الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

تجليات بين الرَّقَّة والرِّقَّة

تجليات بين الرَّقَّة والرِّقَّة
25 يونيو 2007 00:37
وحده الطريق كان مجهداً بين دمشق والرَقَّة·· 6 ساعات عبر اخضرار السهوب وعري الجبال·· بين ما نتوق وننتظر وما يقطعه الباص الصغير محتشداً بنا، بالحقائب والقصائد·· بفتنة السفر لنحتفي، ورغبة العودة لنستريح·· برنامج المهرجان أيضاً كان محتشداً فحال وصولنا، وقبل أن نرتخي ونمسح ماعلق بالأجساد والنفس من تعب الطريق الطويل، بدأ افتتاح المهرجان بخطاب البداية وذكر المناسبة وكلمات اللجنة الثقافية·· ثم كانت العروض الراقصة لتمسح ما علق بالذاكرة من خطب القول العربي المعاد في كل مناسبة·· ''نيسان الجلاء'' تحت خيمة ذلك اليوم المبجل استظل الحاضرون بمجد الاستقلال، والرغبة الدفينة الى حرية تشمل وتتضوأ وتمتد·· رغبة أبدية تكمن في أعمق روح الإنسان وجوهر انسانيته التائقة أبداً الى الارتقاء والتطور· هل استبطن سكان الرَّقة الرِّقة واشتملوا بها فصاروا أحنّ من قريب وأوصل من بعيد؟ كل ذاك الاحتفاء·· كل ذاك الود·· كل ذاك التوق للمحبة والتواصل والحميمية، كيف نحتمل الوفاء بها واحتضانها، نحن الذين شتت بنا الطرقات وعبثت بنا الاختلافات، وجلدت أرواحنا قسوة الأيدي المستبدة؟ ثمة في أرواحنا جفوة وفي طبائعنا غضب يفيض ولا ينتقي· ثمة في ذاكرتنا بقع شاسعة للنسيان من هول ما يحيق بنا·· فكيف استطاع أهل الرقة والشام أن يزرعوا في صحارى النسيان كل هذه الحدائق؟ كيف مسسنا بهم حين مسّونا بسحر ودهم؟ كيف جعلوا من جفافنا خصوبة ومن قفرنا احتشاداً بلطف بحضورهم، كنا قليلين، فكثرونا، كنا في وحشة فآنسونا· هل تحمل قلوبنا كل الحضور الزاخر بالحب·· غضبنا فتسامحوا، احتدمنا فتجاوزوا·· لعلهم شاؤوا أن يعلمونا كيف تكون الطبائع كريمة الرحاب، ولعنا شئنا أن نستدل بهم الى طرق اكثر وضوحاً وامتداداً· ولعلنا رغبنا معاً ان نزيل شيئاً من ركام القديم، ونشعل شمعة في عتمة المستتب لنضيء الدروب الى بعضنا· مساءات الشعر كانت حافلة بين احتفاء واكتظاظ·· الحداثة في مواجهة التقليد، والتقليد يترصد الحداثة بالنقد والانتقاد ليجرها الى مسار الامس·· التقليد يتسيد في اكثر من واجهة وقول وفعل، بينما الحداثة تشق الطريق الصعب الى عصر راهن هي ابنته ونتاجه· اكثر القصائد التي تليت كان حداثية الصورة والمعنى والاسلوب، وكانت الى ذلك تسير متوجة برحابة الكشف والتجريب·· وكانت تحيل بقصد وبدونه ذائقة المتلقي وذاكرته الى التفتح ببطء والانتباه الى زمن يتبدل وماض غادر واستتب في غيابه· النقد دوماً أبوي الوصاية وسوط اللغة· والشعر دوماً شغب الطفولة وأنوثة اللغة· وبين الوصاية والشغب ثمة قصد للتدجين، وثمة نزوع للتمرد· صعد الشعراء منبر القراءة مضطربين قليلاً لهيبة الحضور ومطمئنين كثيراً لمهابة الشعر· تلوا على الحضور شغب الشعر، عصيانه، توغله في التجريب· وكان بعض الحضور ينصت مبتهجاً، والبعض يرصد ما يظنه مروقاً ويحتدم·· لكن بين البهجة والاحتدام·· كانت رحابة الرَّقة ورِّقة القائمين بأمر المهرجان، تحوي الاختلاف وتغدق اللطف وحنو القلب واتساع الأفق· الشاعرة البحرينية ايمان اسيري تلت من كتاب الأنثى هجس الأنوثة وتحولاتها، بما تيسر لها من زمن يؤقتها، فكان صمت الحضور إشارة إلى استجلاء النصوص، والترحال بين تقلباته ورصد ما يشي به وما يموء إليه· الشاعر السعودي، محمد حبيبي أوغل في التجريب حد الدهشة والغرابة للبعض، وحد الإضافة والترحيب للبعض الآخر· الشاعر البحريني علي الجلاوي قال فتونه ومضى مسرعاً، تاركاً لنا غبطة الشاعرية ورمانه الذي ينوس في الأعالي، ناثراً بيننا نزق الخروج على المؤتلف والسائد، محرضاً على فتنة الاختلاف· فاضل العزاوي (الشاعرالعراقي الأشهر) ، فرش الشاعرية سرداً وغنى قوله الشعري مرفقاً بإيقاع صوته، مجاوراً للقهر ومتجاوزاً له، متماهياً مع الألفة، ومستفزاً الذائقة المستتبة دوماً· أطال فلم يثقل، وغنى فلم يطرب إلا من أدرك القصد واستضاء بالدلالة· الجميل اللطيف الرهيف كما نسمة في لهب قيظ خليجي، اللبناني صيغةً وتكويناً''اسكندر حبش'' قرأ على عجل ومضى، كما برق خاطف أضاء عتمة السحب ليشي بهطول وشيك، تاركاً لي دهشة الشاعرية ورغبة المستزيد· حصة العوضي جاءت من قطر لتعلن بصوت الشعرلا بالشرائع ''أنتَ طالق'' فعلمتنا كيف نعلن هذا القول جهاراً، نحن النساء اللواتي تعودنا أن نكبت هذه الصرخة في انتظار أن يجهر بها الرجل، وسلمنا بأن البدء له والخاتمة، كأننا إلاّ تجلٍ لإرادته، وسيرورة حياتنا إلاّ وفق شريعته بتماهياتها السماوية والوضعية· حصة قلبت وجه العملة لنرى الوجه الخفي لحياتنا·· لنبصر ما حاق بنا وما يحيق، نحن النساء اللاتي رضخنا وسلمنا بالشرائع والتشريع ولم ننتبه إلى أننا من يحفظ الوجود البشري ويبدع التفاصيل الحميمة ويؤثث منازل الحياة· ولم ننتبه إلى أن لنا الحق كل الحق في التشريع، وحق لنا أن نحتكم إلينا حين تعوق مسيرة حياتنا شريعة لم نموضعها ولم نسن نواميسها ولم نعين قضاتها وأحكامها وحكامها! وحصة الأم استبطنت أسئلة الطفولة على أولياء أمرهم الذين نسميهم كباراً·· أسئلة الطفولة الحائرة المعلقة أبداً على نفي الجواب· على التصغير والجهالة·· لكنها أسئلة أعمق وأهم من أسئلة أولئك الكبار لأنها أسئلة الحياة إذ تبحث عن إجابتها وسط ركام الهدم والغياب والموت والدمار· (لماذا؟···) هو سؤال الطفل دوماً·· فلا يجيبه سوى العدم! نظريات النقد لم تنتبه إلى هذا المغاير والجديد، فأوغلت في التفتيت وليس في التفكيك· فانكفأت حصة الشاعرة، الأم، والاستاذة تبكي لسوء الفهم وغفلة الانتباه! فكان لحرقة دمعها أن يغير النهر مجراه· وينبثق ضوء البصيرة الناقدة من وراء الحجب· وتمتد المساحة الرحبة للاختلاف في الجلسة النقدية الختامية، ويتخذ النقاد موقع الدفاع عن الحداثة بتجلياتها المتعددة، في مواجهة السلفية والقديم، مفسرين الأسباب وحركة الزمن وغاية التغيير والتطور· القديم كان له مآثره في زمنه وظروفه وأسبابه· لكنه لا يمكن أن يفسر الحاضر ويقنن المستقبل· وإذا ما فرض الماضي نفسه على الحاضرسيكون العدم وحده سيداً وحكماً! ولنا في الواقع والوقائع خير شاهد ودليل!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©