الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

هاني نقشبندي يرسم منظوراً مزدوجاً يتقاطع في سرده

هاني نقشبندي يرسم منظوراً مزدوجاً يتقاطع في سرده
9 سبتمبر 2007 22:26
كاتب وروائي سعودي في العقد الرابع من عمره، تمرس بالعمل الصحفي في كبرى المؤسسات، بما منحه خبرة بالحياة خارج وطنه، وقدرة على رؤية وفهم ونقد ما يحدث داخله، لكنه آثر في مطلع نضجه الفكري أن يتفرع للكتابة الإبداعية حتى يتحرر جذريا من ضغوط الرقابة الذاتية والمهنية، ويتمكن من إطلاق العنان لجسارته فى إعادة تخيل الواقع الذي يعرفه وتمثيله فنياً ولعل مهنة الصحافة أن تكون الحاضنة الحقيقية الضرورية لتعرية أعصاب المجتمع بأشعتها تحت الحمراء؛ فهي التي تتجمع لديها بؤرة الوقائع وأسرار الحياة، وهي التى تتعرض في دولنا السلطوية لأعلى درجة من توتر الكتمان وتمزق النسيج التقليدى المحافظ، ومنها تنطلق عادة موجات التغيير التدريجى للأبنية الثقافية والمجتمعية، ويبدو أن هاني النقشبندي سيلعب في تاريخ الرواية السعودية دوراً مماثلا لما قام به إحسان عبد القدوس في مصر، فأقصى ما استطاع الروائيون قبله هناك أن يعبروا عن حريتهم الشخصية خارج الحدود، وأقصى ما استطاعت الكاتبات فعله ـ على ضجيجهن وما أثرنه من زوابع ـ أن يتمتمن بطرف من هذيان الكتب والقمع المفروض عليهن، أما أن يعتصر الكاتب فورة الثورة على التقاليد الكابحة، ويجسد المسكوت عنه في ضمير النساء والرجال فهذا ما لم يجرؤ أحد على اقترافه بهذه الصراحة، وإذا كان إحسان عبد القدوس عند منتصف القرن الماضي قد سبقه عصر كامل من النهضة والتحرر في السياسة والثقافة وحركة المجتمع جعل صنيعه ينخرط في المد الثوري الذي ساهم في تشكيله على الأصعدة المختلفة، فإن هذا الشاب السعودى الجريء قد سبقته تجربة الأدب العربي برمتها تعززها موجات العولمة الكاسحة، ومعطيات التقدم الرقمي التي نسفت حوائط البيوت وأسرار المدن واللغات والثقافات، وأصبح بوسع أي شاب أو فتاة أن يخترق جدار الصمت ويبوح بالمسكوت عنه لرفيق افتراضي يقاسمه الشجن الحميم، لكن يظل ما يسرقه هاني النقشبندي في رواية اختلاس من نار الحقيقة عن المجتمع السعودي والخليجي وخبايا النساء فيه أفدح من أن تغفره السوابق العربية والعولمية، مما يؤذن بمرحلة جديدة من التطور الحضاري الشامل· الرسائل والمصائر يعتمد الكاتب على منظور مزدوج لا يلبث أن يتقاطع في سرده، فهو يقدم ''سارة'' التي تنتمى إلى عائلة سعودية محافظة ''تزوجت مبكراً، ولها توأمان، وبشرتها تميل إلى السمرة قليلا، وقوامها يعاند الجاذبية وعيناها كبيرتان شديدتا البياض والسواد، مع شعر هو الليل الطويل ينسدل متموجاً حتى أسفل ظهرها، جمال يستحق أن تقوم ثورة من أجله، لكنها أضعف من ثورة صاحبته الثائرة على نفسها، وأقل درجة من مجموعة ثورات متلاحقة اعتادت التعايش معها منتصرة حينا أو مستسلمة في معظم الأحيان، ثورتها الأخيرة كانت على غطاء وجهها، لم تكن تلك أخطر الثورات لكنها الأكثر تكرارا، إذ لا تكاد تنتهي من المواجهة مع أهلها حتى تبدأ مع زوجها، ولم تكن الصديقات في منأى عن ذلك، سارة لا تريد أن يحوّلها الغطاء إلى جثة في كفن أسود، لا تريد أن تسير ميتة وهي على قيد الحياة''· ثم لا تلبث الرواية أن تنتقل برشاقة إلى طرف آخر يتقاطع مع هذه السيدة المتمردة، وهو هشام ـ رئيس تحرير كبرى المجلات النسائية العربية التي تصدر في لندن، فتلعب على وتر البعد المكاني الظاهر مع التبعية الأيديولوجية الخفية، فالمادة التي ينشرها تخضع لرقابة باترة، وقصارى الحرية التي يمارسها تتجسد في اختيار صورة امرأة بارعة الأنوثة والفتنة على الأغلفة، أما المقالات والتحقيقات فلابد أن تكون محايدة غير جارحة، وقد استفزت هذه السياسة سارة، فكتبت إليه تقول تعقيبا على تحقيق هزيل: ''ولعل قمة ما جسدتموه من تزييف كان تحقيقكم الذي أشرتم إليه عن الخيانة الزوجية في المجتمع السعودي، وما ذكرتموه من أنه جريء ويقدم حقائق وأرقاما تكشف للمرة الأولى، أين هي الحقيقة فيما نشرتم؟ وما هي المعلومات الجديدة ، خفتم من الاعتراف بالخطأ وأنكرتم وجود الخطيئة في مجتمعنا المحافظ ، حسنا اذهبوا إلى المحاكم واسألوا المراكز الاجتماعية، اسألوا أهل الاختصاص العارفين بالأسرار بدلا من الكذب على القراء'' العجيب أن هذه اللهجة الجريئة لم تلفت نظر رئيس التحرير في ذاتها، فكل ما شغله إثرها هو تخيّل سارة نفسها ومدى جمالها، وقابليتها نتيجة لتجربتها المريرة للدخول في علاقة معه، يظل هو الرجل في انحصار تفكيره بالمرأة كهدف شبقي دون أن يقوم على التجرد الموضوعي، وهذا اعتراف شجاع من المؤلف الذي يتماهى مع بطله· معبر الثقافات لكن شخصية هشام بالغة الخصوبة والثراء، فهو ليس مجرد متلقٍّ لرسائل قارئاته أو أمين على أسرارهن، بل يعيش تناقضات الحياة التي تطحن كل عربي يقيم في المغترب الأوروبي، فهو بوهيمي في علاقاته المتعددة، ممثل وفي لثقافته البطريكية حتى مع تعاطفه العقلى مع شجون المرأة العربية وأحزانها المقيمة، فهو يتعرف مثلا إلى فتاة إسبانية تجرى بحثا عن ضعف التأثير العربي في الثقافة الإسبانية الحديثة، مع امتداد الوجود العربي في الأندلس ما يربو على ثمانية قرون، فيعرض عليها ـ كوسيلة لاقتناصها فحسب ـ التعرف على جوانب خفية من الثقافة العربية قد تساعدها على فهم هذه المفارقة الفادحة قائلا: ''تعلمين أننى أتواصل ـ بحكم موقعى كرئيس تحرير مجلة نسائية ـ مع الكثير من رسائل قارئات وقراء تعكس في مجملها ثقافة مجتمعنا الشرقي، ربما ـ أقول ربما ـ ساعدك تحليل بعض هذه الرسائل في بحثك، ولا أمانع إطلاقا في إطلاعك بعض منها·· لكن لى شرطين: أولا: ألا تستغل الرسائل في دراسة لا تتسم بالحياد، لست أهتم إن اكتشفت عمق ثقافة الشرق أو سطحيتها في التراث الإسباني، أو ضبابية الهوية الإسلامية أو وضوحها ، المهم الحقيقة، شرطي الثاني ألا تذكري شيئاً على لسان بطلة القصة، ولا اسمها، ولا من تكون عائلتها''· وبغض النظر عن مدى كفاية الرسائل فإن إشكالية الموضوع المبحوث لا تكمن فى جهود الاستئصال المحمومة التي بذلتها محاكم التفتيش لمحو الهوية العربية الإسلامية وتطهير الدم الإسباني خلال قرنين من الزمان، مما كاد يمحو أثر اللغة والعقيدة والتراث الأصيل، لكنه لم يستطع تبديل الروح الأندلسية التي مازالت كامنة في عمق الإنسان الإسباني حتى اليوم· الطريف أن علاقة هشام بهذه الفتاة الرائعة المتطلعة إلى معانقة الشخصية العربية فيه تحطمت على صخرة أنانيته وخيانته لها بعلاقات متعددة مع غيرها، مما أعطاها دليلا ملموسا على هشاشة هذه الشخصية وزيفها، لكن هناك مشاهد في الرواية تجسد أشكال التمزق الأيديولوجى العربي، من أبرزها ما يحكيه عن المركز الإسلامى في لندن، وكيف أصبح محل صراع دولي، فمن له الدور الأكبر في ميزانيته يكون هو المسيطر عليه، ما عاد المركز دينياً بل أصبح أمما متحدة، وكيف أنه أدى فيه ذات مرة صلاة الجمعة ''وعند مغادرته الساحة الرئيسية وقف لحظة يتأمل في صمت مؤلم أصواتا تأتيه من بعيد، التفت نحو مصدر الأصوات فإذا بها تتشكل أجسادا تحيط بجثمان مسجى على نعشه، اخترق هشام الحشد ونظر إلى الجنازة فأدرك أنها لنزار قباني الشاعر الذي رآه قبل أيام يسير حزينا في ''البيكاديلي'' رأى هشام الساحة الخارجية للمسجد تشهد مزادا دينيا على نعش الشاعر'' وتارة يدخل بعضهم الجثمان إلى حرم المسجد للصلاة عليه، وتارة أخرى يطوره بعض المتطرفين الذين أفتوا بأنه كافر لا تجوز عليه الصلاة بل لا يجوز دخوله المسجد، دون أن يشعر رفع هشام نظره إلى السماء فإذا بشاعر ينظر إلى الأسفل يرقب مشهد نعشه ساخرا وهو يتمتم: عشرون عاما في طريق الهوى ولا يزال الدرب مجهولا فمرة كنت أنا قاتلا وأكثر المرات مقتولا ثم يتساءل ألأنه أنصف المرأة فقط استحق لعنات السماء؟'' ومع أن الأقنعة العربية تسقط عادة في لندن، فإن صاحبنا لم يستطع في البداية أن ينشر رسائل سارة التى انهمرت عليه كالمطر تعري المجتمع، وتكشف غواياته ونفاقه، غير أنه عندما قرر في نوبة شجاعة انتحارية أن ينشر بعض هذه الرسائل كانت النتيجة الحتمية التي بادر باتخاذها قبل أن يجبر عليها هي أن يجمع أوراقه ويترك طائعا عمله يسحقه إحساس باللاجدوى، قبل أن يلتقى للمرة الأخيرة فتاته الإسبانية ويسمع منها الكلمة القاضية ''تقولون إن الغرب ضدكم وضد ثقافتكم، أنتم في الواقع ضد أنفسكم، أنتم بلا هوية، أنت بلا هوية يا هشام، أنت النموذج الذي كنت أبحث عنه في دراستي، فمن لا يملك هوية لا يملك ثقافة''· هذه هي المقولة المحورية التي تعززها الأحداث والرسائل والتأملات في هذا العمل الدرامي الشائق المقطر·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©