الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحياة السرية لأدباء طنجة

الحياة السرية لأدباء طنجة
15 ديسمبر 2011 00:39
صدر مؤخراً، عن دار جداول للنشر والتوزيع في بيروت، المؤلف الجديد للكاتب والإعلامي المغربي المعروف عبد العزيز جدير: “الحوار الأخير/ بول بولز ـ محمد شكري” ويضم الكتاب مقالات كثيرة لعبد العزيز جدير عن صديقه بول بولز، الكاتب العالمي الذي أقام لسنوات طويلة في مدينة طنجة، وعن مواطنه الروائي المغربي والعالمي الراحل محمد شكري. ويهدي عبد العزيز جدير كتابه إلى المهدي المنجرة، عالم المستقبليات المغربي والعالمي الشهرة والى المناضل السياسي المغربي محمد بنسعيد آيت يدر. وكتب مقدمة هذا الكتاب القيّم الكاتب الأمريكي وأحد عشاق طنجة ودهاليزها السريّة، جون هوبكنز الذي اعتبر أن الخصام الأدبي يشبه السرّ العائلي في خصوصيته وحميميته ومرارته وطوله. ولا يمكن أن يدرك حقيقة ما يجري إلاَّ الخصوم وهم لا يدلون برأيهم حول هذا الخصام لأسباب لا يعرفها جيدًا إلاَّ هُم. ويقول هوبكنز: “لما تمتد يد المنية إلى أحد الأطراف تغدو الحقيقة أكثر هروبًّا واستعصاءً على الإدراك. ولكي يتمكَّن بول بولز من عرض وجهة نظره إلى الأحداث من العالم الآخر حيث هو، فقد تفوّق عبد العزيز جدير في تسليط بعض الضوء على عشبة الرواند هاته التي نمت في طنجة”. لقد كُتب الكثير الكثير عن حياة بول بالمغرب ولكن القليل من كتب عن الوقت والموهبة اللذين خصّصهما للآخرين وبخاصّة للشباب، على حد تعبير جون هوبكنز، الذي أضاف في توطئة هذا الكتاب القيّم أن جوزيف ماك فليبس، مدير المدرسة الأميركية بطنجة “كان أهم المتحدثين عن هذا الجانب من حياة بولز الإبداعية. فقد دأب بول لعدة سنوات على كتابة مسرحيات وتأليف قطع موسيقية لفائدة جمعية الإنتاج الدرامي بالمدرسة. كان يحتفظ بأعماله الخاصة جانباً ليشتغل أسابيع بلا انقطاع وليتعاون بأناة مع الطلبة والأساتذة لخلق سلسلة من الأعمال المسرحية المتميّزة. ونظراً إلى أن اسمه كان مرتبطا دائما بهذا الإنتاج، فقد كان ماك فليبس سيبذل قصارى جهده لإقناع أسماء بارزة أخرى لتسهم بمواهبها: أيرا بلين وإيف سان لوران بالنسبة للملابس، وبراين غيسن بالنسبة للماكياج والديكور، مارغريت ماك بي بالنسبة للجداريات والمحترم دافيد هربرت ليضمن أن تكون طنجة بكاملها في الموعد. ويمجد ماك فليبس بفخر حضور بولز القوي ليسمو بالحركة الإبداعية لمدرسته وليرسخ الأعمال المسرحية كأعمال متفردة في الروزنامة الفنية لطنجة”. ويضيف هوبكنز قائلا: “في سنة 1962، وبعد وصولي إلى طنجة بفترة وجيزة ربطت بيننا علاقة صداقة. في سن الرابعة والعشرين أعلنت نفسي كاتبا واعدا. وخلال السبعينيات أنهيت جولتي حول المغرب، وكان بول يقرأ كل ما أنتجه ويقوم بالتعليق عليه. كان يكتب بعناية ويأمل في أن يحذو الآخرون حذوه. كان شديد الحرص على سلامة الإملاء والنحو. وكان يلح على الدقة في استعمال اللغة ويجبرني على كتابة ما أعنيه بالضبط. وبفضله نشرت أولى قصصي القصيرة وكانت انطلاقتي الأدبية. والحق أنني محظوظ جدا لأني عثرت على هذا الأديب الشهير كموجِّه لمساري الأدبي، ولم أكن المستفيد الوحيد”. ويضيف هوبكنز في توطئة الكتاب: “كان بول وجين بولز يقيمان بشقتين منفصلتين، إحداهما فوق الأخرى، بعمارة إتيسا، وهي عمارة صغيرة رمادية اللون توجد خلف القنصلية الأميركية. كانت تشبه مسكنًا من طابقين من دون سلم يربط بينهما. كان الزوجان يتواصلان عبر لعبة هاتفية كانت تزعق بهما عند بعثها لمكالمات بسيطة. وكان بولز قد تخلَّص من هاتفه لكي يتمكن من الاشتغال في هدوء. فأصبحت الطريقة الوحيدة لرؤيته هي أن تطرق بابه. من الخامسة تقريبا حتى السابعة، بعد ظهر كل يوم، كان بول يتواجد “ببيته” ليستقبل سيلا من الزوار الشباب الذين سافروا إلى طنجة ليجلسوا إلى أقدام الأستاذ. تدخل عبر بهو صغير حيث تكدست حقائب جلدية ألصقت بها بطائق كُتب عليها أسماء الفنادق والسفن البخارية وأسماء الأماكن الغريبة التي زارها أثناء رحلاته عبر العالم. يخيم الظلام على الغرفة التي يستقبل بها ضيوفه. هناك حائط مملوء بالكتب ومقعدان واطئان وطيفوران وجدع بقيمة مكورة. في هذا الجو الذي يتوازن فيه الليل والنهار، يصبّ بول الشاي ويوزع الحلوى وهو يرتدي أحياناً الثياب على الطريقة الأميركية المحافظة. وكانت هذه الشقة الصارمة التي تشبه الزنزانة تحثّ على تلك الأسفار”. ويتابع: “بالنسبة إليَّ، كان الوقت المفضل لرؤية بولز لوحده هو الليل بعد تناول العشاء. كان لا يبرح غرفته كثيرَّا ويعيش قراءة التقارير الأولى عن الحياة الاجتماعية بطنجة، الطريقة الوحيدة لولوج العمارة في تلك الساعة المتأخرة من الليل هي أن تكون على علاقة جيدة مع الحارس الذي ينام على كومة من جلود الغنم بالمرآب بالقرب من الموستنغ (سيارة بول). بعد قليل قد يفتح لك الباب ويوجِّهك نحو مصعد بلا حيطان”. في الخمسينيات سجل بول وترجم قصص الفنان أحمد اليعقوبي. وكان ثاني “رواة طنجة”، وهي الصفة التي سيُشهرون بها، هو العربي العياشي. فقد سجل “حياة مليئة بالثقوب” وقام بول بترجمة ونسخ هذه “الرواية الشفوية” ونشرها سنة 1964 بدار غروف بنيويورك. ودفعاً لاعتراض السلطات المغربية على ما ورد في الرواية من أوصاف للبؤس المدقع الذي عرفه العربي خلال طفولته فقد انتحل اسم ادريس بن حامد الشرادي. ويضيف الكاتب العالمي وعاشق طنجة قائلا: “رحل العربي إلى كاليفورنيا. وعلى وجه السرعة عوض بمحمد المرابط. كان سرّ التعرف على هؤلاء “الرواة” هو التوفر على لغة مشتركة، ولما كانت معرفتي بالعربية محدودة وكانوا هم لا يتحدَّثون الإنجليزية فقد كانت اللغة التي تجمعنا هي الإسبانية. تعرّفت على محمد المرابط لأنه كان يوجد ببيت بول كل ليلة تقريبا، يجلس وجذعه عار ليقطع الكيف بسكين صيد. كانت قوته العضلية وطبيعة مزاجه يوحيان ببركان على أهبة الانفجار. خاصة إذا قاطعت زيارتك حصة تسجيل. كان يهدّد ويطرد العديد من الزوار. كان لا يقوى على إفزاع آيلين آن راكسدال، التي تزوّجتها بطنجة. كانت آيلين آن قد درست بجامعة مدريد وتجيد الحديث بالإسبانية. كانت خطيبتي الجميلة هي الشخص الوحيد الذي بإمكانه إخراج محمد عن مزاجه الشرس لما تتمتع به من ذكاء ودعابة. وكان محمد بدوره يشعر بأن بول شديد الولع بآيلين آن”. يقوم محمد بتسجيل قصته ويعمل بول، بفضل تمكّنه الكبير من الإسبانية والدارجة المغربية، على ترجمتها وتهيئها للنشر. وحسب هوبكنز في توطئة الكتاب فقد تعاون بول بولز ومحمد شكري لإعداد جملة من الكتب ابتداء من “الحب ببضع شعيرات” الذي نشره بيتر أوين سنة 1967. وقد حكم نفس النظام سير عملها. يقوم محمد بتسجيل قصته ويعمل بول، بفضل تمكّنه الكبير من الإسبانية والدارجة المغربية، على ترجمتها وتهيئتها للنشر. وقد أثمر تعاونهما عن نشر دزينة من الكتب بالإنجليزية. وظلت جين تتذمر لأنها تعتقد أن بول يضيع وقتا كثيرا في هذه الترجمات ويهمل عمله الخاص. يواصل الكاتب الأميركي سرد ذكرياته، فيقول: “يعتقد معظم الكتاب الشباب أن الكتابة ستمنحهم غنى وشهرة وفي حال “رواة طنجة” قد يضاهي غناهم ثروة بول بولز. كان بول يعيش حياة أميركي زاهد، أذواقه معتدلة، لكنه قال لي مرة إنه لن يكون قادراً على إطعام القطط أو الببغاء بالاعتماد على ما يتناوله محمد كحقوق من بيتر أوين المعروف بشحَّه الصارخ، إلاَّ أن محمداً كان يتهيأ لبناء أسرة، وامتلاك سيارة ويقضي وقته في صيد الأسماء. ولا يبدو أنه كان يتوفر على مصدر آخر للعيش غير بول”. شاب مغربي آخر يقود المستونغ ويقوم بخدمة بول على أكمل وجه إنه عبد الواحد بولعيش. كان أكثر المغاربة أنسا وخفة روح. لا يدخن ولا يشرب الخمر. ربطت بينهما صداقة عمر. كرّس حياته لبول خلال مرحلة مرضه إلى أن وافته المنية. وإقرارًا بالفضل، أوصى له بول بكل ما يملك. كان عبد الواحد شخصا رائقا ومسالما، لكن “رواة طنجة” كانوا أكثر تعقيدًا. كل واحد منهم يحمل في أحشائه قصصًا تلتهب لتنكشف وليعترف بها بول. كان يمثل القنطرة الوحيدة الممكنة بينهم وبين الناشرين. وفي شهادته القيمة يحكي الكاتب الأميركي جون هوبكنز كيف أن “راو” رابع بدأ يُشهر ظهوره عند بول وهو يقول: لم أعرف محمد شكري جيداً. شأن العربي ومحمد فقد نشأ أميًا، لكنه عمل على تثقيف نفسه وهو راشد، إنه صنيع مدهش. كان يختلف عن سابقيه في أمرين اثنين: قدرته على الكتابة بالعربية وتميّزه بالشرب. أتذكر وجهاً رمادياً مجعداً، جعله يبدو أكبر من عمره. مسحة من الهمّ تخيم على قسماته، وهو ما يمكن أن يكون نتيجة تربية فقيرة أو شعور بإحساس محطِّم. نشرت رواية شكري السير ذاتية “الخبز الحافي” سنة 1974 عند بيتر أوين. ظهر له عملان، فيما بعد: “جان جينيه في طنجة” و”تنيسي وليامز في طنجة” وقد قام بول بترجمة كل هذه الأعمال. يعتبر كتاب عبد العزيز جدير “الحوار الأخير/ بول بولز ـ محمد شكري”، من أهم الكتب التي تسلط الضوء على حقبة مهمة وجميلة من حياة طنجة وكتابها ومشاهيرها الذين تألقوا إلى قمم الشهرة والعالمية: غيرترود ستاين، جين بولز، بول بولز، جاك كيرواك، براين غيسن، آلن غينسبيرغ، ويليام بوروز، ترومان كابوتي، الطاهر بن جلون، محمد شكري، تينيسي ويليامز. في حوار بين محمد شكري وبول بولز يسُرّ هذا الأخير لمحمد شكري قائلاً: “ترجمت نصوصاًّ مغربية، ما كانت الحياة ستكتب لها لولا عشقي للمغاربة، وعشقي للمغرب وإقامتي به. وأعتبر ذلك العمل من أهم ما أنجزت في حياتي، وهو دين للمغرب في عنقي عملت على ردّه. كما أن جمعي للموسيقى المغربية وتسجيلها جزء آخر من الدين نجحت في تسديده قبل الوفاة.. من هذه الناحية الحياة، حقيقة، حية. وكلما سمعت أو توصلت بنسخة من هذه النصوص أغبط أصحابها وأغبط نفسي على أن تلك الترجمات لم تذهب سدىً وأنها تنقل متعة ما لقرّاء عبر العالم.. والشيء ذاته أشعر به عندما يعاد إصدار الموسيقى المغربية الشعبية بشكل من الأشكال. لكن الحياة الأخرى، الوجه الآخر للحياة، أي الحياة البشرية بلا أي زيادة، الأطفال، الرضّع، تربيتهم... كل ذلك شيء باعث على التقزّز. إني لا أحب تلك الحياة على الإطلاق، كما لا أحب التصور الذي تقوم عليه. ربما يعود الأمر، كما تقول أنت، إلى أنني ورثت كل ذلك من إنجلترا الجديدة. لست أدري. صحيح، أن سكان إنجلترا الجديدة هم طهرانيون. في الحقيقة، يبدو لي أن الحياة الجنسية باعثة على التقزّز إلى حدّ كبير. لذلك السبب كنت رفضت تجربتها هنا في طنجة خلال مرحلة الشباب ذاتها”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©