الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مجاز يشتعل بالأسرار

مجاز يشتعل بالأسرار
11 ديسمبر 2013 19:36
بعد غبطة الهوى، عناقيد الفتنة، وطوق الغواية، ومس من الماء، تواصل الشاعرة حمدة خميس في كتابها الجديد “في مديح الحب: تأملات في فتنة الحب وغموض أسراره” سفرها في أقاليم الحب القصية، بحثا عن إجابات ما لسؤال الحب الذي طالما ظل عصيا على الكشف والاكتشاف. يشي عنوان الكتاب منذ البداية بانحياز الشاعرة إلى الحب، هذا الانحياز النابع من فتنة الحب وغموضه باعتباره حالة عابرة للإدراك ومتعالية على محاولات هتك حجبه. من هنا تغدو تجربة الشاعرة محاولة أخرى للإبحار في أعماقه، وهي تستخدم في ذلك لغة المجاز عالية التكثيف والتوتر، التي تبدو مشدودة كوتر بين قطبي الأنا والآخر في معادلة الفتنة والشوق والمكابدة في حضرة الحب. تجمع لغة الكتاب بين البوح والمكاشفة في تجليها الباذخ وعنفوان أشواقها وبهاء فتنتها، مستخدمة لذلك لغة المجاز بتكثيفها العالي والموحي وإشراقها وتدفقها العذب، عبر سبعة مدارج حيث لا تخفى على القارئ رمزية الرقم ودلالته باعتباره رقما سحريا. وكعتبة أولية للدخول إلى عالم الحب تفتتح الشاعرة كتباها بمدرج أول تحاول فيه مقاربة معنى الحب باعتباره انفلاتا من شرط المكان والزمان وخروجا على شرط الذات في حياة باتت تعاني من الرتابة والملل والبلادة. تتكئ بداية على مقبوس لشاعر الحب الصوفي جلال الدين الرومي تمهيدا لدخولها الأول الذي يحاول أن يضيء جانبا هاما من هذه التجربة التي لا يكفي أن نعيشها بمشاعرنا وأشواقنا ومكابدات فتنته، إذ لا بد قبل أي شيء آخر من تعلم لغته والتأمل في أعماقه بحيث لا يكفي أن نعيش حالة الحب، بقدر ما يجب أن نحولها إلى سلوك وممارسة تثري حياتنا ووجودنا وعلاقتنا بالآخر في حياة باتت تجنح نحو الانغلاق على الذات، ما يجعل الحب يشكل خلاصا لنا من بلادة العيش وأنانية الذات. في المدرج الثاني تنتقل الشاعرة من الدعوة إلى تعلم لغة الحب في حياتنا إلى مديح الحب، من خلال لغة الشوق واللوعة وتمجيد هذه العلاقة التي يحضر فيها بوصفه مصدر انبثاقها وتوهجها واندياحها والذي يعتبر مبتداه ومنتهاه، من خلال هذا البوح الذي يفيض بلواعج المرأة العاشقة وهي تحاول أن تقبض على لحظة فتنتها المكتنزة بالدهشة والفيض وترنمها بحروف مجده: “أحبك لا لكي تسمعها بل لأسمعني.. ترن كقطرات مطر تتعاقب على سطح بحيرة خالقة حولها اندياحات كهشيم الألماس إذ يتلألأ في فجر بازغ... أشعر بلسعة العذوبة ونشوة الارتواء... أدرك أنني لا أنضب لا يمر الجفاف على قلبي.. امتلئ لأجعل ما حولي أخضر أخضر... لتزهر أصابعي...لأحبك أكثر.. لألمسك في وهمي... لأضمك إلى الحب الذي يعصف بي)”. لا يخلو خطاب الحب عند المرأة رغم تمجيده للحب كقيمة وجودية وإنسانية عظيمة من رنة حزن وأسف نابعة من وضع المرأة وشرطها الإنساني والاجتماعي، على الرغم من أن خطاب الهجر والشكوى يمكن أن نجده عند الرجل والمرأة معا في هذه التجربة، لكن المرأة التي منحها الحب روعة الانطلاق والتوهج والتجدد تنهض فوق جراحاتها وأحزانها معلنة تمردها على هذه العلاقة رافضة أن يتحول الحب إلى قيد يكبلها ويحرمها من روعة العيش والتفتح. يمثل الآخر الرجل في هذا الخطاب مصدر الضوء الذي يبدد عتمة قلب الشاعرة ويهبه الفرح ما يظهر طابع التمجيد الذي يتسم به الحبيب تارة، مقابل الطابع الآخر الذي تتجسد فيه ومعه تلك الثنائية أو علاقة التقابل التي يظهر فيها كمصدر للوعة والهجر، الأمر الذي يجعل المرأة العاشقة في هذا الخطاب تكتسب صورتين مختلفتين صورة العاشقة المفتونة بسحر الحب والعاشقة المتروكة لأحزانها ووجعها وغيابها. وتظهر تلك الثنائية أو علاقة التقابل في هذا الخطاب من خلال انقسام الذات المتكلمة، فهي المرسلة للخطاب والمرسل إليها في آن معا من خلال لعبة الضمائر التي ينبني خطاب العشق عليها في هذا الكتاب. ينهض خطاب العشق على مهاد صوفي يتجلى في لغة الإشراق التي تقود الذات في سفر عشقها نحو التوحد مع الآخر. ويظهر هذا الفيض الذي يتدفق من أعماق الذات ويضيء جنبات وجودها وعالمها الجديد، ما يضعها أمام حالة يصعب تعريفها وفهم أسباب تحولاتها التي تجعل من الذات العاشقة وعلاقة العشق حالة أثيرية وطاقة جاذبة تجتذب الذات بقوة نحو الآخر، المرأة أو الرجل، باعتباره المركز الذي تدور حوله ذات العاشق. وإذا كانت الشاعرة خميس تحاول الإجابة عن سؤال الحب فإن تلك المحاولة تنضاف إلى تاريخ طويل بطول تاريخ الإنسان للإجابة عن هذا السؤال اللغز الذي كما قال الشعراء أنه متى عرفنا كنهه فقد سحره وفتنته. مقابل علاقة الحب وما تمثله من فيض للحب ينعكس على علاقتنا بالحياة والأشياء يظهر خطاب الكراهية بوصفه النقيض لخطاب الحب، ولذلك تترك للحب أن يكتبها في قصائدها المفتوحة على الحياة من أوسع أبواب العشق والجمال والتوهج العاطفي النبيل، فالحب طاقة للتجدد والانبعاث والإشراق على خلاف ما تمثله الكراهية من نزوع إلى محاولة القضاء على الآخر، جذرها يعود لفقدان الحب في طفولة ضائعة: “حين أكتب الحب.. حين يكتبني الحب في قصائدي أعرف أنني أحتفي بالحياة في أبهى وأرقى تجلياتها. بالروح في أبلغ طاقتها، بالجسد في أسمى وأنبل مسالكه وتعبيره. أعرف أيضا أنني أعيش الرهافة واليقظة وأقصى مراقي الانتباه للحرية للكون وللعالم وللجمال”. تنتقل الشاعرة في المدرج السابع والأخير من استحضار تجليات العاشق والعشق وحالات وجده وتفتحه وفيضه النوراني إلى استعادة جوانب من موروث أدب العشق في الثقافات القديمة كالثقافة الفرعونية والثقافة العربية، ثم تتناول أطروحات الباحث علي حرب حول المرأة والحب والمرأة والغياب وخطاب الحب عند العرب وعلاقة الحب بالخلود. وتطوف الشاعرة مع عدد من المفكريين والكتاب العالميين في حدائق الفكر الإنساني فتبدأ أولا بطروحات العالم النفساني النمساوي فيلهلم رايش في كتابه الشهير “خطاب إلى الرجل الصغير” الذي يكشف فيه عن عوامل الشعور بالضعة والضعف عند الإنسان، في حين تبحث في كيفية بزوغ الفلسفات القديمة في الهند، وفي دعوة الروائي اليوناني الكبير لاستعادة حالة الإشراق عند الإنسان لمواجهة شرط وجوده القاسي، إضافة إلى الكشف عن الدور الهام الذي تلعبه المنظمات الإنسانية ممثلة بمنظمة فن الحياة الهندية التي تلح في أطروحاتها على حاجة الإنسان إلى السلام والمحبة، باعتبارهما حاجة فطرية متأصلة عند الإنسان وهي حالة تشع من داخلنا وتحتوي الآخر والطبيعة والكون في كل واحد. في نهاية الكتاب تعود الشاعرة إلى طرح هواجسها حول قدرة هذه المنظمات على الفعل وتغيير الواقع الإنساني الراهن، باتجاه نشر قيم المحبة والسلام في عالم تعصف به الحروب ونوازع السيطرة والاستعلاء والأخطار.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©