الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

فينيسيا.. أميرة فاتنة تداعب الجمال وتقرأ شاعرية الأمكنة

فينيسيا.. أميرة فاتنة تداعب الجمال وتقرأ شاعرية الأمكنة
28 سبتمبر 2007 00:18
هنا، في مطار ماركو بولو الدولي، حطَّت طائرتنا لتبدأ معها رحلة ألف ليلة وليلة، ونحن على موعد لمشاهدة جوهرة فريدة من نوعها تدعى ''فينيسيا'' أو ''البندقية''، أو دعوني أطلق عليها اسم ''الأميرة المقنعة''، والتي سجنت في جزيرة تحيطها البحار من جميع الجهات كما زعم أخي الذي يرافقني في روايته الأسطورية والتي قصها عليَّ ونحن في الطائرة، في محاولة ناجحة منه للتخفيف من عناء السفر إلى هذه المدينة/ الأميرة التي يقصدها السياح من كل أنحاء العالم للتمتُّع بجمالها ورونقها الساحر وسماع قصصها وأشعارها في جوٍّ رومانسي خلاب· في أثناء توجهنا إلى البندقية رسمتُ في داخلي علامات استفهام عديدة وأنا أراها عن بُعد، وكيف لي وأنا سمعتُ عنها الكثير من الأساطير التي تتحدَّث عن جمالها وفتنتها التي تكمن في قناعها الذي ترتدي ليلاً فيمنحها غموضاً وسحراً· ماذا تأكل هذه الأميرة؟ وكيف هو لباسها؟ وكيف تقضي أيامها في قصر بُني على الماء وليس التراب؟ كان لابد لي من سماع المرشد السياحي لعليَّ أجدُ الأجوبة التي أبحث عنها؛ إذ بدأ حديثه باستعراض تاريخ البندقية بقوله: البندقية أو فينيسيا عاصمة إقليم فينيتو الواقعة في شمال شرق إيطاليا· ويقدر عدد سكانها بـ ''''271 ألف نسمة· والمدينة عبارة عن جزر عدَّة متصلة ببعضها عن طريق جسور، وتطل على البحر الأدرياتيكي· كما أنها تعتبر من أهم المدن الإيطالية، بل ومن أكثر المدن جمالاً في إيطاليا لما تتمتَّع به من وجود مبان تاريخية يعود أغلبها إلى عصر النهضة، ووجود قنواتها المائية المتعدِّدة ما يجعلها فريدة من نوعها على مستوى العالم· حتى الآن لم يذكر المرشد السياحي شيئاً عن الأميرة المقنعة، ولم أرجع لسؤال أخي الذي انشغل بتصوير المناظر الخلابة، ولكني أطلقتُ العنان لمخيلتي في رسم ملامحها، خصوصاً وأن المناخ المحيط بي يلزمني أن أكون صاحبة خيال واسع؛ فالهواء العليل ينعش القلب، والأمواج التي كانت تسحب القارب إلى المدينة وكأنها تعرف طريقها الذي رسمه البحّارة أو أصحاب القوارب بتنظيم رائع؛ فقد قاموا بصنع طريقين أحدهما للذهاب والآخر للعودة، ولا يمكن تجاوز هذين المسارين؛ إذ تم تحديد الطريق بأعمدة خشبية لا أدري حتى الآن كيف تقاوم الماء؟ علامات الدهشة بدأنا نقترب من فينيسيا، وبدأت الجسور تلوح أمام الناظرين على هيئة أقواس تتوسَّطها مياه ضحلة، وبدأتُ بترتيب أمتعتي الكبيرة التي أخذت حيزاً كبيراً في القارب، وتحت وطأة تأنيب أخي لي بقوله: اعتقدُ إنكِ نسيتي أن تأخذي ما أسماه بـ ''الجدور'' أو أواني الطبخ· يا أختي أنت في أوروبا لا في رحلة بر! لم آبه كثيراً بما فقال؛ فالشعب الإيطالي مضياف، ويقدِّم المساعدة للجميع· وبالفعل ذهب العديد من الرفاق لحمل أمتعتي دون مقابل، ودون أن أقوم بسؤالهم فقط بالإشارة· نعم إنهم يستخدمون لغة الإشارة وبجدارة، ولكن حذار من استخدامها دون تعلمها· هدوء ورهبة وغموض اعتراني أول ما وطأت قدماي أرض فينيسيا، فبدأتُ أنظر حولي وعلامات الدهشة تسكنني؛ وتساءلتُ: يا إلهي كيف غمرت المياه أرض المدينة فأصبحت أرضهم المياه، وكيف لهذه البنايات أن تصمد في وجه المياه، هل هو الطوفان بعينه؟؟ وما هذه القوارب التي تُدعى ''الجندول'' وكأنها أصبحت ''أتوبيسا نهريا''، ووسيلة نقل معتمدة لدى السكان والزائرين؟ بدوت مصابة بالصداع من كثرة الدهشة؛ فلا أعرف إلى ماذا أنظر؟ والأدهى أن كل من كان معنا منشغل بالتصوير، ولا ألومهم فحقاً إنها مدينه تستحق التصوير والرسم بل والشعر أيضاً، لذلك ها أنا أكتب عنها، وليتني كنتُ شاعرةً لأصفها بالجمال الذي سكنها، أو رسامة فارسمها باللون الأزرق الذي يصبغها، أو ليتني كنتُ مخرجة سينمائية فأنتج عنها فيلماً أسطورياً تدور أحداثه في ساحة فينيسيا، خصوصاً عند مبنى ضخم مطلي باللون الأبيض يسمى بالإيطالية ''الفيتوريانو'' أو ''نصب النصر التذكاري''، الذي شُيد بمناسبة اتحاد إيطاليا، والذي استغرق بناؤه ستة وعشرين سنة·يتوسط مدخل هذا البناء الأبيض سُلَّم واسع عريض يفضي بالزائر إلى فسحة يوجد في وسطها تمثال روما ويوجد تحته قبر ''الجندي المجهول'' منذ 1921 والذي، ربما، كان أحد ضحايا الأميرة المقنعة، كما تمكن ملاحظة نصب التمثال الكبير للملك ''فيتوريو إيمانويلي الثاني''·وفي الدور العلوي والأخير من هذا البناء الأبيض، يوجد ستة عشر عموداً في الوسط، وعمودان على كل جانب، وفوق كل منها توجد تماثيل للنصر مزينة بالأجنحة· هذا البناء الفيتوريانو الأبيض الضخم، يشرف على ''ميدان فينيسيا'' الذي تتفرَّع منه أهم شوارع العاصمة التجارية، وينتهي، هذا الشارع التجاري، في ''ميدان بياتسا دل بوبولو''، أي ''ميدان الشعب'' الذي هو مكان رائع وخصب لإنتاج الأفلام السينمائية· قناع جدتي بدأت جولتنا حول المدينة بركوب القارب ''الجندول'' الذي مرَّ بنا عبر الآثار المعمارية الصامدة في وجه المياه، وبدأ المرشد السياحي في أخذ دوره في الحديث: ''من أهم معالم هذه المدينة ''كنيسة القديس ماركو'' بقبابها الخمس الشرقية الطابع، وببرجها الذي يبلغ ارتفاعه 100 متر، والذي من يتمكَّن من يصعد إليه من مشاهدة منظر خلاب للمدينة''· ومن هنا كانت الأميرة تراقب جميع السكان، ولكن من دون إمكانية الوصول إليها· هناك العشرات من الجسور تصل المدينة ببعضها، ولعل أشهرها ''جسر ريالتو''، و''جسر الآهات القديم''، وهناك العديد من القصور الجميلة التي تستحق الزيارة، ومنها ''قصر غراسي''، و''قصر غريماني''، وعلى مدار العام هناك معارض فنية عالمية، منها ما يقام سنوياً، مثل ''معرض البندقية العالمي للسينما''، ناهيك عن الجزر المهمة في المدينة وأشهرها ''جزيرة مورانو'' التي تشتهر بصناعة الزجاج الفني الفاخر· أما إذا زرتم المدينة في موسم العيد التنكري ''الكرنفال''، أي في شهر شباط/ فبراير من كل عام، فسوف يستحوذ على انتباهكم آلاف الأشخاص المتنكِّرين بأقنعة وبملابس تقليدية من كل الأشكال والألوان· عند عودتنا إلى الفندق، رأيتُ امرأة ترتدي برقعاً أسود يكادُ يخفي معظم ملامحها وأميز ما يميزها عينان زرقاوان لهما سحر بديع يفيض على أهدابه الغموض والرهبة وكأنها قادمة من الصحراء العربية، كيف ذلك؟ لا أعلم؛ فقد خُيل إليَّ في البداية إنها جدتي، ولكن بعينين زرقاوين! ولم لا، وأنا في بلاد الأساطير!، ثم اعتلاني شعور بأنها هي من أبحثُ عنها، أي ''الأميرة المقنعة''· اقتربتُ منها أكثر لعلي أجد أجوبة، وإذا بها تمثال يرتدي قناعاً يشبه البرقع فعلاً· وبالفعل هي الصورة الوحيدة التي قمتُ أنا بتصوريها بعدستي الخاصة وكأنها جدتي وهي تقبع في ساحة ''فندق ريالتو''، وتلبس البرقع الأسود· حكاية من ألف ليلة وليلة عشتها في فينيسيا تلك المدينة التي سيبقى التاريخ شاهداً على مر العصور بأن الآثار العربية ''البراقع العربية'' باقية لا محالة· أخيراً، بلذَّة غاضة، وبفضول أحمق، سألتُ مضيف الطيران في طريق العودة: هل شاهدت أو سمعت عن الأميرة المقنعة؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©