الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

روضة الحاج تستعيد الماضي لتحاور الحاضر

روضة الحاج تستعيد الماضي لتحاور الحاضر
27 أغسطس 2007 04:47
روضة الحاج موهبة شعرية ناضرة، طالعة من أحراش السودان الساخنة، بهرت مستمعيها بتألقها الإبداعي، وجسارتها السياسية، وقدراتها الفنية على البوح الجهير بمواجع الوطن العربي كله، بعد أن نثرت حشاشة مشاعرها الأنثوية في غابة الرجال المتشددين· وهي ـ فيما أعرف ـ أصفى صوت نسائي مبدع ينبثق من جنوب الوادي الخصيب، فيحيل خضاب كفوف النساء إلى وشم وضيئ للوجدان· وفي قصيدتها المتحدية ''بلاغ امرأة عربية'' توظف بيتًا شعريًّا جميلا للشاعر الجاهلي النابغة الذبياني، يرسم فيه لوحة تشكيلية ناطقة بالحسن والحياء، إذ يقول: ''سقط النصيف ولم ترد إسقاطه / فتناولته واتقتنا باليد. فتجعل من كشف الوجه العفوي عند القدماء، ذريعة لكشف الوعي وتعرية الضمير لفضح الواقع المعاصر إذ تقول: ـ ''عبثا أحاول أن أزوّر محضر الإقرار/ فالتوقيع يحبط حيلتي/ ويردني خجلى وقد سقط النصيف·/ أنا لم أرد إسقاطه/ لكن كفي عاندتني/ فهي في الأغلال ترفل/ والرفاق بلا كفوف/ أما البنان فما تخضب/ منذ أن طالعت في الأخبار/ أن الحاتم الطائي أطفأ ناره/ ونفى الغلام/ لأن بعض دخان موقده/ تسبّب في المجيء بضيفْ·/ ورأيت في التلفاز كيف يساوم ابن العاصي قواد التتار/ يحددون له ·· متى، ماذا، ويقترحون ·· كيفْ/ طالعت في صحف الصباح حديثه، قالوا ··/ صلاح الدين سوف يعود من نصف الطريق/ لأن خِدْمات الفنادق في الطريق رديئة ··/ولأن هذا الفصل صيف ·· ثلاثة مشاهد مدهشة تستحضر فيها الشاعرة، بتقنية المزج التحويلي رموز الكرم والدهاء وشجاعة الفتح على التوالي في الحضارة العربية، وتطبع صورهم على نظرائهم في الحياة المعاصرة، كما يفعل المصورون اليوم في هذا المزج الذي لا يلبث الطرفان فيه أن يندفعا لإنتاج شكل جديد بتحولاته الراهنة، مما يختلف عن نموذج القناع الشعري الذي كان شائعا من قبل، فحاتم قد صار ينفي الغلام الذي يأتي له بضيف، وابن العاصي يساوم قواد التتار، وصلاح الدين ينكص على عقبيه بحجج مثيرة للسخرية· ولأن المفارقة فادحة، والتمثيل يتجسد للبصر والذاكرة في آن واحد، فإن الدلالة تقفز أمامنا بشكل حسّي بديهي في إقناعه وإمتاعه· وربما كان أمل دنقل آخر من استخدم تقنية المزج التحويلي هذه بنجاح لافت في نقوشه في البهو العربي، وتأتي هذه الشابة السودانية لتستثمر خصوصيتها الأنثوية في تلوين المشاهد وتجسيدها شعريا· رموز الأنوثة والعراقة سرعان ما تنتقل روضة الحاج في قصيدتها المطولة من رموز السياسة في التراث العربي إلى ترميز الأنوثة ومظاهر المجد والأصالة، فهي تتخذ صيغة البلاغ إطاراً لطرح دعواها بما تتضمنه من استجواب وتوصيف وحوار، وبما تغري به من اعتبار المرأة وكيلا للأمة، والشرطي ممثلا للسلطة: ''عجبي ·· لقد نزعوا الأساور من يدي/أخذوا الخواتم / صاروا كل العقود/سكبوا على كلب صغير كان يتبعهم / جميع العطر في قارورتي ··/كفّي وقولي باختصار/ العقد ما أوصافه؟/ العقد؟فرّ القلب من صدري/ وسافر كالخواطر/ في نداوتها، ومثل نسيمة مرت على كل المروج/ قد كان يعرف كل أسراري الصغيرة ··/ كان يسمع كل همساتي وآهاتي، ويعرف/ موعد الأشواق في صدري، وميقات العروج''· وفضلا عما يتمثل في صيغة الحوار من مرونة بالغة في حركات الخطاب فإن الشاعرة تأخذ في ترميز الغوالي من مقتنياتها بمعادلات حسيّة مباشرة يلتقطها وعي القارئ بحدسه الكلي، فهي تسقط عليها غلالة شفيفة من الإيهام المجازي تزيدها وضوحا مثلما كانت تفعل الغلالة الرقيقة على وجه حسناء النابغة الخجول، مما يتيح لحرية التخيل فرصة تمثّل تصورات عديدة لهذه المعادلات الحسية، فالعقد الحرّ الذي يسمع الهمسات والأحلام والآهات، ويعرف موعد الأشواق في القلوب ربما كان هو الفن العربي الأول الذي يشير إلى الشعرية في ذاتها ، وربما كان غير ذلك من الأسرار المبهمة، لكنه سيظل مفتوحًا على تأويل كل قارئ وقدرته على استنباط المعنى· التحديد الدقيق أما الخواتم فقد تكون أوصافها أشد استعصاء على التحديد الدقيق، فهي: ''زينة الكفّ التي قد صافحت كل الصحاب/ تدرين موعدهم إذا مروا / وتبتئسين إن طال الغياب/ يا خاتم الإبهام يا ابن المغرب العربي/ لا تسأل رجولتك إنني والله لا أدري الجواب/ أنا كم أحبك خاتمي الوسطى/ ففيك نسائم الشام/ التي أهوى ·· وأضواء القباب''· وربما كانت هذه الخواتم ذات طبيعة ترتبط بجماليات الأمكنة العربية المختلفة في المشرق والمغرب، غير أن ذلك لن يحدّ من محتواه الإشاري المكثف المفعم بالدلالات الممكنة، فالمدن خواتم الحضارات الثمينة التي تبقى على مر السنين· ويأتي دور الخلاخل فتصورها الشاعرة: ''وخلاخلي أوصافها: يا حزن أقدامي التي صعدت/ حزون القدس سعدا وانتشت عند السهول/ كم في ديار العرب قد صالت/ وكم ركعت وصلت عند محراب الرسول/ حزني على خلخال مجد لن يحول/ بلقيس أهدتنيه من سبأ ومأرب/ قبل آلاف الفصول''· والواقع أن القصيدة أطول وأغنى من أن نلم بكل إشاراتها في هذا المجال، لكن ما يجعل دلالتها أكثر إدهاشا وحيوية هو ختامها الذي يبعث على التأمل بطرافته، فالبلاغ ـ شأن كل الأسئلة التي تطرح على السلطات ـ يقيد ضد مجهول، بينما تشير سطور القصيدة إلى المعلوم الكامن خلف كل سؤال، ويظل الشعر بقدرته الحوارية والتجسيدية منطلق التفاعل الخصب والمطارحة النبيلة بين الذوات الفردية والجماعية، الأنثوية والذكورية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©