الخميس 9 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

سحــر الموجــي تبلــغ ذروة طاقتهــا الإبـداعـيـة

16 يوليو 2007 00:35
سحر الموجي مبدعة مصرية شجاعة في الأربعينيات من عمرها، تجمع بين الحياة الأكاديمية بتدريس الأدب الإنجليزي في الجامعة، والحياة الإعلامية بالكتابة في الصحف والعمل فى الإذاعة الموجهة لأوروبا· أصدرت مجموعتين قصصيتين وروايتها الأم، أو عملها ''الأستاذ'' أو ''أوبرا مايسترا'' ـ كما يقول الغربيون ـ بعنوان ملغز ومكتنز بالدلالات هو ''نون'' وكأنها تضع أمامنا قطعة من ''الكانفاه''، الباذخة المطرزة بخيوط ذهبية من الأساطير والأشعار، والمنسوجة من حرير حياة المرأة المعاصرة· تقدم فيها خلاصة مقطرة لثقافتها المصرية والإنجليزية العميقة، الضاربة في شعرية التاريخ والوجدان· وكأن كل ما كتبته سحر الموجي من قبل كان مجرد تمهيد لهذا العمل الفذ الذي تبلغ فيه ذروة طاقتها الإبداعية· عناقيد المفارقات: تتألف الرواية، بصفحاتها التي تصل إلى ثلاثمائة وسبعين صفحة، من أربعة أجزاء، يتكون كل جزء من سبعة فصول، ويُستهلّ كل فصل بنص بارز من كتب الحكمة المقدسة أو الأساطير القديمة أو الأشعار اللافتة، كما تتخللها نصوص أخرى تاريخية وشعرية، بنظام هندسيّ صارم، وبنية ثقافية شديدة الكثافة والتماسك، مما يجعل قراءتها عملا إبداعيا يحتاج إلى صبر جهيد بمقدار ما يعد به من لذة ممتعة· ولكي نقبض على طرف من بريق الشعر والفلسفة في هذا النص يكفي أن نشهد مطلعه، بشقّيه الكهنوتي واليومي، حيث يفتتح الجزء الأول بعنوان ''في البدء كان الأبيض'' بكلمات عريضة تقول: بينما كان الصغار في ذلك الجزء من المعبد المسمى بـ ''بيت الحياة'' يتعلمون فنون الكتابة وأصول الرياضيات، اجتمع الفتيان والفتيات المتدربون على الكهانة في فضاء ''بيت الأسرار'' المفتوح على السماء· التقوا في دائرة تحت شجرة الجميز العتيقة ينصتون إلى الكاهنة الأم: الآن وقد تعلمتم أسرار النباتات والأعشاب وعرفتم كيف تداوي الطبيعة الأم علل الجسد، تعالوا بنا نفهم كيف نصنع من الحكايا بلسما لجروح الروح· وربما كان هذا أحد المطالع النادرة غير المقتبسة من نصوص الحكم القديمة، وإن كان منسوجا على منوالها، فلنضعه بجوار ما تقوله الراوية المعاصرة بعد سطور قليلة : حدث ذلك بعد نهاية يوم محاضرات طويل في الجامعة، وقد تلبد ذهن سارة بغيوم منذرة، أدارت سيارتها وزحفت بها ببطء داخل حرم الجامعة، ملتفة حول مظاهرة للطلاب الذين رفعوا شعارات ''لا إله إلا الله، شارون عدو الله، خيبر خيبر يا يهود ·· القدس لابد تعود'' وأخذ بضع مئات من الطالبات المحجبات والمنقبات والطلاب ذوي الذقون يرددون هتافاتهم تضامنا مع الانتفاضة، بينما تناثرت مجموعات من الطلاب حول الأرائك الخشبية وبجوار أسفل المباني أخذوا يتابعون المشهد وقد بدت على ملامحهم علامات التسلّي ·· ابتسمت وهي تتأمل الفتيات وقد حشرن أجسادهن في ''جينزات'' مرقعة كالحة اللون، وأكدت البلوزات الضيقة امتلاء صدورهن وتململها، أما وجوههن فقد تكلّست فوقها المساحيق الثقيلة بفعل الحر الخانق''· عناقيد المفارقات هي التي تعطي الكتابة مذاق الحياة وسخونتها وبهاءها، فنحن إزاء مستويين من النصوص؛ أحدهما من أدب الكهانة والحكمة، حيث الأنوثة تصبح أمومة راعية مبدعة تجعل الحكايات مصدر البلسم الشافي لجروح الروح، أما المستوى الثاني فهو صورة الحياة اليومية في الجامعة المصرية، والثنائية الفادحة فيها بين الملتزمين والملتزمات وهمومهم القومية والدينية، والآخرين بما يشفّ عنه ملبسهم وأوضاعهم من دلالات مفارقة· في الرواية منذ مطلعها حكمة وثقافة، وتمثيل لهموم المجتمع والسياسة، لكن ما يميزها هو تلك القدرة الفنية على تضفير النصوص والمشاهد بروية وإحكام· الطابع الملحمي تدور الرواية حول مسارات ومصائر أربعة شخوص محورية، ثلاث نساء هن: سارة مدرسة علم النفس التي تكتب بحثا جامعيا ـ تطور إلى كتاب ـ عن مطاردة الساحرات في أوروبا في العصور الوسطى وحرقهن باعتباره ''قرارا جماعيا غير معلن بنفي كل من يشرد خارجا على قانون القطيع'' وتساعد تلاميذها ورفاقها على اجتياز أزماتهم النفسية والاجتماعية، منتظرة منهم أن يغيثوها بدورهم عندما تقع في دوامة الإحباط إثر فشلها في الزواج وصدمتها في الحب مثل الباقيات· والثانية هي ''نورا'' نموذج فادح للمرأة المتحررة إلى أبعد بكثير مما ذهبت إليه ''نورا إبسن'' حتى تصل إلى حد الوقوع في شرك الإدمان الناعم وتقف على حافة الاكتئاب· والثالثة هي ''دنيا'' الرقيقة المولدة من أب فلسطيني وأم مصرية، والتي تعاني نتائج هذه الازدواجية في حياتها الخاصة وسلوكها السياسي قبل أن تعثر على نفسها في فن التصوير، أما الرجل الوحيد في ''الشلة'' فهو حسام الذي يرى نفسه في مرآة صديقاته مطحونا بين العمل الإعلامي في أحد مواقع الأخبار في ''النت'' والحياة العائلية الرتيبة القاتلة في المنزل· لكن المدهش في الرواية أن ''حتحور'' ربة العشق والبهجة والموسيقى عند الفراعنة تقوم أحيانا بدور الراوية فيها، وتتقمص حيوات البطلات ـ خصوصا سارة، وترعى مصائرهن، وكأنها رجعت لتطل على أحوال مصر وناسها، أو بالأحرى نسائها، في مطلع القرن الحادي والعشرين· هذا التناوب في ضمائر الرواة بين الشخوص والكهنة والربات يضفي على حيوات النسوة طابعا ملحميا مفعما بلحظات البطولة وهن يتوحدن في العشق والعذاب والشهوات الجامحة، ويتوهجن بالانصهار في أصوات الأساطير قبل أن يتطهرن بالاعتراف السردي الرائق والتكاشف الصريح في جلساتهن الحميمة· ولأن الرواية مُشفّرة بمهارة بالغة، تتطلب جهدا نقديا لفكّ إشاراتها لا يتسع له المقام، حسبنا في ختام هذه النظرة العجلى أن نتأمل أسرار العنوان ''نون'' الممتد في عروق السردية كلها، فنجد ''حتحور'' تصف لسارة حركتها حيث يجري نيل النوبة الأزرق ''هناك سألقي بجسدي المنهك فوق الموجات الناعمة، سأرتفع إلى حافة النون وأهبط بهدوء إلى قلبها· ستسلمني نون إلى نون أخرى في متتالية تهدهد عقلي المتعب'' وسارة نفسها ترى القمر هلالا ''نحيلا كنون لا تزال في بداياتها· نون وليدة بلا نقطة هي النون الفرعونية في الهيروغليفية·· كانت تحب النون لأنها تشبه البحر'' ثم تتدارك في مشاهد أخرى قائلة بأن من معانيها العربية الحوت والبحر أيضا، وعندما تصف أشد لحظاتها الحميمة توهجا بالعشق والخصوبة المقدسة ترى ذلك ''غوصا إلى حافة النون في موجات متتالية'' وتستحضر أساطير الحروف وسيمياء الكلمات، حيث ترتبط النون بالقلم والكتابة في القرآن الكريم، وتتوالي دلالات العنوان المطوية والمتراكمة بكثافة رمزية موازية لطبقات المعنى في الرواية، لتصبح ''سارة'' ـ وهي المعادل الأوضح لصوت الرواية ـ هي نقطة النون المقطرة بالنور والشعر، والجمال الروحي، والنبل الإنساني المبدع·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©