السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لو كان لشارع بيل أن يتكلَّم*

لو كان لشارع بيل أن يتكلَّم*
24 فبراير 2018 13:34
جيمس بالدوين تقديم : أحمد العلي قامت توني موريسون، أوّل روائية سوداء تنال جائزة نوبل للآداب (1993)، بتحرير بعض أعمال جيمس بالدوين بعد وفاته لصالح مكتبة الأدب الأميركي، وكتبت فيما يخص الرواية بين أيدينا: «... إن براعتك الثالثة يا جيمي، والتي يصعب استكناه جذورها، وحتى قبولها، هي رقّتك؛ رقّة لشدّة رهافتها ظننتها لن تستمر [في كتاباتك]، ولكنها انداحت أكثر، وضمّتني. ففي ذروة غضبي، لمستني برقّة كما فعل جنينُ تيش في رحمها: رقّة يستعصي القبض عليها، مثل همسة في الزّحام». نجح جيمس بالدوين في كتابة قصّة رومانسيّة شبيهة بموسيقا البلوز، حيث خيوط الحُزن والفرح تنسُج قماشاً واحداً بديعاً ترتديه الشخصيّات لتنضح بالحياة حتى يكاد ضحكها يُسمع، وعرقها يترك نقطاً على الورق. لكنك لا تشعر بالحزن على القلبين الغضّين حين تقسو الحياة عليهما، بل يأخذك الانبهار من الجنين الذي، وهو في رحم أمه، يسيطر على والدته ووالده وأجداده وعمّاته وخالاته؛ كيف لنُطفة لا تزال تتخلّق أن تضخ كمّا هائلاً من مشاعر الشجاعة والتضحية والأمل، وحتى الكره والقسوة واليأس، وأن تشقّ طرقاً جديدة للحياة في حيوات أناس لم يروها تكتمل بعد؟ الحكاية تُروى بصوت تيش؛ فتاة سوداء في التاسعة عشرة من عمرها تعيش في حيّ هارلم من مدينة نيويورك. أحبّت رجلاً أسود يُدعى فوني في عُمر يقارب عمرها، واتّفقا على الزواج وباركت العائلتان قرارهما. ولكنه أُلبس قضيّة اغتصاب وأودع السّجن، بينما تكتشف تيش أنها حامل، قبل أن يكملا مراسم الزواج. وقتها، ولفقر عائلة فوني، تضطرّ عائلة تيش إلى تمويل رحلة بحث إلى بورتوريكو للعثور على الفتاة المُغتصبة الهاربة، والتأكّد منها: هل فعلاً قام فوني بتلك الفعلة الشنيعة؟ أم أن الشرطيّ بيل، المسؤول عن أمن الشارع الذي يسكن فيه فوني، هو من ألبسه التّهمة؟ إنها رحلة تكشف ألواناً من الظلم الاجتماعي والعنصرية وتشريع الجور، مقابل قوّة ضاربة من النضال المرفوع بأيدي الحُب والبراءة. أنظر إلى نفسي في المرآة. أعرف أنني عُمِّدت باسم: كليمنتاين، ولذلك سيكون من الطبيعي أن يخاطبني الناس باسمي مختصراً: كليم، أو حتى به كاملًا، فهو اسمي في النهاية. لكنهم لم يعتادوا مخاطبتي بذينك الاسمين أصلاً، بل ظلّوا ينادونني تيش. وهذا، حسب ظني، له د?لة ما. إنني متعبة، ورحت أؤمن شيئاً فشيئاً بأن هناك دلالة ما لكل ما يحدث من حولنا؛ إذ كيف له أن يحدث دون أن يكون له معنى؟ لكن هذه الفكرة رهيبة حقاً، و? يمكن أن تنجم إ? عن قلق، قلق لا معنى له. ذهبت اليوم لرؤية فوني. وهذا ليس اسمه هو أيضاً، فقد عُمِّد باسم: ألونزو، مما يجعل من المألوف أن يناديه الناس باسمه المختصر أيضًا: لوني. ولكن ?، فقد اعتدنا على مناداته فوني. ألونزو هانت هذا هو اسمه. عرفته طيلة حياتي، وأتمنى أن تدوم هذه المعرفة إلى ا?بد. لم أكن أناديه باسمه، ألونزو، إ? حين أكون مضطرة ?ن أنقل إليه نبأً سيئاً. واليوم قلت له: «ألونزو!» نظر إليّ تلك النظرة الخاطفة التي كان يرميني بها كلما ناديته باسمه. إنه في السجن. وهناك يجري هذا اللقاء بيننا. كان جالساً على كنبة وأمامه طاولة، وكنت جالسة على كنبة أيضاً وأمامي طاولة، يفصل بيننا جدار زجاجيّ. وقد درجت العادة أن يكون أمامك هاتف وأمام الشخص الذي تكلمينه خلف الزجاج هاتف آخر، فتتحدثان عبرهما. ? أدري لمَ درج الناس على خفض بصرهم إلى ا?سفل عندما يتحدثون عبر الهاتف! لكنهم يفعلون ذلك دوماً. أما هنا، فعليك أن تتذكري أنك مضطرة للنظر إلى الشخص الذي تتحدثين إليه. من جهتي، بتُّ أنتبه لهذا ا?مر؛ ?نه في السجن، ولمحبتي لعينيه، وفي كل مرة أراه يساورني الخوف بأن ? أراه ثانية. وهكذا، رفعت السماعة ما إن جلست على مقعدي. رفعتها فقط، وأخذت أتأمله. ولهذا، حين قلت ألونزو، نظرَ إلى ا?سفل ثم رفع نظره مبتسماً، وحمل السماعة ثم لبث صامتاً. ? أتمنى ?حد في العالم أن ينظر إلى من يحبّ عبر زجاج. لم أكن أعني شيئاً حين لفظت اسمه. فقد لفظته بعفوية خالصة، بحيث ? أزعجه، وبحيث يفهم أن قلبي لا تحوم حوله حتى أوهى الظِلال من الشك فيه أو اتهامه. هل ترين؟ أنا أعرفه تماماً. فهو يحمل قدْراً عالياً من عزّة النفس، كما أنه يحمل الكثير من الهواجس أيضاً. وعندما أفكر في ذلك، تنجلي أمام عيني الحقيقة الصارخة؛ هذا هو السبب ا?هم وراء وجوده في السجن. أما هو ف? يعتقد بذلك. و?نه ذو طبيعة قلقة متوجسة، فلم أكن أريد أن أثير قلقه عليّ. كنت في الحقيقة مترددة في قول ما كان خليقاً بي قوله. لكنني اعتقدت بأنه لا بد أن يعرف. ينبغي أن يعرف. فكّرت أيضاً، بأنه حين يتخلص من هواجسه، وهو راقد في فراشه خ?ل الليل، وحيداً مع نفسه، غائصاً في أعماق سريرته، مفكراً با?مر، فإن ذلك سيمنحه سعادة، ولعله يؤنسه في وحشته. قلت له: «ألونزو، سنُرزق بطفل». نظرت إليه. وابتسمت. بدا وجهه كأنه يغوص في الماء. لم يكن في مقدوري أن أعانقه. كانت لدي رغبة جارفة للمسه. ابتسمت ثانية وتعرقت يداي فوق سماعة الهاتف. تلَت ذلك لحظة لم يعد بمقدوري خ?لها أن أراه. نفضتُ رأسي، كان العرق يتصبب فوق وجهي، وقلت: «أنا سعيدة بذلك يا ألونزو. سعيدة به. المهم أن ? تقلق أنت. فأنا سعيدة جداً». غير أنه كان قد نأى بتفكيره عني، نأى تماماً. انتظرته حتى يعود. ولمحت السؤال يلتمع في عينيه: «طفلي؟» كنت أعرف أنه سيفكر بهذه الطريقة. ? أعني أنه كان يرتاب بي. لكن من عادة الرجال أن يفكروا بهذه الطريقة. وخ?ل اللحظات التي يعيشها هنا، وحيداً، بعيداً عني، سيكون الطفل هو الحقيقة الوحيدة في العالم بالنسبة إليه، سيكون حقيقياً أكثر من السجن، وأكثر مني. كان عليّ منذ البدء القول إننا لسنا متزوجين بعد. وذلك يشغله أكثر منّي. كنت أفهم كيف يشعر. كنا نتهيأ للزواج، حين اعتُقل. كان فوني في الثانية والعشرين. وكنت أنا في التاسعة عشرة. ثم طرح ذلك السؤال ا?بله: «هل أنت متأكدة؟». «?، لست متأكدة. أحاول فقط العبث بأفكارك!» فابتسم ابتسامة عريضة. أشرق وجهه بتلك ا?بتسامة، ?نه حينئذ تأكد من ا?مر. «ماذا سنفعل؟» سألني بحَيرة طفل! «حسناً، بما أننا لن نتخلص منه، فأظن أننا سنربّيه!». عاد فوني برأسه إلى الوراء، وضحك. ضحك حتى سالت دموعه. وعرفت حينئذ أن الشطر ا?هم الذي كان يقلقني قد مرّ بس?م. سألني: «هل أخبرت فرانك؟» وفرانك هو والده. قلت: «ليس بعد». «هل أخبرت أهلك؟». «لم أخبرهم حتى ا?ن. ولكن ? تقلق بشأنهم. أردت أن أخبرك أنت أو?ً». فقال: «حسناً، إنه ?مر جيد. طفل!» ونظر إلي. ثم خفض بصره. «ماذا ستفعلين إذن؟». «سأستمر فيما أنا عليه. سأمضي في المواظبة على عملي حتى الولادة. ثم أضع نفسي تحت رعاية أمي وأختي سيس. ? تقلق أنت. وعلى أي حال، فإنك ستكون بيننا قبل ذلك الحين». قال بابتسامة خفيفة: «أواثقة أنت من ذلك؟». «كلّ الثقة! ولطالما كنت واثقة». عرفت ما الذي كان يدور في خلده، لكن لم يكن بمقدوري أن أظهر شعوري الحقيقي، ليس ا?ن، إذ عليَّّ أن أبدو واثقة فيما أنا أراقبه. ظهر الرجل خلف فوني. لقد انتهى وقت الزيارة. ابتسم فوني، ورفع يده، كالعادة، ورفعت أنا يدي، ثم وقف. كنت ما أنفك أشعر بشيء من المفاجأة وأنا أراه هنا داخل السجن. كان طوله يفاجئني دائماً. لقد فقد بعض وزنه بالطبع، ولعلّ ذلك ما جعله يبدو أطول أمام عينيّ. استدار وخرج عبر الباب، الذي أقفل وراءه. شعرت بالدوار، لم أكن قد تناولت طعاماً طيلة اليوم، وأصبح الوقت متأخراً ا?ن. مشيت خارج جدران السجن، ورحت أسير في تلك الممرات العريضة التي أثارت تقززي. كانت أعرض من الصحراء الكبرى. ليست الصحراء مقفرة أبداً، وهذه الممرات ليست مقفرة أيضاً. فإذا ما عبرت الصحراء الكبرى، وسقطت بعد أن أعياك المسير، وأحاطت بك حلقة من النسور بعد فترة وجيزة، شاعرة بموتك بعد أن شمت رائحته، تنخفض نحوك شيئاً فشيئاً، وتنتظر؛ فهي تعرف، يعرفون بالضبط متى يصبح اللحم جاهزاً، ومتى تعجز الروح في صراعها ا?خير. وبالطريقة نفسها يعبر الفقراء صحراء الحياة الكبرى باستمرار. ليتحلق حولهم المحامون والكف?ء وآخرون ما أكثرهم، يتحلقون حولهم كما تفعل النسور تماماً. والحقّ أن هؤ?ء ليسوا أغنى من الفقراء؛ لهذا فقد تحوّلوا إلى نسور، إلى حيوانات تقتات على القمامة، إلى رجال تافهين بذيئين. و? أستثني الزنوج من وصفي هذا، فهم في كثير من ا?حيان، يفوقون أولئك التافهين سوءاً في عدة نواح. ربما كنت سأشعر بالخزي قلي?ً من قولي هذا، لو? أنني أمعنت التفكير، وانتهيت إلى أن شعوراً كهذا لن يساورني أبداً. و? أدري إذا كنت سأمتنع عن فعل أي شيء من أجل تحرير فوني من الحبس. لم يسبق لي أن صادفت هنا أحداً يشعر بالخزي، وأقصد خزياً استثنائياً كالذي كنت أقاومه، سوى أولئك السيدات السوداوات النشيطات، اللواتي تعوَّدن على مناداتي با?بنة، والبورتوريكيّات المتكبرات؛ اللواتي لم يفهمن ما الذي كان يحدث، ?ن كل من تحدّث إليهن لم يكن يعرف ا?سبانية. وشعور هؤ?ء بالخزي ينبع من أنهن أحببن سجناء. ولكنهن مخطئات في ذلك. أحرى بالمسؤولين عن هذه السجون أن يتمرغوا هم بالخزي والعار. مهما يكن من أمر، فأنا لم أكن أشعر بالعار ?رتباطي بفوني، بل كنت فخورة بذلك؛ فهو رجل حقيقي. ويمكن القول إنه وقع في هذه المصيبة ?نه رجل. أعترف بأني، في بعض ا?حيان، أشعر بالخوف ?ن الضيم الذي طالما ألحقوه بنا، كان أفظع من أن يتحمله بشر. ويتعين عليك إذن ترتيب أفكارك ما وسعك ذلك، بحيث تعيشين حياتك يوماً بعد يوم. فأنت لو حاولت التفكير بالمستقبل البعيد، فلن يكون ثمة طائل من ذلك. ............................................ هامش : * فصل من الرواية  
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©