الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جزيرة تائهة في فوضى السيولة

جزيرة تائهة في فوضى السيولة
12 فبراير 2014 22:20
وادي البيح، المنهمك في طي صفحات الطين عند سفح الجبل المشغول في التلاوة الأبدية، الساجد لذاك المنزل القديم، المسقوف برائحة الوجد الأليم، وحدك هُنا في العزلة، ولا أحد سواك، حين ينزل البدوي مقتفياً أثر الحملان الضائعة في خصلات الغاف العريق.. وحدك تستدعي ثقافة الرمل الحجري، وتلتقط حبّات الألق من جنائن المكان الفسيح، ثم ترنو إلى السماء المتهادية، ما بين الغموض، والحقيقة والأسرار البديعة.. وحدك تلملم المشهد التاريخي في أناة وتؤده كأنك تبث في الروح وعياً أزلياً، لا تجاريه حتى تأملات البوذي العتيق، وأنت المعتنق للنيرفانا بكل أنفة وكبرياء الجلاميد الصامدة منذ الأزل. وادي البيح.. ملحمة بابلية تسطو على الفكرة فتغدقها بالثراء والرخاء والإخاء، كإلياذة هوميروس تدمج التاريخ بشهوة الأولياء الصالحين تحدق في الوجوه الراكضة خلف المشهد العظيم، تتأمل العيون الرابضة في المتن الكليم، تجاهر في اليقظة كأنك بوذي، سدد النظرات إلى اللاشيء فاحتفت به الجهات بكل أناقة ولباقة ولياقة مستبدة في العشق كامرأة ظمأى، تبلل الشفة برضاب التخيل الجميل، ثم تحسد من عرق الذروة القصوى ملوحة الرعشة الأخيرة، كامرأة جسدت في الحب معنى الخصوبة، وما استفاقت إلا على نفضة الجسد، وروح رفرفت كجناح، سفهُ النوى.. الغافة المقدسة وادي البيح.. أيقونة البدوي المحترس، من غيبة أو غيبوبة المتمترس عند حافة القلق، الناهض باتجاه الجبل، المتسلق رموش الفراغ الوسيع، الممتطي صهوة الحلم بجدارة الأوفياء، الساهر تحت ملاءة وعيه العفوي.. أنت.. أنت هُنا، عند خاصرة الجبل، عاكف، نائف، غارف، عازف، والناي تغريدة الطير عندما يصفق ولهاً باحثاً عن أنثى تاهت في المضامين الموجودة. أنت المختزل للحزن المتسع فرحاً كون الماء ينبثق من عروق القصيدة المحملة بالمفردات الزاحفة نحو وجدان ما ألهبه سوى نعيم السماوات الصافية، ورقصة النجوم، في حفل كوني بهيج. وادي البيح.. مثل الغافة المقدسة، مثل كهف في جبل مجاور تحرس أشواق المحبين، وتغسل شرشف الليالي المذهلة، بطين الماء أو بماء الطين، تأتيك العصافير مجللة باللهفة، تأتيك العيون الحور، تكمل الرموش بنث أو بث واللواعج تكتسي بحزن قديم قِدم المكان، قِدم الإنسان، والأثر لم يزل محفوراً في قاع الذاكرة، كأنه الحرف الهيروغليفي، كأنه صرخة إبراهيم في وجه النمرود، والحكاية القديمة، أن العظماء يُبتلون، والحكماء ينظفون وعاء الذاكرة بشكيمة الصبر، وشيمة الخبر الأكيد.. أنت هُنا، في حضن الجبل، في حضور الصمت، ضجيجك ورطة العالم، حين لا يكون للأجراس صوت، ولا يكون لهديل الحمام معنى، ولا يكون للطين المعجون باليباب لون.. وادي البيح.. كجزيرة تائهة في فوضى السيولة، وقنوط المطر، وبيوت الطين القديمة تفرقت كمسبحة فرَّت من أصابع التسبيح، غارقة في الأسئلة نافرة من قسورة التوحش، هُنا في البقعة المعتمة لا تشدو الطيور، بل تغفو على وسادة التحرق، تفتش عن قطرة عن نبرة، عن وفرة الماء والسماء، تحملق في الوجوه ببلاهة الأشقياء، والذين غرقوا في مناخي الفلسفة، وتقول أنت يا شقي، لقد تشقشق الفجر، ولم يأتِ الصباح، فالغيمة داكنة والحِمل أرنب مذعور، تطارده مخالب ومثالب، ولا شيء يُفرج عن كلمة حين أطبقت الشفاه على صمت مريع، يطوق الأرواح ويغشي الجراح، ويغلق نافذة الأمل، أمام جدول الماء، كي لا يفيض الوادي ببوح الحياة.. ماذا يجدي الأمل، والخطوة مسجونة في صخرة اليباب.. وادي البيح.. الصبر مقبرة مؤقتة للروح، حتى يسفر المطر عن لوعة يبلل المقل، وتعانق الشجر، بنثه كقبلة تشتهي الولوج إلى حد الاحتراق، الصبر يا سيدي مثل ملح على جرح، مثل قصيدة أسكرتها القافية حتى الثمالة، وعلى عجل يسرد الوجع قصّة الموت الأليم لعصافير مرَّت من هنا وما أوفت السماء عهداً، ولا وعداً. وادي البيح.. لتكن مشيئتك كما في السماء، وكذلك على الأرض كثقة عمياء كخلاصة التوسل، كأي شيء تتفرغ أوعيته من مضامينها فلا تبدو إلا سوى أشلاء مبعثرة، أو قَدَرَ بحاجة إلى إسعاف أول يحيى رميم قدرته، ويرفع قامته إلى حد التبجيل، فأنت الفصيح الفسيح، يعقد لسانك ماء ورغاء وثفاء، وعواء مضه الشغف بعد إسفاف واستخفاف. وادي البيح.. لم تقل بعد ما تود أن تقوله، والكأس فارغة والأشياء الأخرى ملأى بالفراغ، ويعج الجبل بجوارك، بنعيق ونقيق ونهيق، والغسق الأحمر يتوارى خلف غيمة شفيفة وبدوي شقي يهبط من علو كأنه النسر، يخصب لوعته بمجيء المطر، ويمتص رائحة الهواء الجاف، بإسفنجة الرئة، ويغيب في التناقضات، كفلسفة جدلية، لا تثبت حتى تنفى، ولا تنفى حتى تسقط المعادلة الكونية، ويستفز الكوني النجوم، لأن حوار سقراط مع بروتا جوراس، يخيم على عقيم اللقاء الأسطوري. وادي البيح.. كمدينة شيِّدت من أفرع الشجر، جف الهواء، فعبست الأركان وغابت اليفاعة في رعونة المطر، غابت اليقظة في لعنة القدر، والأشياء تبدو بلا أثر، حين يسطو الجزع على أفئدة سربت جل دمائها، وهربت من مكان الحدث، لا أحد يدري كم عمر ذاك المنزل المتهاوي، كم عمر الرائحة المنبعثة من فوهة الزمن، لا أحد يدري كم عمر هذه الصرصرة، في جوف الحجر، فالمشهد، كأنه أحفورة لم تمر عليها، أصابع التاريخ ولم تقع عند بقاياها مقل المؤرخين، فالتاريخ هنا يهرب من التاريخ والجغرافيا تتلاشى في غضون المبهم، والمجهول يتمشى على قدم وساق يحث خطاه في جبروت وغطرسة أنت هُنا كأنك الحارس في غابة الغموض تمر عصاك فينشف الماء، والهزيمة النكراء تلحق بكل شغوف لهوف إلى قطرة تحيي العظام وهي رميم. نعجة تغنج وادي البيح.. المجندل بالرماد، وبلا عماد، يبدو الشريان عاكفاً على محض الإرادة المزلزلة. وادي البيح.. تلك النعجة تغنج في ترهل، كأنثى مقدورة، تتسلَّق الرمل الجاف، ما فيه من الأمل تحسب خطواتها كي لا تقع الكارثة، ترغو في وجع، وعلى كتفها يتربَّص الأنين، على وجهها يبدو الجفاف العاطفي، وغضبه القدر، حين تكون أنت بلا حبر يملأ أحشاء الحقيقة، لتكتب الكائنات، رسائل الشوق، وما جرى في الليالي الباردة من رعشة بلا توق.. تلك النعجة، تقف عند حافة الهاوية، كأنها تنبعث إلى الموت عنوة، كأنها ترتد إلى بداية الانقراض وأشياء أخرى تلاحقها حيث الضرع مثل قنينة قديمة، لونها الغبار والسعار، واجتاح المهجة جيش الحسرة والفقدان الأثيم. وادي البيح.. جذلانة تلك الجهات، ولا يتيم يصرخ من الألم سواك، والذي سواك تبقى الذاكرة، مثل إسفنجة تمتص الماء حتى القاع، ولا تشبع تلعق أصابع الندم، ولا تكرع غير الأسى، لأنك وحدك الذي ساورك الظن، أنك القديم بلا عدم، وأنك القادم من خلف الأسرار، لتحيي حفلة كونية على ظهر الماء المطهر بالنقاء ولكن.. ولكن حين جاشت المهج بالغثيان، واستعر لهيب العطش، أيقنت أن ليس للأسئلة جدوى ما لم تستيقظ الفكرة على وعي، يلوِّن العيون بالحياة، ويسرب إلى الروح ما تبقى من أمل. وادي البيح.. مغامرة بأن نفكر بغير الماء، مجازفة أخطر من الموت ما لم نفتح قناة في القلب ونسرب إلى الروح بعض البلل، وأنت هكذا، تبدو كشراع، مرفوع تتقاذفه ريح العسف، وتصب في عروقك، كل ما يذهب جفاء.. وادي البيح.. السماء سقف رمادي، والأرض ملاءة مخرومة بأزاميل اليباب والأغنيات القديمة تيبست على شفاه الذين مروا من الحياض ولعبة الحب المزورة آلت إلى نهايتها، وشاب كل شيء الاندحار عندما تمر القوافل محملة بأفكارها القديمة وجزالة الماء قبل تاريخ الاندثار، تبدو أنت ككهل ضرير، يمد يداً، واليد الأخرى تتكئ على عصا العازة، تبدو أنت كوصي ظل الطريق، واستبد بالكون جفاف المراحل الأخيرة، تبدو أنت كطاغية انفض سامره وغشته غاشية الهلاك، وأرى هنا، بقايا ما تسرب في الحفرة الجهنمية، أرى. كما يرى الحالم، أن في الباطن يقطن سر العفوية وما جرى حين كان الوادي مثل الرضاب على شفتي حسناء في الريعان والصولجان. وادي البيح.. على رخام الزمن، وفي زمام الفكرة تبدو كنسر هيض جناحيه، غارقاً في التذلل تبدو كجذر جف عبقه، ونامت في أجوافه حرقة الخسارات الكبرى.. تبدو وأنت البداية والنهاية كشفتين مكتنزتين، بالرعاف وقد أزف الوقت ولم يبق من زمن البداية سوى رجفة الموت.. وادي البيح.. تغفو على الرمل، متعباً بعد انتظار.. أقرأ صفحات الطين المسترسل في الجفاف، فلا أرى سوى ملح الأرض، لا أرى سوى جرح قديم لكائن مر من هنا، ثم قيدته الحسرة فانحسر لطيف رمادي، كصيف بلله الندى، كصديق ما جفت مآقيه يسأل عن رفيق كان هنا بالأمس، يغسل ثياب الروح العذوبة، فإذا بالماء يغتسل بالطين والحصى، وعجاف الطين.. وادي البيح.. أسمر غامض، مثل الجبل الأصم.. تحشد جل قواك فلا جدوى من الدعاء إذا كان الوعاء بلا معنى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©