الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أفكار محجَّبة!

أفكار محجَّبة!
24 ديسمبر 2014 20:40
تمضي الأفكار لدى الشعراء الحقيقيين محجبة على غرار المصريّات: النظرة الثاقبة للفكرة وحدها هي التي تلوح من وراء الحجاب. فأفكار الشعراء في مجملها أقل قيمة مما نمنحها؛ إننا نضيف إليها قيمة الحجاب وقيمة فضولِنا الخاص عند تثمينها. *** ربة الإلهام الشعري التي لا يبدو أنها من عشيقات الواقع لن تكون هي الواقع بطبيعة الحال، وستلد لصاحبها بالتالي أطفالا بأعين غائرة وعظام هشة. *** وكما يفعل الناثر في استعماله لعبارات مما ينتمي فقط إلى اللغة العامية، لكن ليس كل كلماتها، والتي ينشأ من خلالها الأسلوب الأدبي المنتقى، فإن الشاعر سيعمل في المستقبل هو أيضاً على أن لا يصور إلا ما هو واقعي، وسيهمل كل ما هو خيالي وخرافي، وغامض ومعتم من تلك الأشياء التي كان الشعراء القدامى يظهرون فيها قوتهم. لا شيء غير الواقع، لكن ليس كل واقعي بطبيعة الحال! بل واقع منتقى! *** «الموت أفضل من أن أكون امرأة غير قادرة على الإغراء». عندما تبدأ ربة الإلهام في التفكير على هذا النحو فإن نهاية فنها تكون غير بعيدة. لكن يمكن أن تكون تلك خاتمة لتراجيديا، أو لمسرحية هزلية أيضاً. *** ما يقال باقتضاب يمكن أن يكون ثمرة وحصاد شيء خضع طويلا لكثير من التفكير: غير أن القارئ حديث العهد بهذا المجال، والذي لم يتسنّ له بعد أن يفكر في هذا الأمر، يرى في كل ما يقال باختصار شيئاً جنينياً، ليس دون تلميح معاتب للكاتب لأنه وضع له على المائدة طعاماً من شيء لم يكتمل نموه ولم ينضج بعد. *** يأتي أسلوب الاكتظاظ في الفن نتيجة لضعف في الطاقة التنظيمية ضمن تبذير مشطّ في الوسائل والغايات. في طور بداياته يمنحنا الفن في أحيان كثيرة نقيضا لهذا الأمر. *** طالما يظل لدى الناس في وقتنا الحاضر فائض طاقات شعرية لا تستعمل في صياغة الحياة، فإنه سيكون حريًّا بها أن تتجه بكليتها ودون نقصان نحو هدف واحد لا يتمثل في وصف الحاضر أو إحياء الماضي وتكوين صورة مكثفة مختصرة عنه، بل في استشراف أفق المستقبل؛ وذلك ليس وفق مفهوم يجعل الشاعر شبيهاً بعالم اقتصاد سياسي ذي خيال مبدع تتمثل مهمته في رسم صورة مستقبلية لأفضل الأوضاع المعيشية لشعب أو أمة. بل، وكما كان الفنانون القدامى يعملون على ابتداع وصياغة صور الآلهة، سيكون عليه أن يعمل على الاستمرار في صياغة الصورة الجميلة للإنسان، وأن يستشف من داخل عالمنا وواقعنا الحديث، أين تستطيع تلك الروح النبيلة الجميلة أن تظل ممكنة دون انطواء مفتعل أو انسحاب من ذلك الواقع، هناك حيث ما يزال بإمكانها أن تتجسد اليوم أيضاً في حالة من التناغم والانسجام من خلال حضورها البادي للعيان واستمراريتها ونموذجيتها كمثال وقدوة، وأن تساعد بالتالي عن طريق شحذ الغيرة والرغبة في المحاكاة على بناء المستقبل. وستتميز أعمال هؤلاء الشعراء بخاصية كونها قد حصنت نفسها وأوصدت أبوابها في وجه رياح ولهب الانفعالات: كل ما يتعلق بالخطأ الفادح وتمزيق أوتار الروح الإنسانية، والضحكة الهازئة وصرير الأسنان وكل ما هو تراجيدي وهزلي بالمفهوم المعتاد القديم، ستتراءى كلها مقارنة بهذا الفن الجديد أشكالا عتيقة مزعجة من التشويه، وإسباغًا للفظاظة على صورة الإنسان. وستكون الطاقة، والطيبة، واللين، والنقاوة، وذلك التوازن التلقائي والغريزي لدى الأفراد وأفعالهم، أرضاً سويّة تمنح القدم راحة ومتعة: سماء مشعة تنعكس على الوجوه والوقائع: العلم والفن صارا متمازجيْن داخل وحدة جديدة؛ العقل وأخته الروح يتعايشان الآن دون غرور وحسد تحت سقف واحد، يستمدان من التناقض رونق الجدية، لا روح توتر التناحر والشّقاق. – كل هذا سيكون الخلفية الذهبية الحاضنة والعمومية التي سترتسم فوقها بدءا من الآن فقط الاختلافات الناعمة والتلوينات الدقيقة داخل المَثل الأعلى المجسَّد في هذه اللوحة الأصيلة؛ صورة السمو الإنساني المتنامي باستمرار. هناك أكثر من طريق تقود انطلاقاً من غوته إلى هذا الشعر المستقبلي؛ غير أن هذا يتطلب وجود دليل طريق جيد، وبصفة أخص قوة أكبر مما يمتلك شعراء اليوم، أي هؤلاء الذين يرسمون عن غير وعي صورة الإنسان شبه الحيواني، والذين تشابهت عليهم القوة والطبيعة بالشطط وعدم النضج. *** إلى أي مدى يستطيع هوميروس أن يكون مفارقاً هل هناك من شيء أكثر جرأة وأكثر شناعة وغرابة، شيء شبيه بشمس شتائية تسلّط على قدر الإنسان مثل هذه الخاطرة التي نجدها عند هوميروس: هكذا تم حكم الآلهة وقضت بهلاك الإنسان كي يصبح نشيداً من بعد للأجيال اللاحقة. هكذا إذًا: نعاني ونمضي إلى الهلاك، كي لا تعوز الشعراء المواضيع،-وهذا هو ما حكمت به آلهة هوميروس، التي يبدو أنها تعلق أهمية كبرى على سعادة الأجيال اللاحقة، بينما لا تخصنا نحن أحياء الحاضر إلا بالنزر القليل من ذلك! - إنه لأمر عجيب أن تخطر مثل هذه الأفكار على عقل إغريقي! من خلال النظر في حدائق الشعر الحالي نلاحظ أن مجاري للمدن الكبرى قريبة جدا منها؛ داخل روائح الزهور هناك شيء ممازج لها يفشي قرفا وعفونة. وبكل ألم كنت أسأل: هل أنتم في حاجة أيها الشعراء أن تتخذوا من البلادة والقذارة عرّابا كلما كان عليكم أن تعمّدوا إحساسا جميلا وبريئا؟ هل ينبغي عليكم بالضرورة أن تضعوا على رأس إلهتكم النبيلة قلنسوة مهرج وقناع شيطان؟ ما هو مصدر هذه الحاجة، وهذه الضرورة؟ - إنها، ما من شك في ذلك، حياتكم بالقرب من المجاري. *** مهما يمكن لهذا الأمر أن يبدو غريبا بالنسبة لعصرنا الحاضر، فقد كان هناك شعراء وفنانون بروح مترفعة عن الأهواء وتشنجاتها ونشواتها المعربدة، وكانت لهم بسبب ذلك متعة في المواد الأكثر نقاوة وفي الأشخاص الأكثر وقارا، وفي بناء الإشكالات والحلول على نحو لطيف. وإذا ما كان كبار فناني الحاضر فكاكي قيود الإرادة في أغلب الأحيان، وبالتالي محررين للحياة في بعض الأحيان، فقد كان الأولون بالمقابل مقيِّدين للإرادة، مروضي وحوش ومبدعي بشر: كائنات إنسانية، وبصفة عامة نحاتين يشكّلون ويصقلون ويواصلون تشكيل الحياة؛ بينما ربما يتمثل مجد المعاصرين في إطلاق الأعنّة وفك القيود والتحطيم. كان اليونانيون القدامى يطلبون من الشاعر أن يكون مربياً للبالغين؛ لكن، كم سيكون على شاعر في وقتنا الحاضر أن يشعر بالخجل لو طُلب منه ذلك، هو الذي لم يكن معلماً جيداً، ولم يستطع تبعاً لذلك أن يكُون قصيدة شعرية جيدة ولا صورة جيدة، بل في أفضل الأحوال الركامَ الخجول والجذاب لمعبد ما، لكن في الآن نفسه أيضاً كهفا للجشع تنمو فوقه على غرار كل الخرابات زهور وأشواك ونباتات سامة وتكوّن مسكناً ومزاراً للثعابين والهوام والعناكب والطيور؛- موضوع يدعو إلى التفكير بحزن والتساؤل عن السبب الذي جعل أنبل الأشياء وألذها اليوم تكون في الوقت نفسه أشياء تنمو في هيئة خرابات دون أن تكون قد عرفت في الماضي ولا هي ستعرف مستقبلا من الكمال. *** أمام الشاعر خياران: إما أن يمضي تدرّجا بالإحساس من مرتبة إلى مرتبة أعلى بقليل حتى ينتهي إلى بلوغ درجة عليا، أو أن يجرب طريقة الهجوم المباغت وأن يعمد إلى الضربة القوية التي يضع فيها كل طاقاته منذ البداية. غير أن لكل من الطريقتين مخاطرها: في الحالة الأولى قد يرتد عنه مستمعه بسبب الملل، وفي الثانية بسبب الذعر. *** تعمُّد إظهار مشاعر أكثر مما لدينا تجاه شيء ما يدخل الفساد على الأسلوب، في اللغة كما في سائر الفنون. كل فن عظيم يكون بالأحرى محكوما بالميل المعاكس: إنه، وعلى غرار كل إنسان ذي أخلاقية سامية، يفضل أن يسحب عنان الإحساس ويجعله يتوقف عند نقطة ما من الطريق، ولا يدعه يمضي حتى النهاية. هذا الحياء الذي لا يكشف من نفسه إلا بقدر ما يحجب نلمسه في أبهى تجلياته لدى سوفوكليس مثلا؛ ويبدو أن الإحساس يغدو أكثر إشعاعا عندما يظهر نفسه أكثر تقشفا مما هو عليه في الحقيقة. *** يعبر الشاعر عن الآراء السامية العامة التي تدور في ذهن شعب ما؛ إنه لسان حالها وربابتها، - إلا أنه ينطق بها بواسطة الأوزان وكل الوسائل الفنية، مما يجعل الشعب يتقبلها كشيء جديد كليا وبديع، ويغدو معتقدا بكل جدية بأن الشاعر لسان الآلهة. إضافة إلى ذلك فإن الشاعر نفسه ينسى داخل ما يشبه الغيبوبة داخل عمله الإبداعي من أين تأتيه كل تلك الحكمة: من أمه وأبيه، ومن المدرسين والكتب من كل نوع، من الشارع، وخاصة من القساوسة؛ يغالطه فنه إذًا، ويعتقد حقا، في عصور ساذجة، أن إلها هو الذي يتكلم على لسانه، وأنه يبدع في حال من الإشراق الديني؛ بينما هو لايقول سوى ما تعلمه من حكم شعبية وترهات شعبية على حد سواء. وبالتالي: بما أن الشاعر vox populi-صوت الشعب، فإنه يظل يُعتبر vox dei صوت الآلهة. *شذرات مختارة من «إنساني مفرط في إنسانيته»- الكتاب الثاني.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©