الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحرص والزهد

23 سبتمبر 2007 22:57
اعلم يا أخي -أيدك الله وإيانا بروح منه- أنك إن أنعمت النظر بعقلك، وجودت الفكر برويتك، وتأملت أمور الدنيا، واعتبرت تصاريف أحوال الناس، تبينت وعرفت أن أكثر الشرور التي تجري بين الناس إنما سببها شدة الرغبة في الدنيا، والحرص على طلب شهواتها ولذاتها ورياستها، وتمني الخلود فيها· وإذا تأملت واعتبرت وجدت أُسَّ كل خير وأصل كل فضيلة الزهد في الدنيا وقلة الرغبة في شهواتها ونعيمها ولذاتها، والرغبة في الآخرة، وكثرة ذكر المعاد في آناء الليل وأطراف النهار، والاستعداد للرحلة إليها· وأعلم يا أخي -أيدك الله وإيانا بروح منه- أن الخلق كلهم عبيد الله وأهل طاعته طوعاً أو كرهاً، ولكن منهم خاص وعام، وما بينهما طبقات متفاوتة الدرجات، فأول الخواص هم العقلاء الذين توجه نحوهم الخطاب بالأمر والنهي والوعد والوعيد والمدح والذم والترغيب والترهيب؛ ثم إن الله تعالى بواجب حكمته رفع قدر المؤمنين على سائر العقلاء، وهم المقرون والقابلون أوامره ونواهيه، المنقادون لطاعته فيما رسم لهم في أحكام النواميس وموجبات العقول، التاركون لما نهوا عنه سراً وعلانية· ثم إن الله- سبحانه- رفع من المؤمنين المقرين المخلصين، واصطفى منهم طائفة وفضلهم على غيرهم، وهم العلماء والفقهاء الذين اجتهدوا في تعلم أوامر الناموس ونواهيه وأحكامه وحدوده وشرائطه بواجبها، كما ذكر الله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين آوتوا العلم درجات···) (المجادلة:11)· ثم إن الله- جل اسمه- رفع من جملة العلماء طائفة، وهم التائبون العابدون الصالحون الورعون المتقون المحسنون بما استحقوا باجتهادهم من القيام بواجبات أحكام الناموس، درجات، كما ذكر الله- عز وجل- بقوله: (أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوالألباب) (الزمر:9)، وقال تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع···) (السجدة:16)، وآيات كثيرة في القرآن في ذكر هؤلاء ومدحهم وحسن الثناء عليهم· ثم إن الله- جل ثناؤه- رفع من هؤلاء طائفة في الدرجات، وهم الزاهدون في الدنيا، العارفون عيوبها، الراغبون في الآخرة، المحققون بها، الراسخون في علمها، وهم أولياء الله المخلصون، وعباده المؤمنون، وصفوته من خلقه أجمعين، الذين سماهم الباري تعالى أولي الألباب، وأولي الأبصار، وأولي النهى، وأخلصهم بخالصة ذكرى الدار التي هي الحيوان؛ وإليهم أشار بقوله سبحانه: (وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) (ص:47) وقوله: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان···) (الحجر:43)، وآيات كثيرة في القرآن في ذكرهم ومدحهم وحسن الثناء عليهم· وأعلم يا أخي -أيدك الله وإيانا بروح منه- أن للمؤمنين فضائلَ كثيرةً من محاسن الأخلاق ومكارم الأفعال وفضائل الأعمال وجميل الفعال؛ لا يمكن أن تجمع كلها في شخص واحد، بل في عدة أشخاص، فمقل ومكثر، ولكن ليس بعد العلم والإيمان خصلة للمؤمنين، ولا خلق من أخلاق الكرام أشرف ولا أجل ولا أفضل من الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، وذلك أن الزهد في الدنيا، إنما هو ترك فضول متاع الحياة الدنيا وترك طلب شهواتها، والرضى بالقليل، والقناعة باليسير من الذي لابد منه، وهذه خصلة تتبعها خصال كثيرة من محاسن الأخلاق وفضائل الأعمال وجميل الأفعال· وضد الزهد هو الرغبة في الدنيا والحرص في طلب شهواتها، وهي خصلة تتبعها أخلاق ردية وأفعال قبيحة وأعمال سيئة، كما تقدم ذكره، وذلك أن من خصال الزُّهَّاد وشعارهم قلة الأكل وترك الشهوات، وفي قلة الأكل وترك الشهوات خصالٌ محمودةٌ كثيرةٌ، ومناقب حسنة جميلة، فمنها ما روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ''أجيعوا أنفسكم تفرح بكم سكان السماء''، ومنها أن الإنسان يكون أصح جسماً، وأجود حفظاً، وأزكى فهماً، وأجلى قلباً، وأقل نوماً، وأصدق رؤياً، وأخف نفساً، وأحد بصراً، وألطف فكراً، وأصغى سمعاً، وأصح حساً، وأثبت رأياً، وأقبل للعلم، وأسرع حركة، وأسلم طبيعة، وأقل مؤنة، وأوسع مواساة، وأكرم خلقاً، وأثبت صحبة، وأحلى في القلوب· وقلة الأكل، إذا ساعدته القناعة، كان مزرعة الفكر، وينبوع الحكمة، وحياة الفطنة، ومصباح القلب، وطبيب البدن، وقاتل الشهوات، وهادم الوسواس، ومنزل الإلهام، وعصمة من شر النفس، وأماناً من شدة الحساب؛ والشكر له تابع، وكفر النعمة عنه زائل·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©