الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ترياق الرواية

ترياق الرواية
20 مارس 2008 02:26
تداولت وسائل الإعلام أخباراً متضاربة عن احتضار الروائي غابرييل غارسيا ماركيز بسبب السرطان· والمؤكد أن الشغوفين بكتبه يتمنون لو كانت تلك الأخبار كاذبة، وملفقة، ولكنها حقائق الزمن التي لا سبيل إلى وقف تيارها الجارف، وهي حقائق سخر ماركيز منها في رسالته الأخيرة التي اعتبرت وصيته· ويتذكر جيل كامل كيف سُحر بماركيز خلال الربع الأخير من القرن الماضي، وبخاصة حينما نال جائزة نوبل عام ·1982 ولطالما استعدت ذكرياتي عن تلك الحقبة الذهبية في أكثر من مناسبة، فقد سمعت باسمه، أول مرة، في نهاية السبعينيات، حينما كنت أتردد على مكتبة المجلس الثقافي البريطاني في أحد شوارع الوزيرية المظللة بالأشجار في قلب بغداد، وهي مكتبة ثرية كانت تزوّد بأحدث الكتب الصادرة في العالم بالانجليزية· كان اسم ماركيز يتكرر في الصحف والمجلات المعروضة في المكتبة، وكثيراً ما كان يشار إلى روايته ''مائة عام من العزلة'' بحفاوة كبيرة· ولم يكن قد عرف بعد في الثقافة العربية· سلالة الشغف حصلت على الرواية من إحدى مكتبات الباب الشرقي بغداد في نهاية عام ،1980 وندر أن تفاعلت مع نص روائي كما تفاعلت مع هذه الرواية التي صدمتني كليا، وهزت كل تصوراتي عن الرواية، بداية من تذكّر لمسة الثلج المفاجئة في الصفحة الأولى إلى العاصفة التي تزيح قرية ''ماكوندو'' من الوجود في نهاية الكتاب قرأتها مرتين متتاليتين، وأنشأت ثبتا دقيقاً لفهارس الأجيال الستة من سلالة ''آل بوينديا'' لكي أتتبع التشعبات المعقّدة للأحداث والوقائع، ولأعرف الأنساب، والزوجات، وعلاقات السِفَاح، وطيران النساء، وإيقاعات الغجر، وكتائب المحاربين، فيها، وتبين لي أن السلالة تتحدر من ''خوزيه أركاديو'' الابن الأكبر لأركاديو بوينديا المرافق الشبق للغجريات، وليس من العقيد ''أورليانو'' الأخ الأصغر، مع أن الحضور الطاغي، في الفضاء السردي للرواية، كان للعقيد، وبخاصة علاقاته النسائية، وحروبه المتواصلة التي تتأرجح بين كونها حروبا ذات أهداف وطنية، أو حروبا عدمية، لا جدوى منها· ثم تابعت كافة أفراد سلالة ''آل بوينديا'' بشغفها المريع بكل شيء، وخاصة الحب والقتل، من ''أركاديو'' الأب إلى ''أورليانو'' الحزين، ولن ينسى قارئ مثلي طيران ''ريميدوس'' الجميلة إلى السماء محلّقة بأطراف الشراشف، ولا تخريفات الجدة الكبيرة ''أورسولا''· ومن ناحية أولى ألا أنسى الغجريات الناريات· هِمتُ بالنص وصرت أتحدث به مع نفسي، وحلمت كثيراً به، وتخليته نحواً من خمس سنوات، في لذة عارمة من التلقِّي المثير الذي ندر أن وقع معي إلا مع ''الدون كيخوته'' لثربانتس قبل ذلك، و''اسم الوردة'' لأمبرتو إيكو فيما بعد· صدرت الرواية في عام 1967 قبل أكثر من ثلاث عشرة سنة من اطلاعي عليها، وفي الثمانينيات، حينما غصت في عالم النقد الجديد، قرأت أن تودوروف اعتبرها ''ملحمة العصر الحديث''، فقد اشتقت معايير جديدة للبنية السردية في الفن الروائي، وأشاد بها كثير من كبار النقاد والروائيين· ومثلي شغف بها الملايين، فقد عرفتها كل لغات العالم الحية تقريباً· وحينما سئل ماركيز، مرة، عما يريد قوله في ''مائة عام من العزلة'' أجاب بما معناه· إنها حكاية أسرة تعتقد أنه إذا وقع فيها سِفَاح المحارم فإن الوليد سيكون له ذنب خنزير، وطوال مائة عام كرست كل وعيها وخبرتها وحرصها على ألا يقع هذا الأمر المحظور، لكنها من حيث لا تدري كانت تبذل قصارى جهدها لقرن كامل لكي يقع ذلك الحادث· فكرة الدنس، والسِفَاح، والعلاقات المحرمة، تتناثر في روايات ماركيز، وعموم الأدب الأمريكي اللاتيني، وجواب ماركيز عن السؤال يرفع نص الرواية من مستوى إلى مستوى آخر، يسمو بها لتكون إحدى أساطير المحارم، وهي لوحة عارمة بالمشاهد الملحمية الرمزية لتطلعات ذلك الجنس الحار من الهنود في الكاريبي، على خلفية من الصراعات والحروب الأهلية· رحلة في العالم الغرائبي آخر قراءاتي للرواية، وهي القراءة الرابعة، كانت في صيف عام ·1984 واحتفظت بالطبعة الأولى، وهي بترجمة الأخوين الجندي، ولم أستسغ أية ترجمة أخرى من الترجمات الكثيرة التي ظهرت بعد ذلك، وقد رافقتني تلك النسخة، منذ ذلك الوقت، حيث رحلت وحللت، ومع أن نحو ربع قرن قد مرّ على آخر قراءة لها، فإنني في حال من الترقب لأن أزيح الكتب الأخرى جانبا من جدول قراءاتي، وأشرع في قراءتها مجددا!!· فذلك هو الكتاب الذي يجتذبني إليه بقوة نادرة· قادتني هذه الرواية إلى العالم العجائبي الذي تخيله ماركيز في ما كوندو، وصدتني عنه في الوقت نفسه، صرت أترقب رواياته بشغف، فأتيت على كل ما ترجم له، أحببت بشكل مفرط روايته ''وقائع موت معلن عنه'' التي تحدد مسبقاً مقتل بطلها ''نصار''، وتقوم على واقعة حقيقية حدثت لشاب تعيس هو ابن إحدى صديقات أم ماركيز، وقد منعته أمه من كتابة الرواية، وبعد أن حدثها برغبته في ذلك، كي لا يستثير حزن صديقتها، إلى أن اتصلت به في برشلونة بعد ثلاثة عقود وأخبرته بوفاة الأم، ومنحته إذنا بالكتابة، وقد أورد كل تلك التفاصيل في سيرته الذاتية ''أن تعيش لتروي''· نعم ولا تعلقت برواية ''الحب في زمن الكوليرا'' للشيخوخة الباهرة التي تكتنز حباً لا مثيل له، والرغبة الجارفة بالنساء، والطاقة على المتعة واللهو عن أرملة ''ناثاريث''· وأحببت روايته القصيرة ''انديريرا البريئة وجدتها الشيطانية'' للقرار الذي اتخذته الجدة في بيع جسد حفيدتها حتى تفك ديونها، فتطوف بها قرى الكاريبي لذلك، وعشت لحظات ترقب وأنا أقرأ روايته القصيرة ''حكاية بحار غريق'' وهي في الأصل تحقيق صحفي قام ماركيز به في عام 1955حينما التقى احد الناجين الثمانية من كارثة كادت تغرق المدمرة الكولومبية ''كالداس'' ويدعي ''فلاسكو'' وقد كشف له معاناته طوال تلك الأيام المريرة في بحر عاصف· لكنني لم أتفاعل مع رواية ''خريف البطريرك'' ولم أتم قراءتها إلا بشق النفس، مع رغبتي الجارفة بمعرفة طبائع الاستبداد الذي صورته الرواية، ولم أتفاعل كثيراً مع رواية ''ليس للعقيد من يكاتبه'' فقد وجدتها قصة انتظار عقيد هرم لراتبه التقاعدي، خلال خدمته العسكرية في الحرب الأهلية، ولا وجدت استجابة من أي نوع ما تجاه رواية ''في ساعة نحس'' التي تعرض سلسلة من الفضائح الخادعة على سبيل الانتقام، وهي من رواياته المبكرة· وعزفت عن رواية ''الجنرال في متاهته'' التي خربت الصورة المتخيلة لسيمون بوليفار الضبابية في ذهني، وبوليفار هو الذي قاد حروب التحرير ضد الاستعمار الأسباني· وصدّتني الترجمة العربية السيئة جدا لسيرته الذاتية ''أن تعيش لتروي'' عن قبولها، وما وجدت فيها إلا تجارب ماركيز في السنوات العشرين الأولى من حياته، وليس فيها ما يثير العجب، ولا الفكر، ولا العبرة، وكثير منها أدرج من قبل في رواياته· ولم أحب كثيراً قصصه القصيرة، مع أنها تصور ببراعة العصافير المرتطمة بأسلاك الكهرباء بسبب حرارة الصيف الكاريبي، والأمطار الجارفة لجثث الحيوانات في الشوارع الطينية، باستثناء تلك القصة التي تقع أحداثها بين أسبانيا وفرنسا في ليلة عيد الميلاد، وفيها يتابع الراوي سيل الدم على الثلج عبر الجبال إلى باريس· وكثيراً ما فكرت لو أني اكتفيت بقراءة ''مائة عام من العزلة'' للحفاظ على تلك الدهشة الأخاذة، لكن القراءة كالترياق تحتمل الموت والشفاء، والقارئ مدمن على ذلك الترياق، وكتب ماركيز تميت وتشفي في آن واحد·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©