الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رهبان الدَّم

رهبان الدَّم
16 ديسمبر 2015 20:38
أحمد فرحات ليس صحيحاً ما يشاع بأن البوذية والسياسة على تنافرٍ مقيم. على العكس تماماً، فهما يلتقيان بالتأكيد، بل يذكي بعضهما بعضاً، خصوصاً في زمن الحروب وتداعياتها الدموية. ولنا مثال على ذلك أيام «ثورة الزعفران» الفاشلة في جمهورية اتحاد ميانمار (بورما سابقاً) في العام 2007، وكذلك في ميدان قمع الصين لتظاهرات التيبت في مارس من العام 2008، مروراً، طبعاً، بالحرب الأهلية المتمادية في سيريلانكا منذ أكثر من 35 عاماً، فكل ذلك يؤكد، بل يدمغ بأن هذه الديانة كليّة التماهي بالسياسة والعنف والدم. في اختصار، وحسب الباحث الفرنسي المختصّ بآسيا البوذية: رينو أغريتو، فإن الصورة التي يرسمها الغرب عن البوذية، لا تشبه نفسها البتة على الأرض. صحيح أن الفلسفة الأساسية للبوذية ترتكز على السعي الدائم لأجل النمو الروحي الفردي، غير أن ثمة نصوصاً قديمة في المقابل، تفيد بأن بوذا (563 ق.م.– 483 ق.م.) وضع مبادئ الحكم الصالح والعادل في السياسة (الأخلاق الرفيعة، الغيرية، النزعة الإنسانية، الإنصاف والعدالة)، التي استعادت الهند وإندونيسيا بعضها في القرن العشرين، عبر العقيدة الديبلوماسية «بانشا – سيلا». وكان التوق إلى الحكم بين المجال الثقافي الديني الصرف، والمجال السياسي الوضعي متواصلاً عبر القرون، ولاسيما أن عدداً من الأنظمة الملكية والإمبراطوريات، حرص على تأمين الدعم الروحي للجماعة البوذية، التي أخذت سطوتها تزداد على الشعوب المستعبدة في الهند (حيث نشأت الديانة)، ومن ثمّ في سيريلانكا، وكذلك في أقطار هيمالايا وجنوب شرق آسيا والصين. ويمثل الإمبراطور الهندي آشوكا فارذانا (في القرن الثالث ق. م.) الأنموذج المثالي للحاكم الذي اعتنق البوذية، وكرَّس مبادئها المناهضة للعنف، وتنظيمها الرهباني أداة، ليس للتشريع وحسب، بل أيضاً للهيمنة السياسية على إمبراطورية تسودها ثقافة السلام العميق، كما يسودها أتمَّ انسجام مع القوى المجاورة لها، وراحت البوذية التي كانت ظاهرة مدينية في الأساس (لا تبتعد الأديرة البوذية فعلياً عن مركز السلطة) توسّع دورها المتمثل بتأمين الرعاية الدينية للطبقة المحاربة لتشمل التجار الأثرياء. ومن وجهة الخبير رينو أغريتو، فإن مملكة تايلند، هي وحدها اليوم من يحاول الالتزام العملي بمخطط التوفيق بين الدنيوي والروحي هذا، وذلك بين سائر الدول التي فيها أغلبيات دينية بوذية (نسبة معتنقي البوذية في تايلند تبلغ 94.6%). ويتحلّى الملك التايلندي بوميبول أدوليانج، حامي البوذية، ورمز الوحدة الوطنية في البلاد (نُصّب ملكاً وهو في سن الـ19 سنة 1946) بهالة ترتبط إلى حد بعيد بـ«الكارما»، أي ذاك المفهوم الأخلاقي المستند إلى قانون الثواب والعقاب في البوذية، وبوظيفته كضامن لحماية جماعة «السانغا الرهبانية» (النسّاك والمتديّنين البوذيين)، التي خضع ويخضع زعيمها (السانغاراجا) للنظام الملكي في كل أمرٍ وطني مركزي، ونخصّ بالذكر هنا، مختلف فاعليات جهود السلام والمصالحة الوطنية التي بُذلت بعد الانقلابات العسكرية، التي شهدتها مملكة تايلند في الفترة ما بين 1991 و2006. على صعيد آخر، شهد تطور التيوقراطية (حكم الكهنة) في التيبت، بزعامة الدالاي لاما على التداخل، بل التماهي، بين السلطة السياسية والديانة البوذية، وكان الدالاي لاما يمثل القيادتين الروحية والسياسية في بلاده، ولأجل ذلك لقّبه أتباعه بـ«ملك التيبت»، و«خليفة بوذا على الأرض»، كما لقّبه آخرون، خصوصاً خارج إقليم التيبت بـ«قطب أقطاب الغيلوغبا». و«الغيلوغبا» هم جماعة القبّعات الصفر من الرهبان البوذيين الأصوليين. ومن الأهمية الإشارة إلى أن أي دولة لم تتمكّن، حتى الآن، من تبنّي البوذية كدين للدولة. فقد حاول رئيس وزراء سيريلانكا «سولومون بندرانايك» (1956 – 1959)، ورئيس الوزراء البورمي «مستر يونو» (1948 – 1958)، ومن ثم (1960 – 1962)، فرض هذه الديانة، لكنهما لم ينجحا حقيقةً إلاّ بتأجيج حركات التمرد، استناداً إلى هويات دينية متضاربة، كالتاميل الهندوس في سيريلانكا، والكاشين المسيحيين، ومعهم الروهينجا المسلمين في ميانمار، بيد أن هذا الواقع لم يمنع النظام السلطوي من مضاعفة مساعيه لتملّك البوذية. فقد طوّر المحافظون في الجماعات الرهبانية البوذية الميانمارية والسيريلانكية وحتى التيبتية، رؤية للعالم ترتكز على مبادئ «الكارما»، وتبقى، في الوقت نفسه، متمسّكة بالنظام السياسي القائم، علماً بأن «الكارما» تؤمن بأن كل سلطة سياسية نافذة تحتفظ بمكانتها، لأنها تستحقها، وقد توصل المجلس العسكري الحاكم في ميانمار، الذي لم يكتف بإدراج الدين في صلب الخطاب السياسي، وإنما نصّب نفسه أيضاً وريثاً شرعياً للملوك القدامى الحامين لجماعة السانغا، إلى السيطرة على مصدر المعارضة الكامنة، بزيادة الهِبات، وتشييد المعابد الدينية، وتذهيبها، وتمويل الجماعات الرهبانية الخاضعة لإمرة وزارة الشؤون الدينية وتسلل عناصر من أجهزة الاستخبارات إليها، والواقع أن هذا التواطؤ مع النظام، والفساد المستشري في هرمية الرهبان البوذيين، هما ما يفسران فشل «ثورة الزعفران» التي هزّت ميانمار في سبتمبر من عام 2007. مجازر دموية بوذية على أن أخطر ما انتهت إليه جهات بوذية لا يستهان بعددها في السنوات الأخيرة، هو مناداتها بإلغاء الآخر بالعنف والدم، ولاسيما «الآخر» من الطوائف الدينية الإسلامية، التي تعيش بين ظهرانيها، فصرنا نرى مثلاً مذابح رهيبة منظّمة ضد المسلمين في ميانمار، يقودها رهبان بوذيون مكرسون لاهوتياً، من أشهرهم الراهب البوذي الأصولي حتى العظم «آشين ويراثو»، والتي تسبّبت «فتاواه» بذبح عشرات آلاف المسلمين في قرى الروهينجا في ميانمار، هكذا بدم بارد، وبالمناجل والسواطير والسيوف التقليدية، إلى جانب الأسلحة الرشاشة الحديثة. كما أحرق البوذيون الأصوليون ودهماويّوهم، بيوت المسلمين أيضاً، ومساجدهم، ومدارسهم، ومحالّهم التجارية ومحاصيلهم الزراعية، وشرّدوا عشرات الآلاف منهم. وفي حالات سُعار عدّة، شوهد رهبان بوذيون يحرّضون ميليشياتهم على اغتصاب نسوة مسلمات، وبقر بطون الحوامل منهنّ، وسحلهن وهنّ عاريات، وحتى تقطيع أوصال أطفالهن، وذلك بداعي «استئصال شأفة هؤلاء المسلمين الذين يتزايدون بشكل سريع، ويخشى أن تطغى أعدادهم في المستقبل على أعداد أهلنا من أتباع إلهنا العظيم بوذا»، على حدّ تعبير الراهب آشين ويراثو، الذي يضيف بأن «أكثر من تسعين في المئة من مسلمي بورما، هم من المسلمين السنّة الأشرار المعادين لنا، والمحتلّين لأرضنا منذ مئات السنين». وبالفعل ثمة في الأيديولوجيا الأصولية البوذية المستجدّة التي يتبنّاها الراهب «ويراثو»، «أن المسلمين هم العدو الحقيقي للهوية البوذية»، وأنهم «قوم أغراب غزوا أرض بوذا واستوطنوها منذ قرون طويلة، وباتوا يسيطرون على مساحات شاسعة بتسميات مختلفة اليوم: الباكستان، أفغانستان، بنغلادش، إندونيسيا، ماليزيا، كوريا، تايلند وكمبوديا». تجدر الإشارة إلى أن الراهب «آشين ويراثو» له تأثيره الطاغي على البوذيين داخل بلاده ميانمار وخارجها، خصوصاً من خلال الخطب النارية التي يطلقها، والدروس التي يلقيها أمام مريديه في الأديرة، وأخطر ما في هذه «الدروس» دعواته لإعلان الحرب على المسلمين«أينما وجدوا في بلاد بوذا»، كما دعا مع أركان حركته من الرهبان المتشدّدين إلى سن قوانين لمنع زواج البوذيات من مسلمين، بشرط واحد، وهو أن يتحوّل المسلم إلى بوذي تحت إشراف هيئات دينية بوذية، هي التي تقرّر بوذيتّه الخالصة، والتي تؤهّله، استطراداً، لأن يتزوج من امرأة بوذية. انضم الراهب آشين ويراثو إلى «حركة 969 » البوذية في العام 2013، وهي حركة غاية في التعصّب والدعوة للنقاء البوذي، والتسمية الرقمية التي اتخذتها لحركتها مأخوذة من رموز محض بوذية. يشير الرقم 9 الأول منها إلى تسع مزايا أخلاقية استثنائية لبوذا، ويشير الرقم 6 إلى المبادئ المركزية لتعاليم بوذا، والمسمّاة بـ«الدارما» (وهي التعاليم التي تركها بوذا وتتلخص في نصوص «السوترا»). أما الرقم 9 الأخير، فيرمز إلى سمات الرهبان البوذيين المتَخيَّرين التسعة، والذين يُسمّون بـ«السانغا». و«حركة 969»، أسسها راهب بوذي متعصّب يدعى «كياو لوين» في عام 1999، بهدف التحريض على سائر الأديان التي تعيش بين ظهراني الدول ذات الكثافة البوذية، والإسلام في الطليعة بينها. ويجزم خبراء بالبوذية الدينية – السياسية أن «حركة 969»، إنما نشأت لهدف واحد، هو محاربة الإسلام فقط، وطرد أتباعه من الديار البوذية جميعها، وقد أسّس جهابذة البوذية لهذا الغرض معاهد دينية في قلب أديرتهم الكبرى لتنشئة أطفال البوذيين على أيديولوجية واحدة، هي كره المسلمين وبناء جيل بوذي جديد تكون مهمته الأولى والأخيرة، «تحرير الأوطان وتطهيرها كلياً من الأغيار المسلمين» على حدّ تعبير الباحث الهندي في «البوذيات» عمر مجيب صهيب. وربما لهذا «الغرض المقدس»، التحق الراهب المتعصّب آشين ويراثو بـ«حركة 969»، واستطاع بسرعة قياسية أن يصير زعيمها الديني المُطاع، وتحوّلت أوامره الحربية إلى تعاليم دينية لا تُناقش من طرف «الأتباع المؤمنين». ومن هنا رأينا هؤلاء الأتباع يُنفذّون بوحشية قلّ نظيرها المجازر الرهيبة بحق مسلمي ميانمار، خصوصاً في ولاية أراكان التي تقع على الساحل الغربي للبلاد، باثّين الخوف والرعب، ليس في قلوب مسلمي الروهينجا في ميانمار فقط، وإنما في قلوب مسلمي سائر دول جنوب شرق آسيا وشبه القارة الهندية. وكانت شعارات حرب الإبادة البوذية التي نفذّتها «جماعة 969» مستمدّة من بعض أقوال الراهب ويراثو الآتية: «اقتلوهم تنقذوا بلدكم»، «المسلمون أكلة لحوم البشر»، «المسلمون محتلون، حرروا بلادكم منهم»، «المسلمون هم الأعداء الدائمون للقومية البوذية»... إلخ. من جهة أخرى، وفي إطار الحرب البوذية الممنهجة على مسلمي ميانمار، أمر الراهب «آشين ويراثو» بوقف كل التعاملات التجارية والمصرفية مع المسلمين، وحرّم على أتباعه الشراء من سائر المحال الصغرى و«المولات» الكبرى التي يملكها مسلمون، «فالمال الذي يجمعه المسلمون في البلاد، مآله الأول الأخير، قتل البوذيين وتدمير معابدهم». القيادة العسكرية البوذية جدير بالذكر أن حكومة ميانمار ورئيسها كانوا يغضّون الطرف عن المجازر التي يرتكبها البوذيون في ظل صمت دولي ملحوظ، اللهمّ إلا منظمات دولية غير فاعلة مثل «منظمة هيومان رايتس ووتش»، و«محامون بلا حدود» الفرنسية. وذكرت صحيفة الإندبندت البريطانية «أن الرهبان البوذيين ألّفوا كتيّبات شعبية بعشرات ألوف النسخ دعوا فيها إلى نبذ مسلمي الروهينجا». أما مجلة «التايم» الأميركية الشهيرة، فقد وضعت على غلافها صورة راهب التطرف البوذي «آشين ويراثو» وتحت الصورة عنوان يقول: «وجه الإرهاب البوذي»، الأمر الذي جعل الرئيس الماينماري «ثايت ساين» يستاء من المجلة الأميركية، واصفاً إياها بأنها «تثير سوء فهم عميقاً تجاه البوذية»، وإنه، في النتيجة، غير راضٍ عما جاء في المجلة، واعتبرها «متحاملة على البوذيين، وتخدم نوايا وسياسات أعدائهم في كل مكان». وفي تحليل لهذا التصريح، يقول الخبير الهندي بعلوم الأديان الآسيوية عمر مجيب صهيب لكاتب هذه السطور: «إن الحرب البوذية على المسلمين في ميانمار وسريلانكا وتايلند، تدخل في إطار نشر الفوضى والعنف والحروب الأهلية في الشرق الأوسط الكبير، ومنه امتداداً إلى الصين وسائر دول جنوب شرق آسيا، طرداً.. وعكساً، في امتداد يصل آسيا بشمال أفريقيا وصولاً إلى الأطلسي. باختصار، يُراد للحروب الأهلية والدينية والمذهبية والإثنية الناشبة في بعض الدول العربية والإسلامية، أن تُردف بحروب دينية وثقافية أخرى، بين المسلمين والبوذيين، وبين الهندوس والمسلمين (في الهند) وبين الصينيين والمسلمين (حرب الإيجور في إقليم شيجيانغ». ويردف د. صهيب: «من يعاين لغة ومصطلحات الرهبان البوذيين المتعصّبين، يجدها ملفقة وغير علمية، تجعل من الديانة البوذية مثلاً، عرقاً وقومية وهوية، ومن هنا نجد زعامات التطرف البوذي من الرهبان يتآخون مع قادة جيوش بلادهم، جامعين بين المعبد والثكنة. ففي مدينة «باتاني» التايلاندية مثلاً، تحوّل مبنى قيادة العمليات للفرقة 23 في الجيش التايلندي إلى معبد بوذي يدرّب آلاف المتطوعين المنخرطين في الميليشيات البوذية التي تلتحق بجبهات الحرب ضد المسلمين». وفي سريلانكا، وتحديداً بتاريخ مارس 2013 جرى افتتاح أكاديمية عسكرية بوذية تابعة لمنظمة «بودو بالاسينا المتطرفة» تحت اسم «القيادة العسكرية البوذية»، وقد افتتحها وزير الدفاع السيريلانكي «جوتها بها يارا جاباكسا، وهو في المناسبة شقيق رئيس البلاد، البوذيّ المتعصّب وصاحب العبارة الشهيرة في سيريلانكا: «الرهبان هم درعنا الحامي للبلاد، وهم عنوان هويتنا وعرقنا وقوميتنا». هكذا دخل البوذيون في ميانمار وتايلند وسريلانكا (خصوصاً جماعة «بودو بالاسينا»، أي «الجيش البوذي القوي» في سريلانكا بزعامة الراهب المتطرف «جالا بودا جننسارا ثيرو») اللعبة الاستخبارية الدولية، أو أُدخلوها.. لا فرق، لحسابات لعبة أمم كبرى تتجاوزهم.. لعبة أمم تخلّت عن الحرب التقليدية في ما بينها منذ عام 1945، وتبنّت الجيل الرابع من الحروب، أي الحرب بالوكالة أو بواسطة المجتمعات والشعوب الأخرى، داخل بلدانها نفسها أو على حدودها مع دول أخرى، وعبر استغلال سلاح الدين كأمضى سلاح أيديولوجي، من شأنه إلهاب نار الحروب الأهلية والصراع على المصالح بأجنداتها السياسية والاقتصادية المتناقضة. ويعلّق د. صهيب قائلاً: «عاينوا خطب الرهبان البوذيين النارية، تجدونها من عائلة الخطب النارية نفسها للمتشدّدين الهندوس، والمتشدّدين الإسلامويين، وهذه الخطب كلها مصنّعة داخل غرف أجهزة المخابرات الغربية، ومقتبسة مباشرة من الطريقة التي يناقش بها الغربيون الأديان، وبخاصة الدين الإسلامي بينها!!». الأصوليّات البوذية تخالف تعاليمها إذن، مع بوذيين من صنف الرهبان: «آشين ميراثو»، «غالا بودا جاننسارا ثيرو» و«تانا ديل سوفا»، لم تعد البوذية دين محبة وإيثار وسلام إنساني وروحي متماهيين، مع الذات والآخر. صارت شيئاً آخر مريباً تماماً. صارت ظاهرة إجرام شاذّة ومستفظعة في هذا العالم. رهبانها يشبهون جنرالات الدم والإبادة وعشق التشتّت الجيو – سياسي للأوطان والعباد. لقد احتكروا النصوص البوذية، وحرّفوا مقاصدها وفق ما يخدم مشروعهم السياسي، الذي يتقاطع مع مشاريع سياسية قاريّة أكبر منهم بكثير وأعقد. هكذا، لم يسبق للبوذية في تاريخها الطويل والبعيد، منذ ثلاثة عشر قرناً ونصف القرن، أن استخدمت سلاح الذبح والسحل والحرق وغسل «الخطيئة» بالرماد الأحمر. تقول المصنّفات البوذية القديمة: «إن تاريخها مع الإسلام كان إيجابياً بوجه عام، فلم تسمح المرجعيات البوذية الكبرى لنفسها بأن تنحرف عن تعاليم بوذا، لتغرق في ثقافة البغض والكره واستسقاء الدم بالدم، بل إن جُلّ عناوين تعاليمها الرئيسة التي التزمتها وعلّمتها لمريديها على كرّ الأيام والحقب: لا تقتل، أحبب كل صنوف أعدائك، إياك وأن تتنفسّك ريح البغض والحقد والنفار من الآخرين، إن فهم كل شيء يعني مسامحة كل شيء. أشفق على الجميع، الغني والفقير، فالكل يعانون بشكل أو بآخر، أنت الآخر والآخر هو أنت مهما غدر بك». وإذا أوغلنا في التاريخ أكثر، لوجدنا أن العرب والمسلمين لم يعاملوا البوذيين إلا بالحسنى والمساواة الاجتماعية واحترام حقوقهم الدينية والمدنيّة.. من زواج وطلاق وموت وولادات.. إلخ، لا بل وصل الأمر إلى اعتبارهم «أهل كتاب». يقول ألكسندر بيرزين، وهو باحث قدير في البوذية عاش في الهند 29 عاماً قبل أن ينتقل للعيش في ألمانيا اليوم: «في بداية القرن الثامن غزا القائد الأموي محمد بن القاسم منطقة السند ذات الأغلبية البوذية، وهي ما يعرف الآن بجنوب باكستان. وطلب البوذيون والهندوس في براهمان آباد، وهي إحدى مدنها الرئيسة، السماح لهم بإعادة بناء معابدهم والتمتّع بالحرية الدينية. تشاور القائد بن القاسم مع الوالي الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي استشار بدوره علماء الدين، فقرروا اعتبار البوذيين (والهندوس أيضاً) أهل كتاب». وقد صرّح الحاكم الأموي الحجاج بقوله: «إن طلب رؤساء براهمان آباد بناء المعابد البوذية والتسامح في الشؤون الدينية، هو طلب عادل ومنطقي، ولا أرى حقاً لنا عليهم سوى دفع الجزية. لقد أظهروا الطاعة لنا ودفعوا الجزية للخليفة، فأصبحوا في حمايتنا، وليس لنا حق التدخّل في حياتهم وممتلكاتهم، فاسمحوا لهم يا قوم بحرية ممارسة شعائرهم الدينية، ولا ينبغي لأحد أن يمنعهم فيما هم فيه وقائمون عليه». ونستدرك فنقول إن الخلفاء الأمويين (661 – 750م)، ومن بعدهم العباسيين، الذين حكموا من قلب بغداد (750 – 1258م)، واستطراداً الحكام المسلمون للهند في ما بعد، اتّبعوا السياسة عينها تجاه البوذيين، ولم تتراكم إذّ ذاك ثقافة حقد وكره بوذية للمسلمين، بل تواءم الجميع، تاريخياً، مع هذه الرحابة السلطوية والمرونة السياسية التي قابلتهم بها الحضارة العربية – الإسلامية بوجهيها السياسي والثقافي الحضاري العظيم. قصائد بوذية الصوت الآخر من جانب آخر، ووسط أصوات العصبيّات البوذية العمياء، واللاغية ما عداها، ثمة أصوات لرهبان بوذيين آخرين، ما زالوا على نهج معلمهم وحكيمهم وفيلسوفهم الأول: بوذا، وفي الطليعة بين هؤلاء، الراهب البوذي المتنوّر جونغ دي كوهي، الذي يعتبر الإرهاب البوذي المستجدّ في ميانمار وسريلانكا وبعض مناطق الهند والصين «امتداداً لإرهاب «داعش» وأضرابها في المنطقة العربية والإسلامية، والهدف منه تقويض الأديان وضرب جماعاتها الكبرى بعضها ببعض، وتشتيت البلدان، بتخريب استقرارها السياسي والأمني والاقتصادي.. واستطراداً إعاقة مساراتها الشاملة في التنمية والتحديث». والراهب البوذي جونغ دي كوهي شاعر وصديق، كنت التقيته في سيؤول عاصمة كوريا الجنوبية على هامش اشتغالي على أنتولوجيا شعرية لشعراء من 13 دولة آسيوية، صدرت عن «المجمع الثقافي» في أبوظبي سنة 1999. وهو اليوم يشعر بالخجل والعار والشنار من المجازر التي ارتكبها رهبان بوذيون محسوبون خطأ على البوذية، بينما هم في حقيقتهم أعتى أعدائها وأكثرهم تشويهاً لقيمها. في ما يلي نماذج من قصائده، وقد أدان في بعضها «رهبان الزئبق الحربائي»: رهبان الشر بوذا وردة يفوح نورها على الكون/‏ الكون الظاهر/‏ والكون الباطن/‏ بوذا المحبة الفائضة بلا مقابل/‏ بوذا سلام العقل والروح/‏ ينبوع الأخلاق والرقة والدعة/‏ والبذل بلا منّةٍ/‏ فلماذا يا رهبان الشر/‏ يا أفاعي الفقس الشيطاني/‏ لماذا تقتلونه صبح مساء؟/‏ قولوا لي كيف توغّل هذا الوحش/‏ في الآدمي فيكم/‏ وبات لا يروّض؟/‏ كيف صارت عيونكم بلون الدم والنيران المتلظّية؟/‏ لو أنكم احتكمتم إلى مقدار خردلة/‏ من فراغ الحكمة في رؤوسكم/‏ لسرت فيكم رجفة الانتقام من أنفسكم/‏ قبل أن ينتقم الآخرون منكم. غوانجو - كوريا الجنوبية مارس 2013 القتلة كل يوم تتعفّن وجوهكم وأرواحكم الخبيثة/‏ يا رهبان الزئبق الحربائي/‏ تُحلّقون بجناحين من نار ودم؟/‏ ومع صخب قهقهاتكم لا شيء يردّكم عن/‏ قطع الرؤوس وفقء العيون وبقر البطون/‏ أي صنف من القتلة أنتم؟! أي همج يختزلون الشر الوجودي كله؟! ومع ذلك تُصلّون باسم بوذا؟/‏ تقومون وتقعدون على تعاليمه/‏ من فوّضكم بوضع اليد على بوذا؟/‏ من أعطاكم حقّ التأويل باسمه؟/‏ صلاتكم سوداء يا دهاقنة القتل/‏ وسوادها من قيح ليل غير موجود إلاّ في أماكنكم/‏ مسكين هو السيد الشيطان من بعدكم/‏ لقد تخلّى عن كل صلاحيّاته لأجلكم. غوانجو – كوريا الجنوبية يونيو 2013 شرود لست شروداً/‏ أنا الشرود كلّه فيك يا معلّمي/‏ أوّاه ما أصلب إيماني/‏ ما أقوى فيض منابعه/‏ ما أجمل أرواحه/‏ وهي تذوب وتسيل وتنحلّ/‏ إلى ندىً يتفطّر حنواً ولباقة/‏ ندى كأنه الكمال بعينه. سيؤول – فبراير - 2014 بحر الذهول في الفجر رأيته/‏ ماشياً مشية وقار/‏ فجأة توقف/‏ كاشفني بسره/‏ ومن دون أن يحيد بنظره عنّي/‏ أومأ إليّ بأن ألحقه إلى بحر الذهول/‏ ليبقى هو في الأعماق/‏ ويترك لي الموج/‏ نفذّت ما أراده مني/‏ إذّ ذاك تحوّل إلى ردهة انشراح كبرى/‏ ثم بادلتني أقنوم وحدتها المشتهاة/‏ مفجّرة كلّ هواها العظيم الناشب في قلبي الآن/‏ هكذا صرت فيما بعد جسد الأرض/‏ وهكذا أيضاً سكنت فيّ أرواح السموات العشر. دايغو – كوريا الجنوبية مارس 2014 البحث عن الخلاص البوذية تيار ديني يرتكز على حدس بوذا الروحاني. وقد كان في بادئ الأمر يعتبر أن طريق الخلاص لا يستطيع سلوكها إلا قلة من الناس، لا سيما من بين الرهبان المنقطعين للاستغراق في التأمل، ولكن مع مرور الزمان تطور إلى دين له تعاليمه ومؤسساته، وإلى مجموعة من الطرائق المختلفة تسعى كل واحدة منها إلى تمكين الراغبين في البلوغ إلى الخلاص، وفي النهاية من تَخطّي الوجود البشري بكليّته. الكتاب: مدخل إلى الأديان الكبرى (ص18) تأليف: عادل تيودور خوري «دواعش» البوذية يعتبر الراهب البوذي المتنوّر جونغ دي كوهي الإرهاب البوذي المستجدّ في ميانمار وسيريلانكا وبعض مناطق الهند والصين امتداداً لإرهاب «داعش» وأضرابها في المنطقة العربية والإسلامية، والهدف منه تقويض الأديان وضرب جماعاتها الكبرى بعضها ببعض، وتشتيت البلدان، بتخريب استقرارها السياسي والأمني والاقتصادي.. واستطراداً إعاقة مساراتها الشاملة في التنمية والتحديث. تقبل الآخر هناك علاقة بديهية، في نظر دالاي لاما، بين البوذية وأهيمسا، أو اللاعنف: «اللاعنف لا يعني فحسب غياب العنف، إنه شيء أكثر إيجابية وأكثر دلالة. وهكذا فالرأفة تعبير فضفاض عن اللاعنف. بعضهم يظن أن الرأفة صنف من الشفقة، لكنني لا أعتقد أن هذا الظن صحيح، فالرأفة الحقيقية هي شعور متبادل بالقرب من الآخر، وفي الوقت ذاته، تحمل معنى المسؤولية عن السعادة الشخصية، والرأفة الحقيقية تتطور حين نقبل الآخر بصفته كائناً مثلنا، كائناً يرغب في أن يكون سعيداً وألا يتألم». كتاب: البوذية (ص 116) تأليف كلود ب. لفنسون ترجمة: د. محمد علي مقلد دعوة إلى اللاعنف اللاعنف أضمر على مر العصور طريقة في العيش أسهمت في خلق مناخ خاص في الأقطار التي عاشت البوذية فيها. مع ذلك ينبغي الاحتراس من الخلط بين اللاعنف وبين الاستكانة (اللافعل). فممارسة اللاعنف تتطلب في البداية وضوحاً قاطعاً في اعتماد هذا السلوك، على وجه التحديد، جواباً على التحديات الملازمة للوجود البشري. والتجربة صعبة في ضبط النفس وعدم استخدام القوة إلا بدراية وروية، وفضلاً عن ذلك، من غير انفعال، وقد جسّد ذلك الرهبان الفيتناميون الذين أشعلوا النار بأنفسهم أمام الجمهور لمساندة بلادهم المتطلعة إلى الحرية، وقد كان التعبير فردياً لا يمس الآخر، ويمكن أن يُستخدم كمثال يحتذى أو كمشعل لا أكثر ولا أقل. الكتاب: البوذية (ص 105) تأليف: كلود ب. لفنسون
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©