الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القرد بيكاسو والقارئ المسكين

القرد بيكاسو والقارئ المسكين
13 ديسمبر 2013 20:16
هل سبق لك عزيزي القارئ أن قرأت كلاماً طويلاً عريضاً ولم تفهم معناه، رغم أنك كنت تفهم معنى كل كلمة بمفردها لكنك لم تفهم كيف وُضعت تلك الكلمات في عبارة واحدة؟ أعتقد أنه حدث لك ذلك، خصوصاً مع الموضوعات الثقافية، وأعتقد أيضاً أنك طويت الصفحة وأنت تهز رأسك لأنك اكتشفت أنك لست مثقفاً كما كنت تظن، وأن بينك وبين استيعاب الكلام الكبير مسافة مليار سنة ضوئية. لكن قبل أن تظلم ثقافتك، اقرأ معي حكاية صحفي كان يعمل في مجلة أسبوعية، عرض لوحة تجريدية تحمل اسم «أميركا والعالم» على ثلاثة نقّاد وصحفية ورسامة تشكيلية وطبيب نفسي، طالباً رأيهم وانطباعاتهم عنها، بعد أن همس في آذانهم أنها بريشة ثري عربي، وأنه وضع مكافأة مالية لمن يكتب عنها. بعد أن أدلى الجميع بآرائهم عن اللوحة، نشرت المجلة الموضوع على صفحات عدة، وكانت الصفحات الأولى تحوي آراء أولئك الرهط، بينما تركت المفاجـأة للصفــحة الأخيرة. وتخيل معي الآن أنك أمام تلك المجلـة تحاول أن تختبر ثقافتك ومدى استيعابك للكلام الكبير، ونبدأ مع الناقد الأول الذي قال: «للوهلة الأولى لا يستطيع المرء إلا أن يقف مكتوياً بحرائق اللون وبراءة اندفاعاته أمام تجربة تشكيلية جديــدة ومتــمردة وباذخة في رؤياها، تبحث عن إطار تعبيري مختلف. لوحة الفنان (...) تتقدم إلى متلقيها مسكونة بحرية فائقة وخطيرة، تأخذنا إلى تخوم التجربة المطلقة إن صح التعبير. وهذا بحد ذاته يتطلب من قارئ اللوحة أن يتسلح بذائقة مختلفة، تبتعد بمسافة غير محسوبة عن أنماط المتلقي التقليدي الذي يبني على حسابات الكتل والمساحات وقوانين التشريح وكيمياء الألوان». وأعتقد أنك كقارئ عادي لم تســتوعب معنى ما قاله ذلك الناقد الهُمام، خصوصاً أنك لا تحمل بندقية محشوة بذائقة مختلفة تبعدك بمسافة غير محسوبة عن أنماط المتلقي التقليدي العادي الذي لا يفهـم شيئاً. لكن ربما تبدأ بالفهم مــع الناقد الثاني الذي وصف اللوحة قائلاً: «هي بمثابة رفض لوني أو إدانة ضوئية متوهجة عبر لوحة تجريدية ذات وجه فلسفي عميق، يحرص على تكريس قيمة مواجهـة ومقاومــة هذا التوحـش الحضاري المتكرر فقط على القوة والافتراس. هكذا تبدو أميركا بوصفها حضارة مادية مبنية على قوة مفرغة من المبادئ الإنسانية، وذلك هو سر الدماء الحمراء». فهمت الآن عزيزي القارئ أم ما زلت تشعر بأن ثقافتك «أي كلام»؟! فاللوحة تقاوم التوحش الحضاري لأميركا المادية وقوتها المفرغة من المبادئ، تلك المبادئ التي يتحلى بها هذا الناقد الشريف والتي سوف تتجلى أمامك بعد قليل. وجاء الناقد الثالث ليضع النقاط على الحروف، فقال بلا وجل: «يكتشف الناقد للوهلة الأولى جرأة هذا الفنان واقتحامه لعالم الألوان دون خوف أو خجل، حيث يسعى في لوحته إلى التحرر من أسر الشكل الشائع والملموس من أجل إيجاد صيغة تشكيلية حرة تبتعد عما يجول في وجدانه وخاطره. من هنا كان اعتماد هذا الفنان الرئيس على الألوان بكل مدلولاتها وإشـاراتها، والحق أن القاموس اللوني عند الفنان يتميز بطزاجة نادرة. فالأزرق الحــالم يدخل في حوار هين وسلس مع الأخضر المسـتكين، ليقتحم المسن فجأة الأحمر الدموي بصخبه اللانهائي، أما الأصفر السقيم فيمنح اللوحة توازنها وعافيتها.. لا جدال بأن الفنان آثر أن يهجر المكرر والرتيب في الحركة التشكيلية العربية من أجل إقامة حوار لوني عفوي يستند إلى أحكام البناء وتجانس الدرجات اللونية». والله إنني أرثي لحال ثقافتك، فلا شك أنك أخذت تفكر في أحكام البناء واشتراطات البلدية أثناء قراءة ما قاله ذلك الناقد. عموماً، قد تفهم هذه الأشياء حين تكبر، فكلام النقاد الفنيين يصعب فهمه على القراء العاديين من أمثالك ممن لا يعرفون معنى القاموس اللوني، لذلك حاول أن تفهم ما تقوله الأخت الصحفية، وبمنتهى الأمانة المهنية كما يقال في هذه المناسبات: «بمجرد رؤية اللوحة تترك الألوان عند قارئها انطباعاً بأن الرسام استطاع خلق تكوين لوني جمالي، وهذا ما يبدو من خلطه للألوان التي تدل على أن اليد التي رسمتها أو أنتجتها خبيرة في التكوينات الجمالية، حيث يسيطر حضور الألوان الشفيفة على أية وحدة تشكيلية في هذا العمل الجمالي». يبدو أنك ما زلت مصراً على عدم الفهم، وربما مضيت بعيداً تفكر في مسألة الألوان الشفيفة واليد التي ستمنح الدولارات لمن يدلي برأي إيجابي في تلك التكوينات الجمالية؟ حسناً، كانت هذه آراء من خارج «الكار»، ولنستمع إلى رأي فنانة تشكيلية، فربما استطاعت إيصال معنى اللوحة بطريقة أفضل: «تجربة الفنان (...) مستويات عديدة تظهر البعد الفني والنفسي، وهي تطرح جدلاً خاصاً وتحاول إدراك الحلم بنكهة خاصة به بعيداً عما هو مألوف وزخرفي، ويبدو وكأنه يبحث عما هو أعمق من حدود المعرفة المتاحة لنا..». الآن تستطيع أن تضع بطيخة ثقافية في بطنك، فحتى الفنانة التشكيلية لم تستطع أن تستوعب جماليات لوحة زميلها الفنان الثري غير المألوف وغير الزخرفي، لأنه يبحث عما هو أعمق من حدود المعرفة المتاحة لنا. والفقرة التالية قد ترفع معنوياتك أكثر، ولا تعود تفكر بضحالة ثقافتك، فالطبيب النفسي الذي عرض عليه الصحفي اللوحة، شكّك في القدرات العقلية للفنان، وكلام الحكيم هو الفيصل بين الحق والباطل، ولنستمع إلى ما قاله الحكيم: «إن قلة المساحات البيضاء باللوحة تشير إلى أمرين، أولهما أن هذا الفنان يزدحم عقله بثقافات مختلفة وكثرة اطلاع، والثاني أنه متشائم بدرجة كبيرة، لأنه قلص مساحة الأصل التي يشير إليها اللون الأبيض، كما تشير طريقة رسمه للوحة إلى أنه رسمها على مرحلتين، الأولى كان يمر فيها بمرحلة قلاقل نفسية نتيجة مشاحنات أو مشكلات عائلية، وهذا بدأ من التوتر اللوني الذي يعبر عنه بوضوح في الجانب الأيسر من اللوحة. أما الجانب الأيمن من اللوحة فقد رسمه وهو في حالة نفسية مستقرة، تعبر بوضوح عن حالة انسجام عاطفي وعائلي، حيث تميزت الألوان بالدفء والتناغم، لكن المثير في هذا الفنان أنه يعاني من أعراض فصام عقلي في بداياته أصيب به من كثرة قراءاته واطلاعه على تجارب الآخرين». أنا أعرف أنك أسأت الظن وربما اعتقدت أن هذا الطبيب، من خلال رأيه في اللوحة، أراد استدراج الفنان الثري إلى عيادته ثم «الاشتغال» عليه وعلاجه من الفصام العقلي، بدلاً من الاكتفاء بإعطاء تقييم للوحته ثم أخذ بعض الدريهمات عنها. إن كنت قد فكرت بتلك الطريقة، فهذا ديدن الضعفاء، يشككون في قدرات الأقوياء بدلاً من أن يشتغلوا على أنفسهم. وإلى هنا نكون قد وصلنا إلى الصفحة قبل الأخيرة، وكما هو واضح، فإن آراء الجميع كانت إيجابية في لوحة الفنان الثري، ولولا الحياء لقالوا إنها بريشة بيكاسو. وأنت أيها القارئ العادي، لم تفهم شيئاً، وهذا من حسن حظك. ففي الصفحة الأخيرة من الموضوع كانت المفاجأة، إذ اتضح أن الفنان العبقري لم يكن سوى قرد استعان به الصحفي ووضع أمامه ألواناً مائية وفرشاة ألوان وورق لوحات، وأخذ يلتقط له صوراً وهو «يخربش» على الورقة، وهي نفسها الورقة التي عرضها على أولئك الذين لم تفهم شيئاً مما قالوه. وأنت حين لم تفهم معنى أن يكون الفنان مسكوناً بالحرية الفائقة والخطيرة، ورافضاً للحضارة الأميركية المفرغة من المبادئ، وخبيراً في التكوينات الجمالية، وبعيداً عما هو مألوف وزخرفي، وصاحب قاموس لوني متميز بطزاجة نادرة، ويعاني أعراض فصام عقلي، فهذا لأنك إنسان تنحصر ثقافتك في فهم وتذوق إبداعات بني جنسك، أما ما يصنعه القرود، فهو من اختصاص علماء الحيوان. me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©