الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

جنة الأوهام

جنة الأوهام
25 ديسمبر 2015 01:36
ليلى خليفة (أبوظبي) ثلاثة وعشرون عاماً عاشها الأردني محمد مازن ضلاعين، لم تش يوماً أن نهايته ستكون مرهونة بضغطة زر تحيل جسده أشلاء، وفي استعادة سريعة لشريط حياة ضلاعين، قبل أن تسكن جسده «روح أخرى»، يتضح أن الشاب حاز شهادة الثانوية العامة من مدرسة الأمير حسن الثانوية في محافظة الكرك (جنوب العاصمة عمان)، وأراد دراسة الطب، إلا أن معدله لم يسعفه، فالتحق بجامعة «خاركوف»، الأوكرانية العريقة، التي تأسست عام 1805. وبعد أن قطع عامين من مشواره الأكاديمي، التقى «مارينا»، وقرر الزواج بها. يقول والده النائب في البرلمان الأردني مازن الضلاعين، في اتصال هاتفي أجرته معه «الاتحاد»، إن ابنه، كان شخصاً بسيطاً، تميز بعلاقات جيدة مع أهله وأصدقائه. وفي يناير الماضي، جاء محمد لزيارة أهله في الأردن، برفقة زوجته التي اعتنقت الإسلام، وارتدت النقاب. ووفق الأب، كانت زيارة «عادية»، شارك فيها محمد بمظاهرات اجتاحت الشارع الأردني، حينها، للضغط باتجاه الإفراج عن الطيار معاذ الكساسبة، الذي أسر في 24 ديسمبر الماضي، إثر سقوط طائرته، المشاركة بقصف مواقع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، المعروف إعلامياً بـ «داعش» في محافظة الرقة شمال سوريا، قبل مقتله «الدرامي» في الثالث من يناير الفائت، مظهراً موقفاً رافضاً لأفعال التنظيم، ومتبنياً شعارات الاحتجاجات التي اتهمته بـ«الوحشية واللإنسانية». وعاد محمد وزوجته إلى أوكرانيا في فبراير الماضي، ليبدأ فصلاً جديداً من حكاية انضمام شاب من أسرة «معتدلة» إلى التنظيم الإرهابي. وبعد سلسلة اتصالات أجراها شقيقه الأصغر، الذي يدرس في الجامعة نفسها، بذويه، يؤكد فيها أن محمد بات «انعزالياً، وصعب المراس»، يقول الأب «هاتفت محمداً فهالني تحوله المفاجئ، خاطبني بلهجة قاسية، وقال لي،«أنت مرتد لأنك تطبق قوانين وضعية، وتتجاهل شرع الله»، ولم أدرك حينها أنه كان قد مضى في طريق الشر». سافر الأب لينقذ ابنه، فوجده مواظباً على حضور دروس «دينية»، يقدمها رجل أذري. يقول «تأكدت أن ابني وقع في براثن جماعة، تعمل عمل السماسرة، تبحث عن ضحايا مقابل أجر»، مؤكداً أنه قدم بلاغاً ضد الأذري وزوجته، والجماعة التي يقودها، في أوكرانيا، وأن السلطات هناك ألقت القبض على 5 منهم بتهمة التخطيط لأعمال إرهابية. ويضيف «وجدت ولدي شخصاً آخر، لقد أصبح متشدداً، ومتصلباً، ولا يقبل النقاش، اتهمني وعائلته بالكفر، ووصفنا بأبشع الألفاظ». ظل قلب الأب يرفض تصديق التحول الجذري الذي طرأ على ولده، حتى تفاجأ يوماً باختفائه. يقول «اكتشفت أنه سافر إلى إسطنبول، فلحقت به، وأطلعت السلطات التركية على الأمر، وبعد فترة أخبرتني أن محمداً دخل سوريا، وبطرقي الخاصة عرفت أنه انتقل إلى الموصل العراقية». لم تجد توسلات والدته ودموعها نفعاً لردعه، فكلما اتصل محمد بعائلته عبر برنامج المحادثة على الإنترنت «ياهو ماسنجر»، رجوه أن يعيد التفكير بما أقدم عليه، إلا أن ردوده كانت «قطعية»، فهو مصر على أنه على حق، وأنهم «كفرة ومصيرهم جهنم»، وفي هذه الأثناء لم تتوقف مساعي العثور عليه. وفي آخر اتصال معه، تم في الـ20 من أغسطس الماضي، أخبرهم أنه قرر تنفيذ عملية «استشهادية»، وأنه سيلاقيهم «في الجنة»، بعدها انقطعت اتصالاته حتى تواترت أنباء قيام محمد، الذي لقب بعد انضمامه لتنظيم «داعش» بـ«أبو البراء»، بهجوم انتحاري «انغماسي» ضد ثكنة للجيش العراقي في الجرايشي بمحافظة الأنبار، في الثاني من أكتوبر الماضي، فانهارت آمال أسرة باسترجاع فلذة كبدها. والانغماسيون في أدبيات التنظيم، وفق الخبير في شؤون الجماعات المسلحة، حسن أبوهنية، هم أشخاص يمكنهم محاكاة ملامح «العدو»، ليتطابقوا معه، وغالباً ما يكونون من صفوة المقاتلين، المستعدين لتفجير أنفسهم إن لزم الأمر، ويختارهم التنظيم من المنتمين الجدد، موضحاً أن الانغماسي يكون مخيراً في تنفيذ العملية الانتحارية، شرط عدم العودة من دون تحقيق الهدف، إلا أن محمداً اختار تفجير نفسه ليلقى حتفه داخل مجنزرة مفخخة استولى عليها «داعش» من الجيش العراقي أثناء معارك سابقة. ويقول الضلاعين «غُرّر بولدي وانقضى الأمر، والآن أنا أبحث عن زوجته الحامل بشهرها السادس»، مشدداً «لا أريد إرهابياً آخر من نسلي»، وهو على اتصال وثيق بالجهات الأمنية الأوكرانية في انتظار معرفة مصير مارينا، ويشرح كيف أنه لا يشعر بأن من مات ابنه، ويقول «لم يعد الشاب البار الذي يتحدث إلى والدته يومياً طالباً رضاها»، مؤكداً «روح أخرى سكنت جسد محمد». ويبدو محمد نموذجاً «مقلقاً» لشباب اعتنقوا الفكر المتطرف، وهو واحد من آلاف نجح «داعش» في استقطابهم، والواقع أنه على وقع تمدد التنظيم السرطاني، رغم مرور أكثر من عام على شن تحالف دولي، تشارك فيه 62 دولة، وفق صحيفة «تليجراف» البريطانية، هجمات متكررة لاستئصال شأفته، صار مهماً دراسة كيف يستورد «داعش» العنصر البشري، الذي يُبقي نيران حروبه متقدة، وما هي أدوات التجنيد التي يمتلكها، وما مدى كفاءتها، لاسيما وأن عديداً من الذين انخرطوا في صفوفه، تم اصطيادهم إلكترونياً. ورغم ما للعوامل الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية من صلة بنشوء مفارخ قادرة على توليد الإرهاب، غير أنه لا يمكن تجاهل جاذبية التنظيم بوجهه العنيف، حتى باتت متلازمة «العنف داعش» أصيلة في فكر الملتحقين به. ويواجه العالم راهناً تنظيماً متشظياً يصعب مواجهته بحروب تقليدية، لاسيما وأنه يتغلغل في عقول أتباعه، ويتركهم برسم الهجوم إلى أن تحين ساعة الصفر، فينفذون أعمالاً إجرامية في سبيل نصرة «قضيتهم»، مستفيدين من تأويلات «مزيفة» للعقيدة الإسلامية، تجعلها «متواطئة مع فعل الإرهاب». ويحاول محللون حصر أدوات التنظيم التي يطوعها لقرصنة عقول الشباب، وكسب تأييدهم، لتبرز التكنولوجيا أداة حاسمة في هذا الموضع، ما يصعب مصادرتها، لاسيما وأن الرقابة التقنية ليست كفيلة بردع مخاطر أشخاص ينقلبون فجأة إلى مفخخات، ما يعظم دور الوعي، في تحصين الشباب ضد الـ«بروباجندا الداعشية»، التي وظفت التوعك الاقتصادي، والسخط السياسي، والعطب الاجتماعي في استنبات إرهابيين مؤمنين بفلسفات متطرفة. إنقاذ الأرواح وحصدها وفي محاولة لتفسير تحول محمد إلى «أبو البراء»، وكيف قطع المسافة بين إنقاذ الأرواح كونه كان يدرس الطب وإزهاقها، بعد أن حول جسده إلى قنبلة موقوتة، تسقط نظريات تقليدية حاولت رسم «بروفايل» موحد للانتحاريين، فيما تنجح أخرى في تقديم مسوغات منطقية. فلا تنطبق على محمد نظرية الفقر والتهميش، التي دفعت كثيرين إلى البحث عن هوية جامعة (الدين) ترتقي فوق التصنيفات الاجتماعية، حيث لم يعانِ شظفاً خاصاً قبل انضمامه لـ«داعش»، فأبوه نائب في البرلمان الأردني، وينتمي لعائلة استطاعت أن تلحقه بجامعة راقية تؤسس له مستقبلاً زاهراً لو أنه اختار الحياة. ويرى أبوهنية، أن التفسير الاقتصادي القائم على التهميش والفقر والبطالة، وصولاً إلى الأمية كان الأكثر فعالية خلال المراحل السابقة من تاريخ الحركات الجهادية، لكن بعد حقبة العولمة باتت المرتكزات الثقافية الدينية عوامل أقوى في التحول الأيدلوجي المتشدد. ويمكن أن تنطبق على حالة محمد نظرية «الشللية»، التي اتسمت بها خلايا كثيرة تكونت في أوروبا بين عصابات الأجيال الثانية من المهاجرين، حيث يقنع «تائب» بقية الشلة بالانضمام إلى المسجد، والبحث عن قضية كبرى يلخصها لهم الجهاد، لاسيما وأن الأب أكد دور الرجل الأذري في استقطاب ابنه، وحمله على حضور دروس «كراهية دينية». ويرى الأب كذلك أن لزوجة ابنه يداً طولى في التحول الذي طرأ على شخصه، مؤكداً أنها اعتادت القول، إنها «تريد الجهاد لتدخل الجنة»، ويبدو اتهامه منطقياً، فماريا البالغة من العمر 26 عاماً، اعتنقت الإسلام قبل نحو عام، وارتدت النقاب، وحضرت دروس «تعبئة معبقة بالتهديد والوعيد للذنوب المرتكبة»، واضعة الجهاد سبيلاً وحيداً للنجاة ودخول الجنة. وتكشف أرقام جهات دولية، أن عدداً متزايداً من معتنقي الإسلام حديثاً يلتحقون بصفوف التنظيم. ويقول أبوهنية، إن التقرير الأخير للأمم المتحدة، الذي أعدته لجنة مراقبة نشاط تنظيم «القاعدة» في مجلس الأمن الدولي، بتاريخ 19 مايو الماضي، أظهر ارتفاع عدد المقاتلين الأجانب بنسبة 71% بين منتصف عام 2014 ومارس 2015. وقال التقرير، إن عدد المقاتلين، الذين غادروا أوطانهم للانضمام للقاعدة و«داعش» في العراق وسوريا، بلغ أكثر من 25 ألف شخص، من أكثر من 100 دولة، موضحاً أن التقارير الاستخبارية الأميركية تؤكد وجود 35 ألف مقاتل عربي وأجنبي في صفوف التنظيم. ويؤكد أن «التنظيم يستهدف الشباب الذين تحولوا إلى الإسلام حديثاً، ليكونوا محركات «إرهابية» في مجتمعاتهم، مستغلاً شغفهم بأن يكونوا مسلمين «صالحين»، ومتكئاً على جهلهم في العلوم الشرعية، نظراً لحداثة اعتناقهم الإسلام. ويبدي إمام وخطيب جامع الشيخ زايد الكبير وسيم يوسف أسفه لانضمام مسلمين جدد إلى التنظيم، موضحاً أنهم يستقطبونهم بالجنة والحور العين، ويفهمونهم بأن العمليات الانتحارية هي أسرع وسيلة لدخول الجنة التي تتوق إليها نفوسهم، التي ذاقت هوان الكفر. واللافت في هذه المروية، أن الأب انبرى لإعطاء محاضرات توعية في الجامعات الأردنية، متخذاً من ولده مادة ثرية توضح للشباب أنواع الأفخاخ التي تحيق بهم، وتحذرهم من خطر التطرف الذي يحدق بهم. «داعش».. متلازمة العنف ولاستقصاء أسباب انضمام محمد وغيره من الشباب للتنظيم، غالباً ما ينطلق البحث من العنف المفرط، سواء لجهة الإقدام على أعمال إجرامية من قطع رؤوس، أو تنفيذ عمليات رجم وحرق، أو لجهة استعراض هذا العنف وتعميمه عبر أشرطة مصورة تبث على منصات وسائل التواصل الاجتماعي. وفي مقاربة بحثية أعدتها الكاتبة الصحفية بيسان الشيخ، بالتعاون مع مؤسسة «فريدريش إيبرت» الألمانية، وحصلت «الاتحاد» على نسخة منها، ظهر أنه لا يمكن تناول «داعش» ضمن أي مقاربة بحثية، من دون ربطها مباشرة بهوية بصرية فرضتها بفعل عامل الصدمة أولاً، وما تحمله من رسائل حول نهجها ثانياً، ومن ثم جودة المنتج الإعلامي وسعة انتشاره ثالثاً، إلى جانب كونها أول نموذج «دولة خلافة» وهمية عابرة للحدود «الوطنية»، منذ سقوط الامبراطورية العثمانية عام 1922. وتقول الشيخ، إنه من ضيق الأفق اختصار جاذبية «داعش» لدى الشريحة الشابة، سواء العربية أو الغربية، بالعنف وحده، فلو كان أنصاره مجرد شبان متعطشين للدم، لكانوا ارتكبوا جرائم جنائية في بيئاتهم الأولى، أو ربما تحول المغالون منهم إلى قتلة متسلسلين، أو انتسبوا إلى عصابات مجردة من أي بعد سياسي، أو مشروع بعيد المدى، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، فغالبية هؤلاء، ليسوا أصحاب سوابق، ولا هم بالضرورة «أشرار» بالمعنى التقليدي، موضحة أن ما يقدمه «داعش» من «بروباجندا» مصورة وبيانات، هو تماماً الهوية التي يسعى إلى أن يعرّف نفسه بها، ويستثمر وقعها في نفوس المتلقين، لا سيما لجهة إثارة الرعب والخوف للتسليم له والإقرار به أمراً واقعاً. ويبدو أن الفرضيات حول جاذبية «داعش» كثيرة ومتفرعة، وهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بظروف المنضمين ودوافعهم، ما يمنع رسم خط واحد لهم يقدم إجابات شافية، لاسيما وأن هذا الميدان لا يزال حكراً على أجهزة الأمن، فيما البيانات والمعلومات الموثقة غير متوافرة للباحثين والدارسين بالدرجة المطلوبة. وفي استجلاء لعوامل جاذبية التنظيم، التي تتباين وفقاً للنطاقين الجغرافي والسكاني، توضح الشيخ، في اتصال هاتفي أجرته معها «الاتحاد» أنه إذا كان يمكن الحديث عن شقاق سني- شيعي دفع بنحو 900 لبناني، بحسب المركز الدولي للدراسات حول التطرف، إلى الالتحاق بـ«داعش» و«النصرة» قبلها، انطلاقاً من «مظلومية سنية» قائمة على عداء سياسي قديم للنظام السوري، فإن ذلك لا ينطبق على المنضمين الأردنيين مثلاً، حيث تلعب الهوية الوطنية وليس «الطائفية» الدور الأساس في شحذ الهمم. أما في تونس، المصدر الأول للدواعش، (يفترض أنهم يبلغون نحو 3 آلاف)، فقد كان وهم «الخلافة» بعيداً عن علمانية مترافقة بقمع الهوية الدينية، محركاً دفيناً لشبان المناطق المحرومة، الذين لم تستوعبهم بيئة الثورة، في حين، يقدم العراق، المنبت الأول للتنظيم، نموذجاً آخر لتقاطع البيئة العشائرية مع رواسب «البعث»، وفشل نموذج حكم «ما بعد صدام» في خلق هوية وطنية جامعة لأطياف المجتمع العراقي، فجاءت العقلية الانتقامية المشبعة باضطهاد سابق لتعزز «عبثية» الحرب الأميركية، وتضع نصب أعين العراقيين اضطهاداً لاحقاً، تجسدت ذروته في معتقل أبو غريب، الذي تركت «صوره المسربة» جرحاً نازفاً في كبريائهم الجمعي، بينما تقدم البيئة السورية، التي احتضنت جزءاً من هذه «الدولة»، بحسب الشيخ، حالة أخرى تتشابك فيها البعثية والعشائرية بجنوح مقاتلين محليين إلى تنظيم يقدم لهم إنجازات ملموسة. وتخلص إلى أنه سواء كان الملتحقون بـ«داعش» مهمشين في بلدانهم، أو أبناء مهاجر فشل في إدماجهم، أو معتنقين جدداً للإسلام، أو حتى أشخاصاً ناجحين نظرياً في الحياة، ثمة محرك داخلي مشترك يحملهم إلى«المهجر الجديد»، حيث يتجسد في نموذج «داعش» يوتوبيا (المدينة الفاضلة) التي يطمحون إليها. فهم، بالإضافة إلى خوضهم حرباً مقدسة ضد الظلم، يعيشون وينشئون عائلاتهم في أول تجربة واقعية وملموسة لـ«حكم الشريعة». وتقول الشيخ، «يبدو الارتكان إلى الإسلام كفكر سياسي الأكثر ضمانة، باعتباره المنتج المحلي الوحيد الذي خرج من عمق الثقافة العربية، وقدم برامج سياسية واقتصادية ناظمة للسكان، على أرضية مشتركة وهوية جامعة». بين مناكفة «القاعدة» ومنازلة «داعش» ولا يمكن فصل التشابكات، التي تعيشها المنطقة العربية عن الشباب، الذي يعايش المجريات أو يتابعها، ما عزز جاذبية التنظيم، بصفته الملجأ، الذي يتوافر على إيديولوجية دينية تبني «دولة» تقوم على تطبيق الشريعة، ويقدم نفسه مدافعاً عن الهوية السنية في مواجهة النفوذ الشيعي، ومقاوماً للهيمنة الغربية، التي تقود «حملة صليبية»، فيما لا يغفل استثمار شبكة الإنترنت وأذرعها الاجتماعية، موظفاً ما يمتلكه من خبرات فنية رفيعة في بث دعايته «المتطرفة»، كما لا يمكن إغفال جاذبية نهج «داعش»، مقارنة بـ«القاعدة» بوصفه التنظيم الأم. على الصعيد ذاته، يقول أبوهنية، في ردود مكتوبة وصلت عبر البريد الإلكتروني، إن جاذبية «داعش» مستمدة من معيار النجاعة، ففي الوقت، الذي أصر فيه تنظيم القاعدة المركزي على المضي قدما في مناكفة «العدو البعيد» عبر تكتيكات حروب النكاية، ونهج الاستنزاف والمطاولة، يشدد «داعش» على قتال «العدو القريب» عبر استراتيجيات التمكين، ونهج التطهير والسيطرة والمنازلة، وبينما شدد «القاعدة» على كونه طليعة مقاتلة تحمل رسالة للأمة الإسلامية، وتناهض الهيمنة الغربية على المنطقة، مصراً على خوض «حرب أنصار» تستند إلى أسس مصلحية، أكد «داعش» كونه طليعة محاربة، ممثلة للأمة الإسلامية، تقاتل الأنظمة باعتبارها «مرتدة»، عبر خوض «حروب هوية» تستند إلى قواعد دينية وجودية. ورغم إصرار «داعش» على زعم ذاته «حركة سنيّة سلفية» تسعى إلى إعادة الدين كحاكم للمجتمع، وتطهيره من التطورات التي لحقت به عبر الزمان، إلا أنه متلبس بالحداثة التقنية، ويستلهم الأطر التنظيمية «الفاشية» في تكوينه العسكري، وبنائه الدعائي. مراجعة تاريخية في المراجعة التاريخية لنشأة التنظيم، تفسير لقدرته على استقطاب الشباب، وكسب ولائهم، ويقول منار الرشواني، الكاتب الصحفي السوري، ومدير تحرير المقالات في صحيفة «الغد» الأردنية، إن «داعش» انسلخ عن تنظيم «القاعدة» في العراق خصوصاً، بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، الذي قتل في يونيو 2006، معتبرا أن صعود التنظيم جاء نتيجة الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. وهو ما أقر به مؤخراً الحليف الرئيس للولايات المتحدة في ذاك الغزو، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، في مقابلة مع شبكة «سي. إن. إن» الأميركية. ويقول الرشواني، في اتصال هاتفي أجرته معه «الاتحاد»، إن الوجود العسكري الأجنبي احتلالاً، كما تدخلاً أو حماية، كان مؤشراً على ضعف الأنظمة الحاكمة، ما سمح باستباحة كرامة المواطنين، ولاسيما في العراق، حيث مورست عقب الاحتلال سياسات استئصال وتصفية، ناهيك عن التهميش بحق السُنّة، وبالتالي، بدا ممكناً للتنظيمات المتشددة، لاسيما «القاعدة» ووليدها «داعش» ملء الفراغ، الذي تخلفه الأنظمة، وصولاً إلى إنشاء «دولة» في العراق تضم أيضاً أراضي من سوريا، التي تعاني تشرذماً واضحاً. ويرى أن خلفية النشأة هذه تسمح بتفسير نجاح «داعش» في تجنيد أعضاء من داخل العراق وسوريا، كما من بلدان عربية وأجنبية مختلفة. فمن ناحية، كان ممكناً استغلال الجرائم المرتكبة في هذين البلدين بحق السُنة تحديداً لاستقطاب جزء غير قليل من مواطنيهما، فضلاً عن استغلال الأمر ذاته لاستقطاب مسلمين من شتى بقاع العالم بدعوى «الدفاع عن الأخوة»، مضيفا أنه في مرحلة لاحقة، بدا ممكناً أن يضاف إلى ما سبق تحقيق وهم إحياء الخلافة، الذي يرتبط بالعقل الجمعي الإسلامي عموماً بفترة الوحدة والقوة والازدهار. صلاح.. صنيعة الظروف ومن أولئك، الذين انخرطوا في التنظيم، بعد أن عايشوا ظروف نشأته، صلاح، الذي ولد عام 2000 في مدينة القصير، الواقعة بمحافظة حمص، وعاش نحو 11 سنة «طليعياً» «في كنف حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي يحكم سوريا منذ عام 1963، مؤمناً بأنه ينتمي لـ«أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة». عاش الصبي مع عائلته الممتدة، التي تضم إلى جانب أبويه وأخوته، جده المتقاعد، وجدته، وعمته المصابة بتخلف عقلي. كان يدرس، ويلعب، ويتشاجر مع أصدقائه حول مشروعية الهدف الذي سجلوه ضدهم. ولطالما انتظر عودة والده نضال رعد (40 سنة)، من عمله في حقول يملكونها، ليلعب معه، قبل أن تتناول الأسرة طعام العشاء. إلا أنه ومنذ هبوب رياح الثورة السورية عام 2011، اختلفت طقوس الأسرة، التي تجرعت ويلات حرب شنها نظام أبى أن يفهم أن الشعب لم يعد يريده حاكماً، ومع وصولها إلى القصير وريفها، واندلاع مواجهات شرسة أفضت إلى إحكام النظام السوري سيطرته على المنطقة في يونيو 2013 بالتعاون مع حزب الله اللبناني، تفاقمت الظروف الصعبة وتكالبت على أسرة رعد. ولم يمض وقت طويل حتى توفيت الجدة بسبب انعدام الرعاية الصحية، لكن الأسوأ كان لم يحدث بعد، ففي رمضان الماضي استيقظت الأم لتجد فراش صلاح فارغاً، إلا من ورقة يخبرها فيها بأنه ذاهب إلى الرقة للالتحاق بـ«داعش»! تقول عمته في اتصال هاتفي أجرته معها «الاتحاد»: «انقطعت أخبار صلاح منذ ذلك الحين، إلا أنه كتب مرة على صفحته في «فيسبوك»، أنه «يعيش سعيداً في دولة إسلامية». وفي مرة أخرى كتب أنه «يتمنى أن يكون شهيداً في سبيل الله أمام جنود الطاغوت»، وتؤكد العمة، المتزوجة من أردني، والمقيمة في عمان منذ عام 1993، أن ابن أخيها «تعرض لغسيل دماغ، لاسيما وأنه وصف أهله بالكفار، ودعاهم للانضمام إليه». وتقول، إن حسابه لا يزال «مفعلاً»، إلا أنه لا يرد على رسائلهم، لذا لا يعلمون ما الذي حل به، لافتة إلى أنه في مرة وضع صورة مستطيل أسود كتب في منتصفها «تعبان». ورغم أن تبرير العمة انضمام ابن أخيها لـ«داعش»، يظل «تكهناً»، إلا أنه «مقبول»، فقد رأى منزله يهدم، ووالده يفقد، وجدته تموت، شاهد الموت والدمار، وعايش التعصبات، والانفلات الأمني. وفي المقلب الآخر، وجد تنظيما يقدم له «حياة بديلة، مكتملة الشروط»، فكان منطقياً أن يلجأ إليه، وفق مستشار الطب النفسي، رئيس جمعية الأطباء النفسيين الأردنية، الدكتور محمد حباشنة، الذي يؤكد أن صغر سن صلاح يجعله لقمة سائغة لتنظيم حريص على تجنيد الأطفال ليضمن استمراريته، لاسيما وأن قدرته على اتخاذ قرارات «صائبة» ضعيفة. الاستعداد النفسي عامل الحسم وبعيداً عن استقطابات السياسية وإسقاطاتها على الحياة الاجتماعية والاقتصادية بوصفها ملمحاً جاذباً لانضمام الشباب لـ«داعش»، تبقى القابلية النفسية عاملاً حاسماً لانضمام فئة دون أخرى، في ظل استحالة تصنيف الملتحقين تحت بند واحد. وفي إطار التقصي الوجداني للظاهرة، يتكشّف أن المزاج العام مؤثر قوي. إلى ذلك، يقول حباشنة، إن فكرة الخلافة راسخة في الوعي العربي الإسلامي، بحكم نجاحها تاريخياً، ما يضعف مناعة الكثيرين أمامها. ويضيف أن العقل الجمعي العربي يعيش حالة نكوص إلى المرحلة الأكثر إشراقاً في تاريخه، وهي الخلافة، شارحاً أن النكوص تقهقر لاشعوري للماضي يلجأ إليه العقل للهروب من الإحباط والألم. وعلى صعيد التشريح النفسي للأشخاص الأيسر تعرضاً للغسل الأيدلوجي التكفيري، يقول حباشنة في اتصال هاتفي أجرته معه «الاتحاد»، إن الأشخاص، الذين يعانون فراغاً، أياً كان نوعه، هم الأكثر عرضة للتأثر بما يقدمه هؤلاء المتطرفون من وجبات فكرية جاهزة تشبع نهمهم للامتلاء، مؤكداً أن الفراغ المادي ليس الفراغ الوحيد، الذي تسعى التنظيمات الإرهابية لملئه، فهناك فقراء لديهم مناعة كبيرة، لأن أرواحهم ملأى. ويبدو أن استراتيجية التنظيم ليست عبثية، فهي مدركة للطبيعة البشرية، وتحسن استغلال ضعفها. ويورد حباشنة أن الإنسان فطرياً يريد أن يفك غموض الحياة، و«داعش» يمنحه الوضوح بمعادلة سهلة: «تعيش حائزاً رضا الله، وإن مت فأنت شهيد، ومصيرك الجنة»، وكأن التنظيم يمنح صكاً لأعضائه يضمن «خير الدارين»، لافتاً إلى أنه يخاطب المفاهيم الوجودية التي تشغل الإنسان وتقلقه، مقدماً حلولاً بسيطة وواضحة إلا أنها «وهمية». ويظهر أن البحث عن مشروع ذي قيمة في ظل انهيار المشاريع الكبرى في المجتمعات العربية مدخل نفسي أساسي للتأثير على هؤلاء، الذين يشعرون بالدونية، ويبحثون عن رافعة اجتماعية، تعزز وجودهم وتعطيه معنى. في السياق ذاته، يقول حباشنة، إن المتطرفين يستهدفون الأشخاص، الذين يعانون غياب المشاريع المحققّة، فتغذي التنظيمات لديهم الشعور بالتميز، وتوهمهم بأنهم سيتركون بصمة في التاريخ، وأنهم سينتمون لأمة «محترمة»، لافتاً إلى أن غالبية الجيل ليس معتزاً بانتمائه في هذه المرحلة من التردي العربي الإسلامي، فيأتي طرح «الخلافة» بمعناها البراق، المرتبط بالعزة والقوة وتحقيق الإنجازات مقنعاً لهؤلاء الذين يفتقدون المشاريع الخلاقة. وحول الفئات العمرية الأقل مناعة نفسية تجاه مغريات التنظيمات المتطرفة، يحددها حباشبة بنهاية المراهقة وبداية الشباب، وفئة «الشباب الثاني»، أي ما بعد الأربعين، فبينما يبحث الإنسان في مرحلة الشباب الأولى عن الهوية، والاستقلالية، والجنس وهي ثلاثية يقدمها «داعش» لأنصاره على طبق من ذهب. يراجع ما حققه على المستويات المهنية والاجتماعية والأسرية في «الشباب الثاني»، فإذا لم «يزدهر» فيها الشخص كما يجب، انبرى للبحث عن إجراء استدراكي سريع، وهو ما يستغله التنظيم عبر طرح مشروع جاهز لإشباع كل فراغات النفس البشرية، وتحقيق «المجد» لأعضائه في فترة زمنية وجيزة. وشهدت ساحات التواصل الاجتماعي نشر فيديوهات كثيرة صورها أتباع «داعش»، وهم يتباهون بقتل أقربائهم كقربان طاعة لزعيمه أبوبكر البغدادي، منها الشابان السعوديان، اللذان استدرجا ابن عمهما، صبيحة عيد الأضحى في سبتمبر الماضي، ليقتله أحدهما بذريعة أنه «عسكري»، فيما يتولى الآخر التصوير، في مشهد يؤكد استسلامهما الكامل للتنظيم، وكانت السلطات السعودية قبضت على القاتل، فيما قتلت شقيقه الذي صور المقطع. وعلى صعيد تفسير الظاهرة من جهة الأيديولوجية الداعشية، يقول أبوهنية، إن الأمر يتعلق بمسألة الإيمان بالمعنى السلفي، الذي يرتكز على مفهومي الولاء والبراء، وهي تؤسس لبناء علاقات تضامنية تتعالى على الروابط الدموية وانساق القرابة. ولا يعزو حباشنة نجاح التنظيم في استقطاب شباب جدد إلى دهاء أدواته، رغم أنه لا ينكره، بل إلى هشاشة الوعي، وركاكة البناء النفسي، معتبراً أن الأطر التعليمية مثلاً تحشد المعلومات، ولا توقد العقل الناقد المتمكن من التمييز بين الحق والباطل، ما يجعل الشباب غير قادرين على محاكمة ما يقدم إليهم من أفكار. الشباب.. وقود حروب الإرهاب «أبو البراء»..المسافة بين إنقاذ الأرواح وحصدها الأفلام بين هوليوود والرقة يقول الخبير في شؤون الجماعات المسلحة حسن أبوهنية، إن الأفلام التي ينتجها «داعش» تقع في صلب الحرب النفسية الإعلامية، وهي ركن أساس في ترسيخ الإيديولوجية الجهادية، وهي تحاكي «هوليوود» في رسم صورة أميركا، وبناء أيديولوجيتها المتفوقة وأبطالها الخارقين، إلا أن الأفلام، التي ينتجها التنظيم، على خلاف هوليوود الأميركية، حقيقية، وتتمتع بحالة من العنف النقي في أشد صوره فجاجة، وإذا كان الأثر النفسي للأفلام الأميركية على المشاهدين مؤقتاً وممتعاً، فإن الأثر النفسي لأفلام «داعش» دائم وصادم، وهي تحقق نسب مشاهدة عالية جداً رغم حظرها، وتجتذب فئة الشباب بصورة لافتة. سافر الأب لينقذ ابنه، فوجده مواظباً على حضور دروس «دينية»، يقدمها رجل أذري. يقول «تأكدت أن ابني وقع في براثن جماعة، تعمل عمل السماسرة، تبحث عن ضحايا مقابل أجر»، مؤكداً أنه قدم بلاغاً ضد الأذري وزوجته، والجماعة التي يقودها، في أوكرانيا، وأن السلطات هناك ألقت القبض على 5 منهم بتهمة التخطيط لأعمال إرهابية. ويضيف «وجدت ولدي شخصاً آخر، لقد أصبح متشدداً، ومتصلباً، ولا يقبل النقاش، اتهمني وعائلته بالكفر، ووصفنا بأبشع الألفاظ». ظل قلب الأب يرفض تصديق التحول الجذري الذي طرأ على ولده، حتى تفاجأ يوماً باختفائه. يقول «اكتشفت أنه سافر إلى إسطنبول، فلحقت به، وأطلعت السلطات التركية على الأمر، وبعد فترة أخبرتني أن محمداً دخل سوريا، وبطرقي الخاصة عرفت أنه انتقل إلى الموصل العراقية». لم تجد توسلات والدته ودموعها نفعاً لردعه، فكلما اتصل محمد بعائلته عبر برنامج المحادثة على الإنترنت «ياهو ماسنجر»، رجوه أن يعيد التفكير بما أقدم عليه، إلا أن ردوده كانت «قطعية»، فهو مصر على أنه على حق، وأنهم «كفرة ومصيرهم جهنم»، وفي هذه الأثناء لم تتوقف مساعي العثور عليه. وفي آخر اتصال معه، تم في الـ20 من أغسطس الماضي، أخبرهم أنه قرر تنفيذ عملية «استشهادية»، وأنه سيلاقيهم «في الجنة»، بعدها انقطعت اتصالاته حتى تواترت أنباء قيام محمد، الذي لقب بعد انضمامه لتنظيم «داعش» بـ«أبو البراء»، بهجوم انتحاري «انغماسي» ضد ثكنة للجيش العراقي في الجرايشي بمحافظة الأنبار، في الثاني من أكتوبر الماضي، فانهارت آمال أسرة باسترجاع فلذة كبدها. والانغماسيون في أدبيات التنظيم، وفق الخبير في شؤون الجماعات المسلحة، حسن أبوهنية، هم أشخاص يمكنهم محاكاة ملامح «العدو»، ليتطابقوا معه، وغالباً ما يكونون من صفوة المقاتلين، المستعدين لتفجير أنفسهم إن لزم الأمر، ويختارهم التنظيم من المنتمين الجدد، موضحاً أن الانغماسي يكون مخيراً في تنفيذ العملية الانتحارية، شرط عدم العودة من دون تحقيق الهدف، إلا أن محمداً اختار تفجير نفسه ليلقى حتفه داخل مجنزرة مفخخة استولى عليها «داعش» من الجيش العراقي أثناء معارك سابقة. ويقول الضلاعين «غُرّر بولدي وانقضى الأمر، والآن أنا أبحث عن زوجته الحامل بشهرها السادس»، مشدداً «لا أريد إرهابياً آخر من نسلي»، وهو على اتصال وثيق بالجهات الأمنية الأوكرانية في انتظار معرفة مصير مارينا، ويشرح كيف أنه لا يشعر بأن من مات ابنه، ويقول «لم يعد الشاب البار الذي يتحدث إلى والدته يومياً طالباً رضاها»، مؤكداً «روح أخرى سكنت جسد محمد». ويبدو محمد نموذجاً «مقلقاً» لشباب اعتنقوا الفكر المتطرف، وهو واحد من آلاف نجح «داعش» في استقطابهم، والواقع أنه على وقع تمدد التنظيم السرطاني، رغم مرور أكثر من عام على شن تحالف دولي، تشارك فيه 62 دولة، وفق صحيفة «تليجراف» البريطانية، هجمات متكررة لاستئصال شأفته، صار مهماً دراسة كيف يستورد «داعش» العنصر البشري، الذي يُبقي نيران حروبه متقدة، وما هي أدوات التجنيد التي يمتلكها، وما مدى كفاءتها، لاسيما وأن عديداً من الذين انخرطوا في صفوفه، تم اصطيادهم إلكترونياً. ورغم ما للعوامل الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية من صلة بنشوء مفارخ قادرة على توليد الإرهاب، غير أنه لا يمكن تجاهل جاذبية التنظيم بوجهه العنيف، حتى باتت متلازمة «العنف داعش» أصيلة في فكر الملتحقين به. ويواجه العالم راهناً تنظيماً متشظياً يصعب مواجهته بحروب تقليدية، لاسيما وأنه يتغلغل في عقول أتباعه، ويتركهم برسم الهجوم إلى أن تحين ساعة الصفر، فينفذون أعمالاً إجرامية في سبيل نصرة «قضيتهم»، مستفيدين من تأويلات «مزيفة» للعقيدة الإسلامية، تجعلها «متواطئة مع فعل الإرهاب». ويحاول محللون حصر أدوات التنظيم التي يطوعها لقرصنة عقول الشباب، وكسب تأييدهم، لتبرز التكنولوجيا أداة حاسمة في هذا الموضع، ما يصعب مصادرتها، لاسيما وأن الرقابة التقنية ليست كفيلة بردع مخاطر أشخاص ينقلبون فجأة إلى مفخخات، ما يعظم دور الوعي، في تحصين الشباب ضد الـ«بروباجندا الداعشية»، التي وظفت التوعك الاقتصادي، والسخط السياسي، والعطب الاجتماعي في استنبات إرهابيين مؤمنين بفلسفات متطرفة. إنقاذ الأرواح وحصدها وفي محاولة لتفسير تحول محمد إلى «أبو البراء»، وكيف قطع المسافة بين إنقاذ الأرواح كونه كان يدرس الطب وإزهاقها، بعد أن حول جسده إلى قنبلة موقوتة، تسقط نظريات تقليدية حاولت رسم «بروفايل» موحد للانتحاريين، فيما تنجح أخرى في تقديم مسوغات منطقية. فلا تنطبق على محمد نظرية الفقر والتهميش، التي دفعت كثيرين إلى البحث عن هوية جامعة (الدين) ترتقي فوق التصنيفات الاجتماعية، حيث لم يعانِ شظفاً خاصاً قبل انضمامه لـ«داعش»، فأبوه نائب في البرلمان الأردني، وينتمي لعائلة استطاعت أن تلحقه بجامعة راقية تؤسس له مستقبلاً زاهراً لو أنه اختار الحياة. ويرى أبوهنية، أن التفسير الاقتصادي القائم على التهميش والفقر والبطالة، وصولاً إلى الأمية كان الأكثر فعالية خلال المراحل السابقة من تاريخ الحركات الجهادية، لكن بعد حقبة العولمة باتت المرتكزات الثقافية الدينية عوامل أقوى في التحول الأيدلوجي المتشدد. ويمكن أن تنطبق على حالة محمد نظرية «الشللية»، التي اتسمت بها خلايا كثيرة تكونت في أوروبا بين عصابات الأجيال الثانية من المهاجرين، حيث يقنع «تائب» بقية الشلة بالانضمام إلى المسجد، والبحث عن قضية كبرى يلخصها لهم الجهاد، لاسيما وأن الأب أكد دور الرجل الأذري في استقطاب ابنه، وحمله على حضور دروس «كراهية دينية». ويرى الأب كذلك أن لزوجة ابنه يداً طولى في التحول الذي طرأ على شخصه، مؤكداً أنها اعتادت القول، إنها «تريد الجهاد لتدخل الجنة»، ويبدو اتهامه منطقياً، فماريا البالغة من العمر 26 عاماً، اعتنقت الإسلام قبل نحو عام، وارتدت النقاب، وحضرت دروس «تعبئة معبقة بالتهديد والوعيد للذنوب المرتكبة»، واضعة الجهاد سبيلاً وحيداً للنجاة ودخول الجنة. وتكشف أرقام جهات دولية، أن عدداً متزايداً من معتنقي الإسلام حديثاً يلتحقون بصفوف التنظيم. ويقول أبوهنية، إن التقرير الأخير للأمم المتحدة، الذي أعدته لجنة مراقبة نشاط تنظيم «القاعدة» في مجلس الأمن الدولي، بتاريخ 19 مايو الماضي، أظهر ارتفاع عدد المقاتلين الأجانب بنسبة 71% بين منتصف عام 2014 ومارس 2015. وقال التقرير، إن عدد المقاتلين، الذين غادروا أوطانهم للانضمام للقاعدة و«داعش» في العراق وسوريا، بلغ أكثر من 25 ألف شخص، من أكثر من 100 دولة، موضحاً أن التقارير الاستخبارية الأميركية تؤكد وجود 35 ألف مقاتل عربي وأجنبي في صفوف التنظيم. ويؤكد أن «التنظيم يستهدف الشباب الذين تحولوا إلى الإسلام حديثاً، ليكونوا محركات «إرهابية» في مجتمعاتهم، مستغلاً شغفهم بأن يكونوا مسلمين «صالحين»، ومتكئاً على جهلهم في العلوم الشرعية، نظراً لحداثة اعتناقهم الإسلام. ويبدي إمام وخطيب جامع الشيخ زايد الكبير وسيم يوسف أسفه لانضمام مسلمين جدد إلى التنظيم، موضحاً أنهم يستقطبونهم بالجنة والحور العين، ويفهمونهم بأن العمليات الانتحارية هي أسرع وسيلة لدخول الجنة التي تتوق إليها نفوسهم، التي ذاقت هوان الكفر. واللافت في هذه المروية، أن الأب انبرى لإعطاء محاضرات توعية في الجامعات الأردنية، متخذاً من ولده مادة ثرية توضح للشباب أنواع الأفخاخ التي تحيق بهم، وتحذرهم من خطر التطرف الذي يحدق بهم. «داعش».. متلازمة العنف ولاستقصاء أسباب انضمام محمد وغيره من الشباب للتنظيم، غالباً ما ينطلق البحث من العنف المفرط، سواء لجهة الإقدام على أعمال إجرامية من قطع رؤوس، أو تنفيذ عمليات رجم وحرق، أو لجهة استعراض هذا العنف وتعميمه عبر أشرطة مصورة تبث على منصات وسائل التواصل الاجتماعي. وفي مقاربة بحثية أعدتها الكاتبة الصحفية بيسان الشيخ، بالتعاون مع مؤسسة «فريدريش إيبرت» الألمانية، وحصلت «الاتحاد» على نسخة منها، ظهر أنه لا يمكن تناول «داعش» ضمن أي مقاربة بحثية، من دون ربطها مباشرة بهوية بصرية فرضتها بفعل عامل الصدمة أولاً، وما تحمله من رسائل حول نهجها ثانياً، ومن ثم جودة المنتج الإعلامي وسعة انتشاره ثالثاً، إلى جانب كونها أول نموذج «دولة خلافة» وهمية عابرة للحدود «الوطنية»، منذ سقوط الامبراطورية العثمانية عام 1922. وتقول الشيخ، إنه من ضيق الأفق اختصار جاذبية «داعش» لدى الشريحة الشابة، سواء العربية أو الغربية، بالعنف وحده، فلو كان أنصاره مجرد شبان متعطشين للدم، لكانوا ارتكبوا جرائم جنائية في بيئاتهم الأولى، أو ربما تحول المغالون منهم إلى قتلة متسلسلين، أو انتسبوا إلى عصابات مجردة من أي بعد سياسي، أو مشروع بعيد المدى، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، فغالبية هؤلاء، ليسوا أصحاب سوابق، ولا هم بالضرورة «أشرار» بالمعنى التقليدي، موضحة أن ما يقدمه «داعش» من «بروباجندا» مصورة وبيانات، هو تماماً الهوية التي يسعى إلى أن يعرّف نفسه بها، ويستثمر وقعها في نفوس المتلقين، لا سيما لجهة إثارة الرعب والخوف للتسليم له والإقرار به أمراً واقعاً. ويبدو أن الفرضيات حول جاذبية «داعش» كثيرة ومتفرعة، وهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بظروف المنضمين ودوافعهم، ما يمنع رسم خط واحد لهم يقدم إجابات شافية، لاسيما وأن هذا الميدان لا يزال حكراً على أجهزة الأمن، فيما البيانات والمعلومات الموثقة غير متوافرة للباحثين والدارسين بالدرجة المطلوبة. وفي استجلاء لعوامل جاذبية التنظيم، التي تتباين وفقاً للنطاقين الجغرافي والسكاني، توضح الشيخ، في اتصال هاتفي أجرته معها «الاتحاد» أنه إذا كان يمكن الحديث عن شقاق سني- شيعي دفع بنحو 900 لبناني، بحسب المركز الدولي للدراسات حول التطرف، إلى الالتحاق بـ«داعش» و«النصرة» قبلها، انطلاقاً من «مظلومية سنية» قائمة على عداء سياسي قديم للنظام السوري، فإن ذلك لا ينطبق على المنضمين الأردنيين مثلاً، حيث تلعب الهوية الوطنية وليس «الطائفية» الدور الأساس في شحذ الهمم. أما في تونس، المصدر الأول للدواعش، (يفترض أنهم يبلغون نحو 3 آلاف)، فقد كان وهم «الخلافة» بعيداً عن علمانية مترافقة بقمع الهوية الدينية، محركاً دفيناً لشبان المناطق المحرومة، الذين لم تستوعبهم بيئة الثورة، في حين، يقدم العراق، المنبت الأول للتنظيم، نموذجاً آخر لتقاطع البيئة العشائرية مع رواسب «البعث»، وفشل نموذج حكم «ما بعد صدام» في خلق هوية وطنية جامعة لأطياف المجتمع العراقي، فجاءت العقلية الانتقامية المشبعة باضطهاد سابق لتعزز «عبثية» الحرب الأميركية، وتضع نصب أعين العراقيين اضطهاداً لاحقاً، تجسدت ذروته في معتقل أبو غريب، الذي تركت «صوره المسربة» جرحاً نازفاً في كبريائهم الجمعي، بينما تقدم البيئة السورية، التي احتضنت جزءاً من هذه «الدولة»، بحسب الشيخ، حالة أخرى تتشابك فيها البعثية والعشائرية بجنوح مقاتلين محليين إلى تنظيم يقدم لهم إنجازات ملموسة. وتخلص إلى أنه سواء كان الملتحقون بـ«داعش» مهمشين في بلدانهم، أو أبناء مهاجر فشل في إدماجهم، أو معتنقين جدداً للإسلام، أو حتى أشخاصاً ناجحين نظرياً في الحياة، ثمة محرك داخلي مشترك يحملهم إلى«المهجر الجديد»، حيث يتجسد في نموذج «داعش» يوتوبيا (المدينة الفاضلة) التي يطمحون إليها. فهم، بالإضافة إلى خوضهم حرباً مقدسة ضد الظلم، يعيشون وينشئون عائلاتهم في أول تجربة واقعية وملموسة لـ«حكم الشريعة». وتقول الشيخ، «يبدو الارتكان إلى الإسلام كفكر سياسي الأكثر ضمانة، باعتباره المنتج المحلي الوحيد الذي خرج من عمق الثقافة العربية، وقدم برامج سياسية واقتصادية ناظمة للسكان، على أرضية مشتركة وهوية جامعة». بين مناكفة «القاعدة» ومنازلة «داعش» ولا يمكن فصل التشابكات، التي تعيشها المنطقة العربية عن الشباب، الذي يعايش المجريات أو يتابعها، ما عزز جاذبية التنظيم، بصفته الملجأ، الذي يتوافر على إيديولوجية دينية تبني «دولة» تقوم على تطبيق الشريعة، ويقدم نفسه مدافعاً عن الهوية السنية في مواجهة النفوذ الشيعي، ومقاوماً للهيمنة الغربية، التي تقود «حملة صليبية»، فيما لا يغفل استثمار شبكة الإنترنت وأذرعها الاجتماعية، موظفاً ما يمتلكه من خبرات فنية رفيعة في بث دعايته «المتطرفة»، كما لا يمكن إغفال جاذبية نهج «داعش»، مقارنة بـ«القاعدة» بوصفه التنظيم الأم. على الصعيد ذاته، يقول أبوهنية، في ردود مكتوبة وصلت عبر البريد الإلكتروني، إن جاذبية «داعش» مستمدة من معيار النجاعة، ففي الوقت، الذي أصر فيه تنظيم القاعدة المركزي على المضي قدما في مناكفة «العدو البعيد» عبر تكتيكات حروب النكاية، ونهج الاستنزاف والمطاولة، يشدد «داعش» على قتال «العدو القريب» عبر استراتيجيات التمكين، ونهج التطهير والسيطرة والمنازلة، وبينما شدد «القاعدة» على كونه طليعة مقاتلة تحمل رسالة للأمة الإسلامية، وتناهض الهيمنة الغربية على المنطقة، مصراً على خوض «حرب أنصار» تستند إلى أسس مصلحية، أكد «داعش» كونه طليعة محاربة، ممثلة للأمة الإسلامية، تقاتل الأنظمة باعتبارها «مرتدة»، عبر خوض «حروب هوية» تستند إلى قواعد دينية وجودية. ورغم إصرار «داعش» على زعم ذاته «حركة سنيّة سلفية» تسعى إلى إعادة الدين كحاكم للمجتمع، وتطهيره من التطورات التي لحقت به عبر الزمان، إلا أنه متلبس بالحداثة التقنية، ويستلهم الأطر التنظيمية «الفاشية» في تكوينه العسكري، وبنائه الدعائي. مراجعة تاريخية في المراجعة التاريخية لنشأة التنظيم، تفسير لقدرته على استقطاب الشباب، وكسب ولائهم، ويقول منار الرشواني، الكاتب الصحفي السوري، ومدير تحرير المقالات في صحيفة «الغد» الأردنية، إن «داعش» انسلخ عن تنظيم «القاعدة» في العراق خصوصاً، بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، الذي قتل في يونيو 2006، معتبرا أن صعود التنظيم جاء نتيجة الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. وهو ما أقر به مؤخراً الحليف الرئيس للولايات المتحدة في ذاك الغزو، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، في مقابلة مع شبكة «سي. إن. إن» الأميركية. ويقول الرشواني، في اتصال هاتفي أجرته معه «الاتحاد»، إن الوجود العسكري الأجنبي احتلالاً، كما تدخلاً أو حماية، كان مؤشراً على ضعف الأنظمة الحاكمة، ما سمح باستباحة كرامة المواطنين، ولاسيما في العراق، حيث مورست عقب الاحتلال سياسات استئصال وتصفية، ناهيك عن التهميش بحق السُنّة، وبالتالي، بدا ممكناً للتنظيمات المتشددة، لاسيما «القاعدة» ووليدها «داعش» ملء الفراغ، الذي تخلفه الأنظمة، وصولاً إلى إنشاء «دولة» في العراق تضم أيضاً أراضي من سوريا، التي تعاني تشرذماً واضحاً. ويرى أن خلفية النشأة هذه تسمح بتفسير نجاح «داعش» في تجنيد أعضاء من داخل العراق وسوريا، كما من بلدان عربية وأجنبية مختلفة. فمن ناحية، كان ممكناً استغلال الجرائم المرتكبة في هذين البلدين بحق السُنة تحديداً لاستقطاب جزء غير قليل من مواطنيهما، فضلاً عن استغلال الأمر ذاته لاستقطاب مسلمين من شتى بقاع العالم بدعوى «الدفاع عن الأخوة»، مضيفا أنه في مرحلة لاحقة، بدا ممكناً أن يضاف إلى ما سبق تحقيق وهم إحياء الخلافة، الذي يرتبط بالعقل الجمعي الإسلامي عموماً بفترة الوحدة والقوة والازدهار. صلاح.. صنيعة الظروف ومن أولئك، الذين انخرطوا في التنظيم، بعد أن عايشوا ظروف نشأته، صلاح، الذي ولد عام 2000 في مدينة القصير، الواقعة بمحافظة حمص، وعاش نحو 11 سنة «طليعياً» «في كنف حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي يحكم سوريا منذ عام 1963، مؤمناً بأنه ينتمي لـ«أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة». عاش الصبي مع عائلته الممتدة، التي تضم إلى جانب أبويه وأخوته، جده المتقاعد، وجدته، وعمته المصابة بتخلف عقلي. كان يدرس، ويلعب، ويتشاجر مع أصدقائه حول مشروعية الهدف الذي سجلوه ضدهم. ولطالما انتظر عودة والده نضال رعد (40 سنة)، من عمله في حقول يملكونها، ليلعب معه، قبل أن تتناول الأسرة طعام العشاء. إلا أنه ومنذ هبوب رياح الثورة السورية عام 2011، اختلفت طقوس الأسرة، التي تجرعت ويلات حرب شنها نظام أبى أن يفهم أن الشعب لم يعد يريده حاكماً، ومع وصولها إلى القصير وريفها، واندلاع مواجهات شرسة أفضت إلى إحكام النظام السوري سيطرته على المنطقة في يونيو 2013 بالتعاون مع حزب الله اللبناني، تفاقمت الظروف الصعبة وتكالبت على أسرة رعد. ولم يمض وقت طويل حتى توفيت الجدة بسبب انعدام الرعاية الصحية، لكن الأسوأ كان لم يحدث بعد، ففي رمضان الماضي استيقظت الأم لتجد فراش صلاح فارغاً، إلا من ورقة يخبرها فيها بأنه ذاهب إلى الرقة للالتحاق بـ«داعش»! تقول عمته في اتصال هاتفي أجرته معها «الاتحاد»: «انقطعت أخبار صلاح منذ ذلك الحين، إلا أنه كتب مرة على صفحته في «فيسبوك»، أنه «يعيش سعيداً في دولة إسلامية». وفي مرة أخرى كتب أنه «يتمنى أن يكون شهيداً في سبيل الله أمام جنود الطاغوت»، وتؤكد العمة، المتزوجة من أردني، والمقيمة في عمان منذ عام 1993، أن ابن أخيها «تعرض لغسيل دماغ، لاسيما وأنه وصف أهله بالكفار، ودعاهم للانضمام إليه». وتقول، إن حسابه لا يزال «مفعلاً»، إلا أنه لا يرد على رسائلهم، لذا لا يعلمون ما الذي حل به، لافتة إلى أنه في مرة وضع صورة مستطيل أسود كتب في منتصفها «تعبان». ورغم أن تبرير العمة انضمام ابن أخيها لـ«داعش»، يظل «تكهناً»، إلا أنه «مقبول»، فقد رأى منزله يهدم، ووالده يفقد، وجدته تموت، شاهد الموت والدمار، وعايش التعصبات، والانفلات الأمني. وفي المقلب الآخر، وجد تنظيما يقدم له «حياة بديلة، مكتملة الشروط»، فكان منطقياً أن يلجأ إليه، وفق مستشار الطب النفسي، رئيس جمعية الأطباء النفسيين الأردنية، الدكتور محمد حباشنة، الذي يؤكد أن صغر سن صلاح يجعله لقمة سائغة لتنظيم حريص على تجنيد الأطفال ليضمن استمراريته، لاسيما وأن قدرته على اتخاذ قرارات «صائبة» ضعيفة. الاستعداد النفسي عامل الحسم وبعيداً عن استقطابات السياسية وإسقاطاتها على الحياة الاجتماعية والاقتصادية بوصفها ملمحاً جاذباً لانضمام الشباب لـ«داعش»، تبقى القابلية النفسية عاملاً حاسماً لانضمام فئة دون أخرى، في ظل استحالة تصنيف الملتحقين تحت بند واحد. وفي إطار التقصي الوجداني للظاهرة، يتكشّف أن المزاج العام مؤثر قوي. إلى ذلك، يقول حباشنة، إن فكرة الخلافة راسخة في الوعي العربي الإسلامي، بحكم نجاحها تاريخياً، ما يضعف مناعة الكثيرين أمامها. ويضيف أن العقل الجمعي العربي يعيش حالة نكوص إلى المرحلة الأكثر إشراقاً في تاريخه، وهي الخلافة، شارحاً أن النكوص تقهقر لاشعوري للماضي يلجأ إليه العقل للهروب من الإحباط والألم. وعلى صعيد التشريح النفسي للأشخاص الأيسر تعرضاً للغسل الأيدلوجي التكفيري، يقول حباشنة في اتصال هاتفي أجرته معه «الاتحاد»، إن الأشخاص، الذين يعانون فراغاً، أياً كان نوعه، هم الأكثر عرضة للتأثر بما يقدمه هؤلاء المتطرفون من وجبات فكرية جاهزة تشبع نهمهم للامتلاء، مؤكداً أن الفراغ المادي ليس الفراغ الوحيد، الذي تسعى التنظيمات الإرهابية لملئه، فهناك فقراء لديهم مناعة كبيرة، لأن أرواحهم ملأى. ويبدو أن استراتيجية التنظيم ليست عبثية، فهي مدركة للطبيعة البشرية، وتحسن استغلال ضعفها. ويورد حباشنة أن الإنسان فطرياً
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©