الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عين الاستشراق ولسانه··

28 سبتمبر 2007 22:57
كثيراً ما تأخذني العقائد والطقوس والنصوص الأدبية والأساطير إلى النصوص الدينية القديمة للبحث فيها وتتبع ما يمكن ملاحقته من أصول تشير إلى ما أنتجته الحضارات الشرقية القديمة كالعراقية والمصرية والسورية وهو كثير للغاية· هذا المجال الحواري بين الديانات والحضارات ندرك أسبابه وتأثيراته ونتعامل معه بروح ايجابية، تسعى لتكريس مبدأ الحوار مع الآخر وليس الصراع وإياه، لكنه الآخر هو الذي اخترع الشرق من أجل أن يتعامل معه بوصفه شرقاً ويحدد أوصافاً له ويمثله· ومعروف أن للآخر فضل التنقيب عن التاريخ أركيولوجياً والكشف عن بقاياه ومدوَّناته وقراءتها، والتحفظ على النتائج والانتقاء بترجمة القليل المساعد لهم والإبقاء على القسم الأكبر من التراث والاحتفاظ به لديهم، وخصوصا النصوص الكبرى ''الأم'' التي صاغت مجالاً مهماً وحيوياً من قداسة الغرب الممثل له بالتوراة· كان الكشف الأركيولوجي لجورج سميث عام 1875 في نينوى ''الموصل'' مهماً ومسجلاً لبداية جديدة، حيث أعلن سميث أن الطوفان التوراتي هو طوفان نوح العراقي ''أوتو ـ نيشتم''، ولم يعد بالإمكان الصمت، ولكن أمام ما لم يكن ممكناً الصمت عليه والتغافل عن الكثير من عناصر الثقافة والدين في الحضارات التي أشرنا إليها وأنتج هذا الموقف الذي ينم عن خطاب السيطرة والإخضاع والتكتم عن امتدادات تلك الحضارات، أنهم يفهمونه صراعاً وليس بوصفه إرثاً إنسانياً مشاعاً وعاماً، لقد تشكل بعد عقود درساً آخر تعامل مع التوراة لا بوصفها كتاباً مقدساً أو مدونات تاريخية، بل باعتبارها نصوصا بالإمكان قراءتها والتحاور معها· أريد الإشارة للاستشراق ولعلاقته مع التراث الضخم الذي أنتجته حضارات الشرق وحصراً العراقية والكنعانية والسورية، والذي لعب دوراً بارزاً في التأثير بفعل المجاورة أو الانتقال، وهذا ينطوي على أهمية واضحة لذلك المنجز الذي تحول من خاصية وطنية إلى صفة إنسانية شاملة، لأن الحضارات الحية شاملة وليست محددة بجغرافية معروفة وضيقة جداً· وعلى الرغم من تكتم الكثير من المستشرقين على المساحة الواسعة للتحاور بين الشرق والغرب، وانعكاس ذلك واضحاً على الأسفار التوراتية، لكن اللسان ظل مقطوعاً ولم يقل الحقيقة المرتبطة بالثقافة والأدب والعلوم الإنسانية، ولكن حتى لا تكون تهمة اللسان المقطوع عامة وشاملة، وجدنا رأياً هنا وآخر هناك عن التأثير العراقي أو المصري الكنعاني في الأسفار التوراتية· لكن هذا الإيحاء الخجول لا يكشف عن موضوعية الآخر· ولم يكن الشرق منغلقاً، بل تميز بالانفتاح والقدرة على التحاور، وهذا ما كشفت عنه الأسفار التوراتية الخمسة والتي هي ترحيل شبه كامل للأنساق الثقافية العراقية والكنعانية المصرية، وهذا يعرفه المتلقي لحظة قراءة الأسفار، وعلى سبيل المثال النص الملحمي المعروف بملحمة جلجامش والتي هي أول ملحمة في التاريخ وسبقت الإلياذة والملاحم الهندية بأكثر من ألف سنة· هذه الملحمة أثرت في التوراة وارتحلت إليها واستطاعت عبر بحث ثقافي التوصل إلى التبادل الحواري أو التناص، لأن البنية الذهنية للقبائل الرعوية لم تكن قادرة على الانغلاق أمام قوة الملحمة وما تضمنته من ابتكار وأنظمة ثقافية وجديدة، وإن دلّ هذا على شيء، فإنه يؤكد المكونات الإنسانية وعناصرها الدالة عليها ثقافياً ـ دينياً، واستعدادها مغادرة محيطها المحدود إلى محيط أوسع، وهذا ما تحقق مع الملحمة التي انتقلت إلى بلدان الشرق العديدة، فلسطين ومصر· وتوصل البحث إلى إشارات مهمة دالة على التحاور، الذي لم يكن هكذا ومثلما نتعامل معه، بل كان سطواً واختلاساً وتعتيماً عليه لكن الكهنة لم يستطيعوا تغييب الروح الشرقية المذوًبة في إسفارهم· واللسان الاستشراقي المقطوع الخجول من الإشارة إلى الحقائق الاتصالية المميزة للحضارات الإنسانية، لأنه غير قادر على التصريح بذلك ولسبب بسيط وينطوي على رغبة لتغييب الشرق الذي اخترعه كي يهمشه وليس منطقياً أن يعترف الغرب بشرق قادر على التأثير بالآخر· ينطوي صمت الاستشراق على قبول بالذي حصل وحققه هو، وقناعة تامة بتغييب الحوار التبادلي، لأن الشرق لا يستحق أن يكون طرفاً في الاتصال أو التبادل الحواري، ذلك لأنه لا يعني سوى كونه هامشاً· هذا بالإضافة إلى موقف آخر مرتبط بالتوراة، وهذا هو الأهم لأن التوراة هي التراث الثقافي الروحي الوحيد للقبائل الرعوية، ويمثل مدوّنات ''الإله يهوه'' الذي تسلل لمحيط الحضارات والديانات الشرقية المعروفة، وسرق ما يريد منها، كما أن الاستشراق لا يريد زعزعة القناعات الروحية بخصوصية التوراة وتفرُّده عن غيره من الكتب المقدسة، ولكنهم وقعوا في هاوية التخندق الأعمى، وتناسوا بأن الحضارات أو التشكلات الثقافية والدينية، كلما تسيَّجت تضاءلت وانطفأ بريقها، وهو توصل إلى ذلك العالم الانثربولوجي ليفي شتراوس الذي قال: ضعف الحضارات الصغيرة ناتج عن عزلتها· ولا بد من الإشارة إلى المحاولات الموضوعية العديدة التي شكلت تياراً فكرياً جديداً في الدرس التوراتي، ووضوح ممتاز لعدد من القراءات التاريخية الملفتة للانتباه مثل كيت وايتلام، وتوماس طومسن، وبرنال، وغيرهم، الذين قدموا كشوفاً مهمة ومنصفة للحضارات الشرقية، ولعل كتاب برنال ''أثينا السوداء'' أكثر الإنجازات الغربية إثارة للانتباه والموضوعية التي تمتع بها في كشف تأثيرات الحضارة المصرية الكثيرة جداً في مجال العقائد والطقوس والشعائر على الحضارة الإغريقية· ويمكن التعامل مع هذا الكتاب باعتباره مرجعاً مركزياً في دراسة العلاقة الثنائية بين الشرق والغرب، ويجب أن تكون علاقة متكافئة يعترف كل طرف فيها بدور الآخر وأهمية منجزه، لأن الحضارة سيرورة متحرِّكة وليست ثابتة، ولا يمكن الانغلاق على المنجزات الحضارية، إنما التعامل معها بوصفها مجموعة من الانجازات الإنسانية القادرة على الانتقال بوصفها إرثاً للجميع وتترسَّخ في الأماكن التي تمر بها كما قال ابن خلدون·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©