الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«نحو مستقبل مثالي»... أدوات التطوّر في العصر الرقمي

«نحو مستقبل مثالي»... أدوات التطوّر في العصر الرقمي
11 فبراير 2014 23:12
تأليف: ستيفن جونسون ترجمة وعرض: عدنان عضيمة هذا هو أحدث كتاب للمؤلف والباحث «ستيفن جونسون» الذي سبق له أن شغل الأوساط العلمية والأكاديمية خلال الأشهر الماضية بكتاب آخر تحت عنوان (كيف تجعل الأخبار السيئة جيدة) عرض فيه لفلسفته التي تدعو إلى العمل الجماعي المتكامل لمراكز البحوث والعلماء والحكومات من أجل تحقيق التطوّر والتقدم العلمي والتكنولوجي المنشود والبعيد عن العثرات والأخطاء والمُنزّه عن الغايات والأهداف المشبوهة. ويأتي كتابه الجديد «الأداء الأمثل للعمل في المستقبل» لهدف استكمال الأفكار والرؤى التي عرضها في كتابه المذكور، وهي التي سنعرض لخلاصتها. وألّف «جونسون» حتى الآن ثمانية كتب رصينة في شؤون العلم والتكنولوجيا جعلت منه واحداً من مشاهير المبدعين والمفكرين في عصر الإنترنت على الرغم من أنه لم يبلغ الخمسين (ولد عام 1968). وهو يذكرنا بأهمية وجرأة الطروحات التي سبق أن قدمها فلاسفة وكتّاب كبار من أمثال «كولن ولسون» صاحب كتابي «سقوط الحضارة» و«اللامنتمي» في الخمسينيات، أو «ألفين توفلر» صاحب «الموجة الثالثة أو صدمة المستقبل» الذي نشره عام 1980 وأدرج فيه نبوءات صادقة باستفاقة مقبلة للدول النامية وانطلاق ثورة المعلومات أواخر القرن العشرين، أو «ميشيو كاكو» صاحب الكتاب العلمي الاستشرافي الجامع «رؤى.. كيف سيثوّر العلم القرن الحادي والعشرين» الذي نشره عام 1998 وأحدث دويّاً علمياً وثقافياً لا يزال يتردد صداه في الأوساط العلمية والاجتماعية، أو «بيل جيتس» رائد ثورة المعلومات وصاحب الكتاب الاستشرافي «العمل وسرعة التفكير في عصر النظام العصبي الرقمي» الذي نشر عام 2000 وسجّل من خلاله نجاحاً منقطع النظير في استقراء المسيرة التطورية المتسارعة للعصر الرقمي التي نعيش تداعياتها الآن. يقع الكتاب في 225 صفحة من القطع المتوسط مقسمة إلى مقدمة بعنوان: (نحو تطوّر حقيقي)، وفصلين، الأول بعنوان: (التقدّم النزيه)، والثاني بعنوان: (الشبكات الرقمية قيد العمل)، ويضم ستة رؤوس موضوعات هي: المجتمعات، الصحافة، التكنولوجيا، الحوافز، الحوكمة، الشركات ورؤوس الأموال. وخاتمة بعنوان: (المجتمع النبيل). النمط الجديد يقول «جونسون» في مقدمة كتابه إننا نشهد الآن نشوء نمط جديد من التحول السياسي من شأنه أن يغيّر كل شيء، من طريقة عمل الحكومات وحتى أسلوب التعليم في صفوف الطلاب، ومن أسلوب عمل الأحزاب والجماعات السياسية وحتى طرق تقديم الرعاية الصحية للمواطنين. ويرسم صورة ناطقة لهذا التغير الذي سيأتي كنتيجة لتوثيق أواصر التعاون والتواصل الفعّال بين الحكومات ومراكز البحوث والعلماء والمفكرين بفضل القدرات الهائلة لشبكة الإنترنت على تحقيق هذا الهدف. ويعرض لهذه الرؤى عبر طرح أمثلة ونماذج مثيرة حول مشاريع بحثية كان نصيب بعضها أن يؤول إلى الفشل فيما سجّل بعضها الآخر نجاحاً منقطع النظير. ويركّز في كتابه على وضع أسباب الفشل ومقومات النجاح في كل واحد من هذه الأمثلة موضع البحث والتحليل من أجل وضع الأطر والشروط اللازمة للنجاح في عصر الشبكات الرقمية. يقول جونسون في المثال الأول الذي يطرحه في كتابه إن تحطّم طائرات الركاب يُعدّ من الأحداث القليلة التي تحتل الواجهات الرئيسية للصحف ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة. وعادة ما يكون من غير المثير لاهتمامات القراء على الإطلاق أن تنشر صحيفة ما خبراً لحادث طائرة ركّاب لم يقع!. ومع ذلك، فلقد نشرت صحيفة USA Today في عدد 12 يناير 2012 مقالاً رئيسياً تصدّر صفحتها الأولى تحت عنوان (شركات الطيران تقضي عامين من دون تسجيل أي حادث مميت). وجاء في المقال أن صناعة الطيران التجاري في الولايات المتحدة حققت تقدماً غير مسبوق في التاريخ الحديث. وبالرغم من التزايد الهائل لعدد الرحلات الجوية بالمقارنة مع العقود السابقة، لم يتم تسجيل أية حالة موت على الإطلاق بحادث طائرة خلال عامي 2007 و2008. إلا أن هذا الرقم القياسي في سلامة الطيران التجاري لم يأتِ من عبث، ولا كان وليد الصدفة، بل هو ثمرة بحوث علمية معقدة أعقبت الهجوم الإرهابي الشهير على الولايات المتحدة في 11 سبتمير 2001. وكان من نتيجتها أن انخفض احتمال الوفاة بحوادث الطيران إلى 19 شخصاً من بين كل مليار مسافر، وهو أخفض بمائة مرة مما كان عليه في أعوام التسعينيات. الانحياز للأخبار السيئة وينقل جونسون عن البروفيسور «أرنولد بارنيت» الأستاذ المحاضر في معهد ماساشوسيتس للتقنية تعقيبه على هذا الإنجاز الكبير حين رأى أنه يعني أن الطفل الأميركي أصبح يتمتع بحظ أوفر لأن يتم انتخابه رئيساً للولايات المتحدة خلال فترة حياته بدلاً من السقوط صريعاً في حادث طائرة. ومن جهة أخرى، يرى «جونسون» في هذا الإنجاز واحـداً من مظاهر قصـور الصحافـة التي لا تهتم إلا بالتعرض لحوادث الطائرات مقابل إهمالها لما يجري في كواليس مراكز البحوث من ابتكارات مذهلة لمنع هذه الحوادث. ويفسر هذا التوجّه في أنه ينسجم مع سعي الصحف لبيع أكبر عدد من النسخ، وذلك لأن حوادث الطائرات تجتذب الكثير من القراء، وأما بحوث تطوير الطائرات فلا تجتذب إلا القليلين. ويتهم جونسون الصحف بأنها تولي أكبر اهتمام للأخبار السيئة بشكل عام حتى أصبحت تعمل وفق مبدأ «عندما تنزف الدماء نتقدم أكثر». ولقد دفعه هذا المثال للتساؤل عن مدى مصداقية الناس أنفسهم في العمل ضمن مجتمعاتهم. ويضيف إلى ذلك قوله: «نحن لا نتوقف عن سماع الأخبار المتعلقة بالحروب والكوارث، إلا أن أخبار وقصص المآثر العلمية والتكنولوجية التي يحققها أولئك الذين ينكبّون على البحوث من أجل ضمان سلامتنا وتحسين مستوى عيشنا، لا تجد لها مكاناً إلا في آخر صفحات الصحف أو في نهايات نشرات الأخبار». فضائل التفكير الجماعي عقب قراءته لمقال الصحيفة، سارع «جونسون» لكتابة مقال تحليلي حول الموضوع على أحد مواقع الإنترنت قال فيه إن المقال يوحي بانخفاض أعداد الناس المصابين بما يسمى «رُهاب الطيران»، وهم الذين اقتنعوا الآن بأن السفر الجوي يغنيهم عن السفر على الطرق السريعة والذي يستهلك الكثير من الوقت ويعرضهم لاحتمالات أكبر للخطر. ولم تمرّ إلا ساعات قليلة على كتابة «جونسون» لمقاله، حتى وصلتـه حزمة من الرسائـل النصّية عبر جهـاز «الموبايل» تنتقد ما كتبـه قبل قليل وتخبره بوقـوع حادث للرحلة رقم 1549 لطائرة ركاب من طراز «إيربـاص إيــه 320-214» تابعــة لشركـة US Airways بعد دقائق قليلة من إقلاعها من مطار «لاجارديا» في نيويورك ونجح قائدها بالهبوط بها في نهر هودسون القريب من المطار بتاريخ 15 يناير 2009. وسرعان ما تناقلت وكالات الأنباء خبر نجاة ركابها جميعاً البالغ عددهم 155 من دون تسجيل إصابات أو جروح خطيرة لأي منهم. وكان السؤال المطروح: ما الذي جعل هذه الطائرة تنجح في الهبوط الآمن على الرغم من تعطّل محركيها بعد لحظات من إقلاعها؟ أخطاء صحفية وعندما حاولت الصحافة ووسائل الإعلام الإجابة على هذا السؤال، ارتكبت خطأً آخر لأنها قصرت سبب هذا النجاح على عاملين اثنين، يتعلق الأول بـ«الأداء المثالي» والبطولي لربّان الطائرة الكابتن «تشيلسي سولينبورجر» الذي كان حاضر الذهن لحظة وقوع الحادث، ويتعلق الثاني بالسرعة الفائقة التي اتخذ بها قراره الفوري بالتوجه إلى نهر هودسون بالرغم مما كان يتعرض له فـي تلـك اللحظة من ضغوط نفسية مرافقة لهذا الحدث المفاجئ والخطير. «مدفع الدجاج» وبالرغم من أن أحداً لا يمكنه أن ينكر فضل الربّان في إنقاذ الركاب، إلا أن الصحافة ووسائل الإعلام لم تكن تعلم بوجود سبب أساسي آخر لنجاتهم هو ابتكار جهاز غريب لبحوث سلامة الطيران يدعى «مدفع الدجاج» Chicken gun. وكان من المعلوم أن اصطدام الطيور بالمحركات النفاثة للطائرات هو واحد من أكبر الأخطار التي تتعرض لها الطائرات التجارية، وهو الذي يقف وراء تعطل محركي طائرة نهر هودسون. وعندما «يبتلع» المحرك سرباً صغيراً من طيور الأوز الكندية فإنه يحدث فيه تلفاً يمكن أن يوقفه عن العمل أو يؤدي لانفجاره وتفتيته وتطاير قطعه وشظاياه التي قد تخترق هيكل الطائرة وتصيب ركابها أو تفقدها توازنها بشكل كامل. ومن أجل تجنب مثل هذا الخطر، يتم إخضاع كل محركات الطائرات الحديثة لاختبارات تهدف للوقوف على مدى تحملها لاصطدام الطيور قبل منحها شهادة الصلاحية للطيران. وتُجرى هذه الاختبارات من دون انقطاع في «قاعدة أرنولد» التابعة للقوات الجوية الأميركية في ولاية تينيسي. ويشتمل الاختبار على تدوير المحرك بالسرعة العادية للتحليق، ثم يتم قذفه بالدجاج النافق (المصعوق كهربائياً) والمدفوع بقوة ضغط غاز الهليوم ضمن أنبوب مدفع تم تصميمه لهذه الغاية. ويقول جونسون: «يجب الانتباه هنا إلى أن مدفع الدجاج لا يمثل في هذا الكتاب أكثر من مثال نموذجي حول أهمية صياغة التشريعات والقوانين الحكومية التي تهدف إلى تعزيز السلامة والأمن الاجتماعي بشكل عام. ولم تكن نجاة ركاب الطائرة ضربة حظ بقدر ما هو ضربة موفقة للرؤية الثاقبة للخبراء والباحثين الذين يتكفلون بابتكار الأنظمة التي تضمن أمن البشر وسلامتهم وجودة أداء الأجهزة والأدوات التي نستخدمها أو نعتمد عليها ليس في حقل الطيران التجاري فحسب، بل وفي كافة ضروب العمل والنشاط». ويُذكّر «جونسون» أيضاً بأن نجاة ركاب طائرة نهر هودسون، لا يعود لتلك الأسباب المذكورة وحدها، بل وأيضاً لجهود مضنية بذلها خبراء «إدارة الطيران والفضاء الوطنية» NASA عام 1972 عندما نجحوا في ابتكار نظام «الطيران بالسلك» fly by wire الذي يعتمد على أجهزة كمبيوتر مخصصة للحفاظ على توازن الطائرة أثناء التحليق. ويعزى لهذا النظام فضل بقاء طائرة نهر هودسون متوازنة بعد تعطّل محركيها وحتى هبوطها في النهر. وهذا يعني أن نجاة الركاب جاءت نتيجة جهود بحثية شارك فيها آلاف التقنيين والخبراء على مدى عقود متواصلة. ومن المنتظر أن يزداد التوجّه لدى الخبراء لتفعيل جهودهم من أجل الحفاظ على سلامة البشر وتسهيل أعمالهم في كافة مجالات النشاط، خاصة وأن الإنترنت أصبحت بيئة مفتوحة لتسهيل التعاون وتبادل الخبرات وتطوير الأداء. ديمقراطية الإنترنت ويعرض «جونسون» لمقارنة مثيرة بين «الأنظمة السياسية» و«نظام الإنترنت» فيقول إنه في الوقت الذي تتردد فيه حكمة شائعة تقول إن النظام السياسي العالمي أصبح عامراً بأفكار ورؤى تقليدية بالية لم تعد تصلح لقيادة العالم الجديد، إلا أن إحراز التقدم والتطور الذي تحلم به البشرية ما زال ممكناً عن طريق حلول جديدة تتيحها شبكات التواصل الإلكترونية وعلى رأسها الإنترنت من خلال التعاون على تجنّب السلبيات التي طبعت مناهج العمل والإنجاز القديمة وتبنّي الأساليب المبنية على التخطيط المتكامل والتفكير التعاوني الفعّال. ويتيح توفّر المعلومات والبيانات الهائلة حول التجارب والبحوث السابقة في كافة مجالات النشاط البشري فرصة دائمة للنجاح. وهذه الأفكار التي يتردد صداها في جنبات الكتاب، تنطوي على نظرة يعمرها التفاؤل حول المستقبل. وكانت معظم دول العالم ولا تزال تعيش تجارب مريرة مع أنظمة الحكم الاستبدادية. وصحيح أن قابلية الناس لاختيار قادتهم عن طريق الانتخابات الحرة في الدول الديموقراطية تفرز حكومات أكثر ميلاً للوقوف على أوضاع الناس حتى في المناطق المنعزلة بالمقارنة مع الحكومات الملكية أو الاستبدادية، إلا أن جميع الدول الديموقراطية تقريباً سرعان ما تتحول من جديد إلى نظام الحكم المركزي عشيّة انتهاء الانتخابات، وتعود السلطة السياسية والتنفيذية وآليات صنع القرار فيها إلى القيادة المنتخبة المنفصلة عن الشعب. ولقد أوشك هذا الواقع على التغير الآن بفضل التكنولوجيا. وينبّه المؤلف في هذا المجال إلى أن شبكة الإنترنت لا تمثل في الحقيقة المظهر الجديد للديمواقراطية مثلما درج الناس على النظر إليها. وليس هناك أجهزة «سوبركومبيوتر» منتخبة شعبياً يمكنها أن تضع أطراً محددة لطرق استخدام الشبكة، ولم تعمد تجمعات أو فئات من مستخدمي الإنترنت على انتخاب مجموعات من القادة ليحددوا الشكل الذي يجب أن تظهر به صفحات واجهة محركات البحث أمام مستخدميها. ونحن نفترض بأن الحلول الناجعة للمشاكل التي يعاني منها البشر سوف تنبثق من الأطراف البعيدة لشبكة الإنترنت، أي من المنظمات التطوّعية (غير الربحيّة)، ومن «القراصنة العبقريين أصحاب التوجّهات النبيلة»، والأكاديميين، والشركات الناشئة الصغيرة التي أصبحت العشرات منها تظهر إلى حيّز الوجود كل يوم. ويتابع جونسون هذا الوصف فيقول إن الإنترنت ليست نظاماً معاكساً للديكتاتورية يكون فيه الحكم والسلطة ممثلة بطريقة تصاعدية من «القاعدة إلى القمة»، وهو الاعتقاد الخاطئ الذي يسود بين الناس. وذلك لأن «نظام القاعدة والقمة» يعني بالضرورة وجود قمّة تتجسّد في صورة قيادة تقدم خدماتها للقاعدة، ولكنّ مصممي بروتوكول الإنترنت من أمثال «باران» و«سيرف» حرصوا على ألا تتمكن أية جهة من التحكم فيها بشكل مطلق، بل صمموها على أساس أن يساهم كل إنسان بالتحكم فيها بشكل جزئي. وسرعان ما اتضح بعد ذلك أن هذا النظام كان بمثابة الحل السحري للمشاكل التي كانت تعيق المشاركة في المعلومات على المستوى العالمي. ولقد حاولت الكثير من الشركات الكبرى العاملة في تكنولوجيا المعلومات، ومنها «مايكروسوفت» و«آبل»، بناء شبكات عالمية خاصة بها نظيرة للإنترنت أو منافسة لها وبحيث تشرف عليها وتحتكر خدماتها، ولكنها فشلت في هذا المسعى بعد أن أنفقت مليارات الدولارات. وهذا يعني ببساطة أن الإنترنت هي الكيان الوحيد الذي ابتدعه البشر بحيث يستفيد منه الجميع من دون أن تتمكن أية جهة من احتكاره لنفسها مهما امتلكت من أدوات وإمكانيات . تصحيح المفاهيم يحذّر «جونسون» من يسميهم «التقدميون النزيهون» peer progressives، وهم الذين يعملون بجدّ على استخدام الشبكة في حل المشاكل المستعصية للبشر، من التعامل مع الإنترنت وكأنها تشبه دواء ناجعاً لعلاج كل الأمراض. فهل يعني ذلك أنهم ينظرون إليها باعتبارها تمثل تكنولوجيا طبيعية خالصة يمكن استعمالها بسهولة لإنجاز الأعمال الطيبة؟ وماذا عن أولئك الذين يستغلونها لتحقيق مآرب دنئية كالإرهابيين ومروجي المخدرات؟ صحيح أن الإنترنت هي مجرّد أداة بغض النظر عن القيم والمعتقدات التي تؤثر على طريقة استخدامها. ولقد عمد «التقدميون النزيهون» إلى وضع مجموعة شديدة الوضوح من القيَم الأخلاقية التي يجب تطبيقها أثناء ممارسة طقوس استخدام الإنترنت استمدّوها من الشعارات التي ترفعها المذاهب التقدمية السياسية كالمساواة والمشاركة الجماعية والتنوّع. وأصبحوا يسعون من خلال ذلك إلى المساهمة في وضع حلول فعالة لجميع المشاكل التي يصادفها البشر في حياتهم مهما اختلفت ألوانهم وتوجّهاتهم ومشاربهم. وحتى تكون «تقدمياً نزيهاً»، يتحتم عليك أن تقتنع أولاً أن مفتاح التقدم والتطور يكمن في بناء «الشبكات النزيهة» peer networks في العديد من نشاطات الحياة البشرية، كالتعليم، والرعاية الصحية، وصيانة المظاهر العامة للمدينة التي تعيش فيها وغيرها من المبادرات المفيدة بما فيها حل المشاكل ذات العلاقة بالحكومة. وعندما يتضح أن هناك مشكلة اجتماعية لم يتم علاجها، فيجب أن يتمثل أول رّدّ فعلٍ للتقدميين النزيهين في بناء «شبكة نزيهة» لحل تلك المشكلة. ويمكن لبعض تلك الشبكات أن تعتمد بشكل مكثّف على تكنولوجيا الشبكات الرقمية وعلى رأسها الإنترنت. وبهذه الطريقة، يكون جونسون من أوائل القائلين بضرورة مشاركة كل البشر في حل مشاكل العالم بالاعتماد على شبكة الإنترنت. العمل التطوعي النزيه قبل أقل من 20 عاماً، كانت «الموسوعة البريطانية» الشهيرة أحد أهم منابع العلوم والمعارف المؤرشفة في العالم أجمع. وكانت توصف بأنها قاموس البشرية الجامع في مجالات الفنون والعلوم. وتميزت بدقة محتواها ودقة عرضها للمعارف البشرية. وصدرت لأول مرة عام 1809 في ست مجموعات يتألف كل منها من 150 كتاباً. ورأس تحريرها منذ انطلاقتها الأولى «ويليام نيكلسون» إلا أن موادها كانت تحت الرقابة المشددة لخبيرة الموسوعات «جيرميا جويس». وكان يشرف على إنتاجها ائتلاف يضم 20 من كبريات دور النشر البريطانية من أشهرها «لونجمان»، وكانت تتقاسم أرباح بيعها. وبعد أكثر من قرنين من النجاح منقطع النظير، جاءت الإنترنت لتقذف بالموسوعة البريطانية الرائدة إلى متاحف التراث الثقافي القديم. وبالرغم من أن القيّمين عليها سارعوا إلى نقل موادها إلى خط الإنترنت حتى تتمكن من مسايرة عصرها، إلا أن الموسوعات الإلكترونية ذات التحرير الجماعي استلبت شهرتها وأطفأت نجمها. واختار جونسون «ويكيبيديا» Wikipedia كمثال نموذجي عن الموسوعات الإلكترونية التي تجمع محتواها وموادها من خلال النشاط الجماعي لكل سكان الأرض وفي معظم اللغات التي ينطقون بها. وهو يعتبرها نموذجاً «لاقتصاد التبرّع بالمجهود» لأن القيّمين على تنظيمها بالإضافة لملايين المساهمين في تحريرها والمتوزعين في مشارق الأرض ومغاربها، لا يتقاضون أي أجر على مجهوداتهم. واليوم، وبالرغم من أن عمرها لا يزيد على عقدين، فإن محتواها المعرفي باللغات المختلفة يضم عشرات ملايين الصفحات. «اقتصاد الهدية» يرى جونسون أن الأعمال التطوعية المفيدة التي تتم عن طريق الإنترنت لا تتعلق بتأليف الموسوعات الإلكترونية فحسب، بل بمختلف أوجه النشاطات البشرية. ويقول في هذا الصدد إن الإنترنت واصلت انتشارها وتضخمها وتنوعها من دون انقطاع على الرغم من أن قسماً صغيراً من محتواها يحمل طابع الربح المالي. وإذا كان من المؤكد أن شركات تكنولوجية كبرى مثل «ياهو» وAOL ستواصل حصد الأرباح والعوائد من خلال تقديم خدمات محركات البحث وتشغيل مواقع البريد الإلكتروني، فإن المئات من المواقع المجانية المفيدة تظهر إلى الوجود كل يوم تحت شعار «اقتصاد الهديّة» gift economy والذي يمثل الوجه المشرق للتعاون البشري في المستقبل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©