الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الطفل المرفوض

الطفل المرفوض
23 مارس 2008 01:56
لم أكن قد خططت للحمل، وكنت اتفقت مع زوجي على تأجيله إلى ما بعد التخرج، لأننا كنا ندرس الطب سوياً خارج الدولة وهو تخصص يحتاج إلى جهد كبير وتفرغ، فلا وقت يتسع للحمل والولادة والعناية بالطفل، لكن حدث ما حدث، وشعرت بأعراض الحمل، وأصبحت متعبة ومتضايقة طوال الوقت، وكان زوجي يشعر بالاستياء لما حدث، وربما كان يعتقد بأنني تقصدت الحمل· كانت الطامة الكبرى التي تفوق تحملنا أنا وزوجي أن طفلنا لم يأت سليماً، فقد كشفت الفحوصات الطبية إصابته بحالة من التخلف العقلي البسيط· دارت الدنيا أمام عيني وأصبت بإحباط شديد· أما زوجي فقد دفن نفسه في دراسته وتقوقع حول نفسه وأصبح بعيداً بقلبه وذهنه عني وعن ابنه· كرهت نفسي وكرهت هذا الطفل، ألا يكفي أنه جاء على غير إرادة مني، فهل أتحمل كونه متخلفاً عقلياً أيضاً، هذا أمر أكبر مما أستطيع احتماله· لم تكن مثل هذه الحالة موجودة في عائلتينا، وكلانا معروف بذكائه وتفوقه، وكلما كبر هذا الطفل بدا غريباً، لا يتواصل بعينيه مع أي إنسان ومنعزلاً ولا يلعب ولا يبتسم· كنت أخجل منه، ولم أرغب في أن يراه أحد من أصدقائنا، ولهذا قطعت علاقاتي الاجتماعية مع الآخرين· فقدت ثقتي بنفسي تماماً ولم أعد أستطيع العودة لدراستي· وصار همي الوحيد هو علاجه قبل أن يعرف الآخرون حكايته· أخذته إلى عيادات مختلفة وإلى أطباء اختصاصيين أكدوا جميعاً بأن نسبة التخلف لديه قليلة جداً ويمكن السيطرة عليها بالاهتمام والجهد· فكرت أن أتركه في أحد الأماكن المتخصصة لمتابعة حالته، وأيدني زوجي في ذلك، فتركناه هناك وأصبحنا نزوره بين الحين والآخر لنطمئن عليه· تولد لديّ شعور متناقض غريب، فأحياناً أشعر بالراحة لأنني تخلصت من مسؤوليته وعدت لدراستي، وأحياناً ينتابني نوع من تأنيب الضمير لأن طفلي الوليد يتربى مع أناس غرباء بعيداً عن حضن والديه· عموماً لم يكن لديّ خيار آخر فقد كان لديّ أمل في تحسن حالته وهو تحت إشراف المتخصصين· العودة إلى الوطن بعد أن أنهينا دراستنا أخذنا ولدنا وعدنا به إلى الوطن· لازلت أتذكر قول الطبيب عندما أكد لي بأن طفلي قادر على التحسن إن رغبت أنا بذلك، وهو لن يتحسن طالما تهربت من تحمل مسؤوليته بنفسي، لأنه سينشأ كطفل مرفوض ومحروم عاطفياً وهذا ما سيجعل حالته سيئة للغاية· بمجرد عودتنا انهمكنا في التحضيرات اللازمة للسكن والعمل فتركت طفلي عند جدته أم زوجي، وقد بلغ الرابعة من العمر، ولم تكن جدته مقتنعة بأنه طفل معاق وظلت مصرة على أنه طفل كامل لا ينقصه شيء حتى أنها أكدت بأن والده كان مثله تماماً في شكله وفي سلوكه وها هو يثبت ذكاء نادراً لا مثيل له· ارتحت كثيراً لاهتمامها به لأنني لم أكن متحمسة للعناية به خصوصاً في فترة الحماسة الشديدة للعمل وإثبات الذات· بعد سنة واحدة من العمل قررت تجربة الحمل بعد أن استقرت أوضاعنا وأصبح طبيعياً أن نفكر بإنجاب طفل، وقد تناسينا ابننا الأول وكأننا لم نكن والديه· جاءت طفلتي التي انتظرتها بشوق ولهفة وكانت غاية في الجمال والذكاء فتعلقنا بها أنا ووالدها تعلقاً شديداً· بعد أن بلغت ابنتي سن الثانية مرضت أم زوجي وطلبت منا أخذ ابننا لأنها لم تعد قادرة على رعايته فاضطررنا لإحضاره إلى البيت وكأنه شخص غريب ابتلينا بتحمل مسؤوليته دون إرادتنا· الغريب أنه هو أيضاً لم ينسجم مع أخته الصغيرة ولا معنا ولا مع أجواء المنزل، وأخذ ينعزل تدريجياً ويبقى في غرفته مع ألعابه طوال الوقت· أدخلناه مدرسة متخصصة، وقد حاولت مدرساته إشراكه في ألعاب وأنشطة كثيرة، لكنه كان يفضل العزلة والجلوس إلى جانب الجدار أو تحت الطاولة حتى ينتهي الدوام فيعود إلى البيت فيدخل غرفته وينعزل وحده، وإذا دخلت عليه يختبئ تحت السرير أو وراء الستارة أو تحت الطاولة، وقد اعتمد بشكل كامل على الخادمة في إطعامه ونظافته وتغيير ملابسه· حاول والده عدة مرات أن يلاطفه أو يتحدث معه، لكنه كان يرفض النظر إليه ويهرب منه كما يفعل معي مما جعلنا نشعر بأن لا فائدة من ورائه، واقتنعنا بأنه مجنون ولا شيء يجدي معه· وكنا نستغرب عندما تأتي جدته لزيارته فيركض نحوها ويحتضنها ويتحدث معها بكلمات واضحة مفهومة ونتساءل: لماذا إذن يتجاهلنا أنا ووالده ولا يقبل أن نقترب منه؟ كان أمراً محيراً فعلاً· حادث غريب في أحد الأيام كان الولد يجلس في إحدى زوايا الصالة وكنا نجلس أمام التلفاز وطفلتنا تلعب أمامنا، وقد أتت بحركات طفولية جميلة فحملها أبوها وصار يلاعبها ويقبلها فما كان من أخيها إلا أن اندفع نحو الصغيرة كالمجنون ودفعها دفعة قوية فسقطت أرضاً وأخذت تبكي· فزع زوجي وصرخ صرخة قوية مؤنباً الولد فما كان منه إلا أن دفع الكرسي على الأرض فارتطم بالطاولة وسقطت بعض الأشياء الموجودة عليها وصار يصرخ في وجه أبيه قائلاً: أنا أكرهك·· أنا أكرهك· حمله زوجي إلى غرفته ورماه على سريره وأقفل عليه الباب· كنت أحمل الصغيرة وأحاول تهدئتها، وأبكي لأنني لم أستطع تحمل الموقف، قلت لزوجي: ابننا ليس مجنوناً إنه يعرف ما يقول· قال إنه يكرهك، لقد حدد شعوره نحوك بالضبط مما يدل على أنه طفل مدرك، ألا تعتقد بأننا قد ظلمنا هذا الصغير؟ لأول مرة أرى زوجي يبكي· لم أعتقد بأن هذا الموقف يمكن أن يؤثر فيه لهذه الدرجة، لم أتحمل هذا الموقف· وكنت خائفة ومرعوبة· فجأة وجدنا أنفسنا نحن الاثنين مخطئين بحق ابننا· لأول مرة ندرك بأننا أخفقنا في تعاملنا معه· بقينا نتساءل بيننا: هل هو مريض عقلياً؟ أم أنه طفل عادي ولكنه محروم من حبنا وعطفنا؟ بعد ذلك اليوم قررنا أن نتغير في تعاملنا معه تغييراً كاملاً، وأصبحت أخصص له أوقاتاً ألاعبه فيها وأعلمه بعض الحروف والكلمات والأرقام، وكذلك فعل زوجي، وأخذ يحكي له القصص ويحمله بين ذراعيه ويأخذه معه إلى شاطئ البحر أو الحدائق· لم يكن سهلاً أن يتجاوب معنا بسرعة· وقد توقعنا هذا الشيء فصبرنا عليه حتى استطعنا بالتدريج أن نكسبه وصار واحداً من العائلة، لم يعد يعزل نفسه عنا، وأخذ يقترب من أخته ويلاعبها، وصار يتحدث معنا ببعض الكلمات وينظر بشكل مباشر إلى أعيننا ويبتسم لنا· بعد هذه المرحلة أصبحت أتعامل مع ابني على أنه طفل طبيعي مئة بالمئة، فأخرجته من المدرسة المتخصصة بذوي الاحتياجات الخاصة ووضعته في مدرسة عادية خاصة، وأكدت على مدرساته بمنحه رعاية خاصة وأفهمتهن بأن الطفل كان ضحية لتشخيص طبي خاطئ· شكاوى كثيرة جاءتني من المدرسة مفادها أن ابني غير قادر على التكيف مع الأجواء الدراسية، وأنه طفل منعزل لا يتجاوب ذهنياً ولا يستوعب المواد الدراسية بسهولة، فطلبت منهم أن يصبروا عليه ووعدتهم بالتدخل المنزلي والإشراف بنفسي لمساعدته· صرت أبذل مجهوداً خارقاً لتدريسه، أخذت إجازة من عملي وفرغت نفسي لهذه المهمة، لكنني في النهاية لم أحقق شيئاً، وبقي طفلي على حاله من عدم الحفظ والاستيعاب حتى كدت أجن· أخذته إلى طبيب متخصص وطلبت منه أن يرشدني إلى الحل الصحيح ، فطلب مني الطبيب إجراء جلسات متعددة لفهم حالته وبعد أن توصل إلى النتيجة أخبرني بأن ابني ليس ناقصاً، وليس كاملاً من النواحي الذهنية، فهو طفل طبيعي من النواحي العاطفية والشعورية، لكنه يملك نوعاً من البطء في الفهم والاستيعاب العقلي، وهو في هذه الحالة يحتاج إلى تعامل اجتماعي من قبل العائلة على أنه طفل سليم، أما من ناحية التحصيل العلمي فالأفضل أن يكون في المدارس المتخصصة حتى تنمو قدراته العقلية بالتدريج· بعد هذه الزيارة أدركت بأن لابني هذا وضعا خاصا، وأنني يجب أن أتقبله كما هو، وأن أقدر حالته وأتعامل معه ضمن قدراته، لا أحمله فوق طاقته ولا أحرمه من كونه طفلاً عادياً له نفس حقوق أخته في الحب والاهتمام إنه اختبار صعب عليّ· سعاد جواد
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©