يجرده من المزيد من السلطات ويسلم مشيخة الازهر لوزير الاوقاف، فما كان منه إلا ان قدم استقالته على الفور، وتوقف عن مباشرة عمله واستلام راتبه، وأحدثت استقالته ردود فعل واسعة في العالم العربي، وتقدم أحد المحامين بدعوى لوقف القرار ورفع دعوى حسبة ضد وزير الاوقاف باعتباره الجهة التي أصدرته، وأمام التهاب الموقف وازدياد ردود الفعل العربية والاسلامية المساندة للإمام ألغي القرار، وعاد د· عبدالحليم محمود لمشيخة الازهر· طفل متوسط د· عبد الحليم نشأ في أسرة ميسورة الحال، تنسب من الطرفين لسيدنا الحسين -رضي الله عنه، ووالده كان من أعيان الريف وله مكانة وعزوة في قومه، وقضى سنوات دارسا في الازهر، وكان ضمن أساتذته الامام محمد عبده، ولكنه لم يواصل الدراسة بالازهر وعاد الى عزبة والده لرعاية أراضيه، والدكتور عبدالحليم ابنه الاول الحي، المنقذ، الذي جاء بعد بنتين وولد مات في المهد لأسرة ريفية ترى في إنجاب الذكور عزا وجاها ومكانة، وكان د· عبدالحليم طفلا عفيا، صحيح الجسم والحواس، ولكنه كان متوسط الذكاء، د· عبدالحليم نفسه قال انه كان متوسط الذكاء، وقال أيضا ''لست حاد الذكاء وأعاني عجزا يكاد يكون تاما عن الفهم في الوقت المناسب''، وهذا جعله صيدا سهلا لمكر ومؤامرات خصومه طوال عمره· غير أن د· عبدالحليم عاش طفولة منعّمة، وكان يقضي الصيف بكامله قارئا ومتأملا ولاعبا تحت الاشجار الوارفة وسط المياه المترقرقة والطبيعة الخلابة في عزبة جده، وشنف آذانه منشدو وقراء السهرات الرمضانية التي كان يقيمها والده في الدوار سنويا، ودرس في ''الكتّاب'' حتى حفظ القرآن الكريم وهو دون التاسعة من عمره، ثم التحق بالازهر الشريف ودرس في معاهده بالقاهرة والزقازيق حتى حصل على ''عالميته''، وصادف التحاقه بالازهر صداما عنيفا بين طلبة الازهر وحكومة الزعيم سعد زغلول، ونفذ الطلبة اضرابا شاملا عن الدراسة اعتراضا على قرارات حكومة الزعيم العائد من المنفى، وأرسل سعد زغلول رفيقه ووزيره ابراهيم عبد الهادي نائبا عنه للتفاوض مع الطلبة لإنهاء الاضراب، وكان استقباله مهيبا وصعد على منبر الازهر وخطب خطبة بليغة ورد عليه الطلبة بأبلغ منها، وكان يوما مشهودا، ولكن الطالب عبدالحليم كان بعيدا عن كل ذلك، كان يتابعه من بعيد ويعود مسرعا الى دروسه، كان نموذجا للطالب الريفي الذي جاء لمهمة محددة ويسعى الى انجازها في أقل وقت ليعود مسرعا الى أهله وذويه، وبينما كانت مصر كلها، وعلى رأسها طلبة الازهر، تستقبل سعد زغلول من منفاه كان التلميذ عبدالحليم منكبا على حفظ ''ألفية ابن مالك''، وبينما كان طلبة الازهر يواصلون اضرابهم الشهير عن الدراسة كان زميلهم عبد الحليم يتلقى من والده النبأ السار بضرورة تزويجه حتى يتفرغ نهائيا للعلم والتحصيل، في ذلك الوقت كان د· عبد الحليم في الثالثة عشرة من عمره، وزاره والده في الازهر الشريف وعرض عليه موضوع الزواج، ولحداثة سنه فرح جدا لان ''الزواج عصمة وعفة''، وترك لوالده حرية الاختيار، وقال له: الامر متروك لك وللوالدة، وما هي إلا أيام حتى جاءت البشارة، رسالة برقية من والده تحثه على سرعة العودة للعزبة لأمر مهم، وهناك وجد العروس الموعودة في انتظاره وعقد القران وزف الى عروسه على حصان ابيض طاف به كل بيوت العزبة· فرنسا د· عبدالحليم حصل على عالمية الازهر وهو في الثانية والعشرين من عمره، وكان آخر آمال والده أن يعمل مدرسا في المعاهد الازهرية، ولكنه فضل خوض مغامرة السفر الى فرنسا لمواصلة الدراسة، وسافر الى مرسيليا، وبمجرد ان غادر الباخرة انبهر بالسرعة والنظافة والنظام والعمل الجاد المخلص، وقال ''رأيت السرعة في كل اتجاه، ونشاط الحركة في كل ناحية'' وأخذه الانبهار الى الريبة والشك والحيرة· ولكنه سرعان ما عاد الى قواعده سالما الى تراثه وثقافته ووجد في حياة أسلافه اصولا للنظافة والسرعة والاخلاص والدقة والحضارة بالمعنى الحقيقي، وكرر مقولة استاذه الامام محمد عبده ''ذهبت الى أوروبا فوجدت اسلاما ولم أجد مسلمين'' ولكن بصياغة أكثر وضوحا ومثالية، قال ''هناك الاسلام الحقيقي وهناك المسلمون المثاليون''، واستراح لهذه القناعة، وأحس انه عرف المجتمع الفرنسي بما يكفي للحذر منه· وعاد د· عبدالحليم الى مصر بعد انتهاء الحرب، واشتغل مدرسا لعلم النفس في كلية اللغة العربية، وشغل عددا من المناصب كان آخرها مشيخة الازهر التي تولاها حتى رحل عام ،1978 وكان طوال حياته خطيبا مفوها له صوت رخيم رخو وقدرة على جذب الاسماع، كما كان مشهورا بالتشدد والصراحة المطلقة، وحينما تولى الوزارة ثم مشيخة الازهر نصحه موظفوه بشيء من السرية المناسبة لضرورات المنصب، ولكنه رفض، والصراحة والتشدد جرتا عليه معارك كثيرة، ومن اكثر دعواته تشددا مطالبته صراحة بمنع الفتيات من مواصلة الدراسة في أوروبا، وهو الرأي الذي ظل متمسكا به حتى رحل، ووصل به الامر لدرجة انه اعلنه كبيان للأمة، كما خاض الدكتور عبدالحليم معارك مريرة مع بعض رواد الصحافة المصرية خصوصا من الادباء الذين كان يرى في أعمالهم انحلالا وتشبها بالغرب وخروجا على الاخلاق، وكان يقول ''هؤلاء الكتاب مثلهم في الوطن كمثل الميكروب الخبيث، بل ان خطرهم أشد، وكما تحاسب الدولة الميكروب فتقضي عليه بالوسائل المناسبة فكذلك الأمر بالنسبة لهؤلاء الكتاب''·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©