الجمعة 10 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

"الصرة" حصباة تكشفت حكاياتها بفنون المسرح

"الصرة" حصباة تكشفت حكاياتها بفنون المسرح
27 يوليو 2007 05:59
من يرتقي بمن·· التأليف أم الإخراج المسرحي؟، تلك هي إشراقة وإبهار المسرح الذي قد يكمل فيه أحدهما الآخر·· التأليف لجمعة علي والإخراج لعارف سلطان وكلاهما مبدع تسابق في إبهار الجمهور ليلة أمس الأول في عرضهما المسرحي ''الصرّة'' على مسرح المجمع الثقافي في أبوظبي ضمن المهرجان المسرحي 2007 الذي تقيمه جمعية المسرحيين· مواهب ذكية تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً قدمتها جمعية كلباء للفنون الشعبية والمسرح حين تعاملت مع نص جمع بين ''الحاضر'' و''الماضي'' فاحتوتهما معاً·· أما الحاضر فهو يلخص حكاية بحارة خمسة في قارب وسط بحر تائهين يبحثون عن الخلاص بعد يومين من هروبهم ويعانون شح الماء والغذاء، مصائر مجهولة يترقبهم موت منتظر، أما الماضي فهو حكاية كل فرد منهم تلك الحكايات التي دفعتهم لركوب البحر، ولكن كيف يستعيدون هذا الماضي ويقدمونه بكل عوالمه المصورة كي يتحول الحوار فيه إلى حقيقة واقعة هنا على مستوى النص المكتوب نجد الكلام ''الحاضر'' يجاور الكلام ''الماضي'' أي الورق يجاور الورق، بينما على مستوى العرض لابد من مشهد ''حاضر'' يجاور مشهداً ''ماضياً'' عن طريق الـ''فلاش باك'' حينها لابد للإخراج أن يلعب لعبته بإتقان وبراعة واضحين· عرض يبدأ بغناء شجي، حزين وسفينة صغيرة تدعى ''الماشوّة'' تحمل خمسة بحارة وتنفتح المصابيح ''الفنرات'' ليضاء المسرح، أنه مشهد سينمائي بكل تجلياته، هم بحارة تائهون، بحار مريض ''عادل الرئيسي'' وسعيد ابن النوخذة ''جمعة علي'' ومبارك العاشق ''عادل سبيت'' وعيسى ''عبد الرحمن الملا'' وسبيت ''أحمد إسماعيل''· تبدأ المعاناة عندما يتيقن البحارة الخمسة أنهم تائهون فعلاً فيتصاعد الفعل الدرامي الذي يبتدئ مع مبارك العاشق الذي يبدأ بسرد حكاية مشاركته في هذه الرحلة على ضوء شرط تعجيزي وضعه جابر شقيق فاطمة حبيبته التي وافق أبوها قبل موته على زواجها منه، إلا أن جابر يشترط عليه أن يكون مهرها ''الحصباة'' وهي اللؤلؤة الكبيرة التي ''هي حصاة ما شافتها عيون طواش'' فيركب البحر باحثاً عنها كي يقدمها مهراً لفاطمة·· تلك حكاية ''مضمنة'' داخل الحكاية الكبرى ''ضياع البحارة في قارب''·· لابد للمخرج أن يجسد الحكاية المضمنة التي تعني الماضي وعليه من الضروري أن يعود لا بالكلمات بل بالمشهدية إلى الزمن الماضي ''فلاش باك'' فيلعب على جسد القارب الذي ينفتح فجأة ليتحول إلى مصاطب تجري عليها الحكاية حين تقدم مبارك لخطبة فاطمة·· هنا بين هذا التحول تظهر مشكلة ''فراغية'' عند القفز من الحاضر - السفينة - الى الماضي - البيت - إلا أن ''عارف سلطان'' يملأها بالغناء الذي يصدح من حنجرة الرئيسي وما بين الشجو الجميل والمشهد المعتم تملأ تلك الفاصلة الفراغية لنكتشف اننا وسط الحكاية المضمنة ومثلما ذهب المخرج عارف سلطان للماضي يعود بنفس الطريقة الى الحاضر ''الحكاية الكبرى - القارب التائه''· بعد تلك العودة تنهض قصة المريض الذي ذهب الى البحر لسداد دين عليه حمله اياه النوخذة·· وكذلك قصة ''عيسى'' الذي قام بدوره عبدالرحمن الملا الذي يرويها على البحارة حيث معاناته من النوخذة بمصادرة أرض ابيه وكي يسترجعها فعليه ان يدفع ثمنها لؤلواً بذهابه إلى الأهوال والمخاطر المحدقة·· ومثلما أعاد عارف سلطان في قصة العاشق مبارك إلى الماضي استخدم ذات التقنية كي يعيد عيسى بطلا في قصته مع النوخذة، ينفتح القارب على جلسة بمصاطب الماضي وفجوة استبدالية تنهض فتملأ بالغناء ثم يكتمل مشهد الماضي لتتكرر طريقة الرجوع الى الحاضر· هنا يصبح الغناء مقترنا بالشعر وهما وسيلتان لتذكر الماضي، ومع كل هذه الصراعات فإن الغناء يوظف كي يجسد الألم في داخل هذا الصراع الذي جلّه بين النوخذة والفقراء أو كما وصفه عيسى بالبحث عن الكرامة والحرية، وكأن صراع الإنسان مع البحر هو صراع الإنسان ذاته مع النوخذة، بقدر ما يكون البحر غادراً فإن النوخذة أكثر غدراً، ذلك هو صراع الناس مع الرغبات اللا متحققة على الأرض حين يتحول إلى صراع الناس مع الأماني في البحر التي ربما تتحقق· قدمت الأغاني بصوت منفرد بلا موسيقى تجسد ترديدات البحارة وأغانيهم الذاتية التي لا يسمع فيها إلا الطبيعة وهي تعزف صوت الريح، وصوت الموج وصوت حركة القارب الحزين الذاهب إلى المجهول ''الموت''· يموت المريض فينفتح القارب على مقدمة المسرح، كما ينفتح التابوت إلا أن لجة البحر هي القبر ثم يغلق القارب لتتوارى الجثة·· أنها براعة التجسيد التي هي رؤية إبداعية أجادها المخرج عارف سلطان بإتقان وابتكار واضحين· يكتشف سعيد ابن النوخذة أن عيسى قتل النوخذة وسرق ''صرّة'' اللؤلؤة التي تحمل عدداً من ''الحصباة'' يقف سبيت ضد السرقة بمنتهى الأخلاقية بالرغم من العذابات الموجعة تبقى القيم متأصلة في ذات الفقراء الذين لم يطلبوا إلا الكرامة· عند لحظة اكتشاف السرقة والجدل المستعر والموت المنتظر يهيج البحر وتأتي العاصفة عبر حركة مفاجئة وخاطفة وأضواء تتساقط وتختفي وأمواج تعلو آتية من عمق المسرح، والقارب يسحب بحبال إلى العمق بعكس اتجاه الموج الآتي نحو مقدمة المسرح وغياهب الموت يأتي منها حوارات وأصوات عالية، متقطعة لهؤلاء البحارة وكأن البحر ينتقم لكنوزه انه لا يهدأ إلا عندما تلقى اللآلئ اليه بصراخ سعيد ابن النوخذة الذي يحثهم على ارجاع اللؤلؤ كي يهدأ البحر إلا أن البحر لا يعرف الانتظار فيغرقهم جميعاً، هنا ولأول مرة تستخدم الموسيقى حيث يضيع الغناء مادام المغني قد غادر الحياة صراخ هائل تحت الموج، تخفت بعد لحظات تلك الأمواج الكبيرة وتنتهي المسرحية والحكاية كلها بموت الأماني الضائعة جميعاً· ابتكارات إخراجية مدهشة، لغة يومية بسيطة تمتلك شعريتها وتقنيات فاعلة جسدت الأجواء المختلفة ''البحر - الأرض'' معاً·· ولكي نسجل لهؤلاء الشباب الخمسة براعتهم لابد من تأكيد أن أحمد إسماعيل قام بدورين معاً وجمعة علي بثلاثة أدوار ''سند، ابن النوخذة، النوخذة'' وعادل سبيت بدور مبارك وعادل الرئيسي بدورين معاً هما ''سعيد النهام ودور المريض'' وعبد الرحمن الملا بدورين معاً هما ''عيسى وجابر''·· كما أن المخرج عارف سلطان أراد أن يحط من شخصية جابر شقيق فاطمة فوضع فيه عيباً لفظياً كي تتواءم هذه الشخصية المهزوزة والمخادعة مع ما ينقصه من قدرة على عدم التلفظ السليم، لكننا نقول أخيراً من ارتقى بمن، التأليف أم الإخراج في مثل هذا العمل الذي كشف عن مواهب رائعة حقاً؟·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©