الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الوالد محمد علي سلطان اليبهوني: كنا مقطوعين عن الدنيـا وصرنا قبلة أنظارها

الوالد محمد علي سلطان اليبهوني: كنا مقطوعين عن الدنيـا وصرنا قبلة أنظارها
19 أغسطس 2007 01:47
شحن ذاكرته، وشحذ ذكرياته ليستعيد لنا وقائع الأيام السالفة، أجلسنا بجواره على بساط الحنين إلى الماضي بكل صعوباته ومشقاته وتضحياته التي أثمرت يسراً ورغداً وعطاء· استحضر لنا تاريخ أغلى الناس إلى قلبه، فقد كان ضيفنا محمد علي سلطان اليبهوني، من أوائل الملتحقين بالجيش في البلاد، وواحداً من كوكبة من المرافقين الملازمين للوالد زايد -رحمه الله-، عاصر أحلامه وطموحاته وقيام الاتحاد، ورأى بأم العين تحوّلات الوطن وأهله، وما تصنعه اليد البيضاء والأفكار الوضّاءة· فتح لنا اليبهوني بوابة داره وقلبه ليروي لنا شهادته ومشاهداته من خلال سيرة ذاتية، لغتها بسمات الرضى وتنهيدات الحنين وإيماءات اليدين وهزّ الرأس تأكيداً على أهمية الحياة حين نقضيها في تحدي الصعوبات، وتحقيق النجاح· ثمة فتى كان يجوب الصحارى في مطلع الخمسينات، يقطع المسافة بين مدينة العين وأبوظبي مع حِمْل من النخل والرطب واللومي والصخام، وحين يتعب من المسير، ينيخ الركاب ويرتاح قليلاً تحت شجرة صامدة لم تنحن ساقها تحت سياط الشمس الحارقة، وكثيراً ما كان يكسر بقايا صناديق الخشب التي تحوي بضائع انجليزية، ويشذبها على مقاس قدميه، ويربطها بحبل من جهتيها ليستخدمها كنعال يقي قدميه من سعير رمال الصحراء! لم يكن ذلك الفتى إلا اليبهوني الذي كان في عام 1953 شاباً لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره، انضم إلى الجيش آنذاك، وكان ضمن دفعة من الشباب قام بتدريبهم ضباط من الأردن، وكان يشرف على زملائه رغم حداثة سنه، نظراً لتميزه ولأنه يجيد قيادة السيارة التي تعلمها -مصادفة- قبل دخوله الجيش، وعلى الرغم من ذلك أصرّ بعد ثلاثة أعوام على ترك الجيش وهو برتبة ملازم، وكان قد تعلم اللغة الإنجليزية كمحادثة، لينضم إلى الوالد زايد -رحمه الله- للعمل ضمن مجموعة ترافقه وتعمل على إنجاز الأعمال والسفر والترحال معه، سواء لمتابعة شؤون المناطق وأهلها، أو للقنص، حيث رافقوه في رحلاته إلى مغاطة، وملاقة، وحفيت، وبير طوى، والحاثي، والخويرة، والوقن، ومديسيس وربما استغرق السفر شهراً· كنا في صحرا كانت الحياة آنذاك صعبة جداً، حتى إن اليبهوني لا يجد مفردات تصف قسوتها، لكن العفوية تسعفه لتنطلق من فمه عبارة مكثفة، بليغة، تختصر المشهد كله: كنا في صحرا مقطوعين عن الدنيا ، فالبيوت عبارة عن دعون و روايل و معاريض من الأخشاب و سعف النخل، موثقة بالحبال كي تتماسك وتصبح أكثر صلابة· أما بيوت الاسمنت فكانت نادرة جداً، أبرزها ما يعرف حالياً بـ قلعة المويجعي و متحف قصر العين · لكن زايد الخير، بدأ في الستينات بناء مشروع بيوت شعبيات الجاهلي فكان نصيب اليبهوني وربعه بيتاً لكل منهم، ومعها ألفا درهم لتأسيس المنزل، بأدوات المطبخ قدر، ملاس، خاشوقة، صينية، طاسة يشترونها من الدكان· إضافة إلى مندوس ووسائد وفراش النوم، وحصير الجلوس· أما امتداد مدينة العين فكان صحراء، وثمة مزارع نائية، لا تتوفر الماء فيها سوى في طوى آبار · وكان -رحمه الله- يخبرهم عن أحلامه ببناء بلد جميل ينتعش فيه الإنسان ويجد سبل حياة كريمة، ولم يكن معظمهم يعي كيف يمكن إنجاز ذلك! شاهد عصر رويداً رويداً، بوشر البناء، وتخطيط المدينة، وامتدت الطرق بين خزنة و رماح و المقام ، وصارت تلك المناطق متصلة بالعين، وبالتالي مع أبو ظبي· ومع أواخر الستينات بدأت العين تنتعش على كل صعيد -كما أبوظبي-، وبدت في الأفق بوادر لأحلام أكبر وأوسع· استفاد اليبهوني من تعلمه اللغة الإنجليزية وقيادة السيارة في سن مبكرة، خاصة وأنه مارسها خلال الجيش وبعده، فوجّه إليه الوالد زايد أن يشرف على المدارس في العين، لا سيما وأنه -رحمه الله- كان محباً للعلم حريصاً عليه، يدرك أهميته في بناء الإنسان والأوطان، فأمر ببناء العديد من المدارس في كل مناطق وقرى المنطقة التي لم يكن فيها سوى مدرسة النهيانية ، وهي المدرسة التي درس فيها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله وشقيقه سمو الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان· وبدأت سفينة البناء تمخر عباب النهضة بمجاذيف العلم والعمل، وسار بناء الإنسان مع بناء الأوطان· من البيت إلى المدرسة تمّ تعيين اليبهوني بقسم النقليات في مديرية التربية، فقام باستئجار مئات الباصات لنقل الطلاب والمدرسين، من بيوتهم إلى المدارس وبالعكس، بدءاً من تلامذة الروضة إلى الثانوية، وعن هذا العمل يقول بفخر: كان عدد البنات الدارسات يفوق عدد الأولاد، وكن معظمهن مجتهدات وحريصات على العلم، وكنت مسؤولاً ومؤتمناً على الجميع بمن فيهم المدرسين والمدرسات الذين أتوا إلينا من مصر وسورية وفلسطين واليمن، وقاموا بتدريس أبنائنا وبناتنا وبذلوا جهوداً كبيرة لأجل تعليمنا، فاحتضناهم بحب واحترام ورعاية· لقد صبروا على حرارة الطقس وصعوبته في بلادنا، منذ قصدوا العين للتدريس في مدارس عمرو بن العاص و أم أيمن و أسماء بنت أبي بكر وغيرها · كان اليبهوني يشرف على حركة سير أكثر من 500 باص وسيارة جيب لاندروفر، ومرسيدس، وشيفروليه، وضعت جميعها تحت تصرفه لخدمة قطاع المدارس· بعد قيام اتحاد الإمارات، أصبح رئيساً لقسم النقليات، ومسؤولاً حتى عن تنقل كبار ضيوف الدولة من وزراء التربية والتعليم وما إلى ذلك، غير أن رئاسته لهذا القطاع لم تدعه ينبهر بالمكانة والمنصب ويكتفي بالجلوس بين جدران المكتب، بل كان يتابع سير وحركة كل باصات المدارس، ومع افتتاح كل مدرسة جديدة، كان يعمل صباح مساء لتسهيل نقل الطلاب والطالبات، يقول: كنت أحفظ كل أرقام الباصات التابعة للقسم، وكل أسماء السائقين، ومواعيد دوامهم ودخولهم وخروجهم، وعودة الباصات، ومواعيد صيانتها، وكنت اعرف أي الطلاب يركبون في هذا الباص، وأي طلاب يركبون في ذاك · و مضى قطار العمر سنوات كثيرة تجاوزت عشرات السنين، قضاها في قطاع النقليات بالتربية، إلى أن تقاعد قبل عدة أعوام -نتيجة مرضٍ في القلب استلزم منه تبديل 12 شرياناً- بعد أن أسس هذا القطاع الحيوي، بحب ومسؤولية وثقة، كما أسس أسرة جميلة متماسكة، جميع أفرادها ناجحون ومتميزون، سار بعضهم على نهج الوالد ودخلوا الجيش ومنهم العقيد والمقدم، فضلاً عن كونه والد طيارين توفاهما الله، وكان لوفاتهما تباعاً أكبر الأثر وأشده ألماً على قلبه وقلب والدته التي لم تحتمل الفجيعة طويلاً، فودعت الدنيا على أمل اللقاء بهما، يقول اليبهوني: في حياتها وبعد مماتها لم أرغب بالزواج من سواها، حاول بعض الأهل والصحبة أن يدفعوا بي إلى الزواج، لكنني أحببتها واحترمتها ولم أرغب بسواها زوجة وأماً لأبنائي··· ولا يزال مندوس أغراضها رحمها الله موجوداً في غرفة نومها، وحتى ثيابها وحليها موجودة لم يمسها أحد ! يضيف: ما يعزيني نجاح أولادي في علمهم وعملهم، بناتي، إحداهن مديرة مدرسة والثانية وكيلة، وأبنائي يعملون في أهم القطاعات: القوات المسلحة والاتصالات و المالية والأعمال الخاصة· بشرى وأمنية ونحن نهمّ بالخروج من داره، صافحنا بأبوّة، ووجهٍ باسم، وقال بلهجته وأسلوبه العفوي الصادق: أبشركم، من خلّف ما مات، الحمد لله بلادنا تسير دائماً إلى الأعلى، فعيال زايد مثل أبوهم فيهم الخير والبركة والكرم، ومثلما علمنا جميعاً حب الوطن وبناء نهضته، علّم أنجاله الكرام محبة الوطن والمواطنين· لذلك نحن بخير بفضل من الله سبحانه وتعالى، وبفضل صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نيهان حفظه الله خير خلف لخير سلف · أما أمنيته لأبناء وبنات الإمارات فكانت: أن يهتموا بالعلم كثيراً، وأن يعملوا في كل قطاع متاح لهم، فالعمل شرف ويكسبهم التجارب الحياتية، كما تمنى أن يلتزموا بتعاليم دينهم، ويحافظوا على مكتسباتهم الوطنية وإنجازاتهم الحضارية·
المصدر: العين
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©