الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خجل الحرير فصيحات سيّد «الشعرا»

خجل الحرير فصيحات سيّد «الشعرا»
22 فبراير 2017 21:40
يواصل الشاعر والروائي سلطان العميمي مدير أكاديمية الشعر بأبوظبي، مشروع البحث والتنقيب في التراث الأدبي الزاخر لشاعر الإمارات الكبير الراحل راشد الخضر، وهو تراث يتضمن أقانيم ومدارات مدهشة دون شك لمن يتتبع المسار الكرنولوجي المثير، والفضاء التعبيري المكتنز لساحر المفردة الشعبية، وصاحب التراكيب العجيبة والتصاوير الماتعة، والخيالات الفائضة، استناداً لنتاجه الإبداعي المتفّرد، وسيرته الذاتية المقرونة بالضنك، والمرارة، وقلق الترحال، وسط تشظيات العشق، ودهاليز الروح، ومتاهات الجغرافيا. سبق للعميمي جمع وتوثيق القصائد النبطية للخضر في كتاب بعنوان «سفرجل»، ليعزّز الطبعة الثانية من الكتاب بقصائد نادرة للشاعر لم يسبق نشرها، إضافة إلى الشروحات الوافية لأغراضها والمواقف والمفارقات التي استدعت كتابتها في تلك الفترة الغامضة والإشكالية في حياة الشاعر. قصّ الأثر اقتفى العميمي هذه المرة أثر القصائد الفصيحة للخضر التي تمثّل ما يوازي العشرين بالمائة من مجمل تراثه الشعري، لحفظها بين دفتي كتاب مستقل يكون مرجعاً مهماً في أرشيفات الذاكرة الشعرية المحلية والتي ظلت لفترة طويلة مجرد ذاكرة افتراضية ومبعثرة، تعاني من نقص وضمور في الجهود البحثية والاستقصائية والتحليلية. صرّح العميمي لـ «الاتحاد الثقافي» باختياره لعنوان «خجل الحرير» ليكون منفذاً مناسباً وعتبة ذهنية للدخول في المناخات الشعرية لخمسين قصيدة كتبها راشد الخضر بالفصحى، وشاع وصفها بالقصائد «النحوية» في الأوساط والمجالس الأدبية والشعرية في الإمارات قديماً، وأضاف العميمي بأن جلّ هذه القصائد تعاني من إشكالات في الأوزان والقوافي، وهو ما يطلق عليه مصطلح «الإقواء»، وهو إشكال كما وصفه العميمي يبدو طبيعياً في ظل الظروف الثقافية الصعبة، والغياب شبه التام للنظام التعليمي في الفترة التي عاشها الخضر والشعراء العاميون المجايلون له. وأوضح العميمي أن كتابه الجديد سيتضمن قصائد جديدة للخضر وأخرى سبق نشرها، وراعى خلال جمعه للنصوص من الرواة والوثائق المدوّنة، عدم التدخّل فيها أو تعديل الأوزان والقوافي تحقيقاً للأمانة العلمية والمنهج الأكاديمي المحايد والمستقل عند جمع وتوثيق النتاج الأدبي للكتاب والشعراء. وحول أهمية جمع هذه القصائد رغم تأرجحها بين الفصيح والنبطي، مقارنة بالقصائد الفخمة والزاهية التي وظّف فيها الخضر اللهجة المحلية الصرفة كوعاء جمالي وتعبيري مكتمل في تجربته الشعرية الشامخة، أكّد العميمي أن قصائد الخضر الفصيحة أو «النحوية» تشكل مفصلاً مهماً في تجربته الشعرية بغض النظر عن بنيتها المتأرجحة، في مقابل المعمار القوي والمتماسك لقصيدته النبطية، ولاعتبارات عدّة منها: التعرف على الملامح التاريخية التي عاصرها الخضر، وقياس اتجاهاته الفكرية ومؤشراته العاطفية ومدى تفاعله مع القضايا والظروف والأجواء السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي وثّقها وعبّر عنها في أنماط ومضامين تلك القصائد، وفي أغراضها المتعددة الموزعة بين الوجدانيات والغزل والمديح وفن المجاراة الشعرية وغيرها من الأغراض الذاتية والأخرى العامة والخارجية. ونوّه العميمي إلى أن القصيدة «النحوية» كانت تتمتع بنوع من الرواج والانتشار والقبول لدى الجيل المعاصر للخضر، واستمرت فاعلة ومؤثرة في المشهد الشعري المحلي وفي أوساط العامة حتى لفترات قريبة من زمننا المعاصر، مضيفاً أن القصيدة «النحوية» عانت من قلة الحفّاظ والمتداولين لها شفهيا مقارنة بالقصيدة النبطية، وكان التدوين والتوثيق عاملين مهمين في حفظ جانب كبير من هذا الإرث الفصيح لشعراء أجادوا وتميزوا بقصائدهم النبطية. جذور ومنابع وعن جذور ومنابع القصيدة النحوية في التراث الشعري الإماراتي، أوضح العميمي أن لها جذوراً تعود إلى ما يزيد على ثلاثمائة سنة، وأن بعض قصائد الشاعر المعروف محمد صالح المنتقي كانت فصيحة تماماً، وبعضها كان يشابه الشعر النحوي المتداخل مع الشعر النبطي، كما قدّم الشاعر يعقوب بن يوسف الحاتمي المتوفى قبل مائة عام تقريباً قصائد تنتمي لهذا التنصيف النحوي. وأورد العميمي مفاجأة تتعلق بإحدى قصائد الخضر الواردة في الكتاب والتي تم ترجمتها في بداية الخمسينيات إلى اللغة الإنجليزية، كأقدم ترجمة لنص أدبي من الإمارات، وذكر أن قصائد الخضر الفصيحة في الكتاب دلّت على احتفاظه بالأساليب والصياغات والملامح العامة لقصيدته الشعبية من خلال اللون الشعري المعتمد لديه، ومن خلال بعض المفردات التي يكرر استخدامها، والأشبه ببصمة خاصة تطبع مناخه وفنّه ومزاجه الشعري العالي. ولفت العميمي إلى أنه أضاء في الكتاب على بعض المفردات التي «فصّحت» رغم أنها «محليّة» في معانيها، وقدّم شروحات للقصائد التي تستحق الشرح والتوضيح، كما أنه توصّل وبقدر المستطاع في كتاب «خجل الحرير» إلى الفترات الزمنية والمناسبات والأمكنة التي أنتج فيها الخضر قصائده النحوية، فهناك قصائد كتبها أثناء إقامته في البحرين وأخرى في الدمّام بالمملكة العربية السعودية أثناء عمله هناك في الخمسينيات من القرن الماضي، بالإضافة إلى قصائد كتبها في عجمان، ودوّن بعضها أثناء إقامته في إمارة الشارقة، وله قصائد كتبها في أبوظبي أيضاً، ومن هنا كما أشار العميمي تأتي الأهمية التاريخية لهذه القصائد لاحتوائها على محطات مهمة في السيرة الذاتية والإبداعية للخضر الممتدة من الأربعينيات وحتى نهاية السبعينيات، ولأنها تستعيد حوادث مهمة، وتتضمن كذلك أسماء لأماكن وأعلام وشخصيات وقصائد مديح لوجهاء وشيوخ وحكام المناطق التي زارها أو أقام بها. عن راشد الخضر الشاعر راشد بن سالم بن عبدالرحمن بن جبران السويدي، الذي اشتهر باسم (راشد الخضر) 1905/‏ 1980، عرف أيضاً بخجله وانزوائه، إلاّ أنه اكتمل بشعره الغريب والوعر والصادم، اختار الخضر العزلة والانكفاء، حتى أثناء إقامته في مسقط رأسه بإمارة عجمان، مروراً بتوتره الحسي المجسّد في أسفاره الطارئة وترحاله القلق إلى الشارقة والبحرين والباطنة في عمان، ثم إلى السعودية وجزيرة سوقطرة والهند، واختياره لقصص حبّ ترنحت بين صدّ ونكران، وبين ريبة وتوجس، تماما مثل انتقالاته الدائخة في أرخبيلات الوهم. اقترن (الخضر) كما يصفه معاصروه، بصفات لصيقة وملازمة له، مثل التمنّع وخفوت الصوت، وزهد الهيئة والملبس، ما شكّل صدمة للناس وهم يقارنون بين القول الباذخ وبين المظهر المتواضع، أو بين شعر الجزالة والفخامة والزهو، وبين الشاعر المحروم من الكاريزما والتأنّق والاعتداد، حطّم الخضر بقصد أو بدونه تلك الهالة والأمثولة التي تجعل الشاعر صنو قصيدته وشبيه عباراته، وذهب إلى عزلة تخصّه، وغربة تعينه على الصبر والمكابدة، ومعانقة الألم حد التهشم والتشظّي في القصيدة، وفي متوالياتها من لذة وثمالة وخِدْر. اختبر الشاعر راشد الخضر اليتم مبكراً، ولازمه هذا الحس بالانفصال عن العالم، كما لو كان قدراً أو مصيراً، عرفه في العائلة، كما في العشق، وصار لزاماً عليه في بواكير حياته أن يربّي هذا الفقد في شعره، وأن يعيد تكراره وسبكه ورعايته، وأن يصطحب معه هذا (الحطام الذهبي) أينما حلّ وارتحل. أخذ الخضر أنينه الخافت والغائر، في تطواف منهك وهروب (مازوشي) من صورة حبيبته السريّة (علياء) المقبورة في ضباب عشق قديم، إنه الاعتصام بالمتاهة، هو الذي جعل بوصلة قلبه تشطر الحنين نصفين، نصف نحو عجمان البعيدة، والنصف الآخر نحو شقاء لا فكاك من أسره وجاذبيته الشائكة. إنه اللجوء الحذر لذاكرة تنبض في عروق اليد، وتتصبّب على القرطاس والطلسم ورقعة الروح المبتلة بماء السواحل، هذا الماء الشرس الذي لن يفارق شعره أبدا، يقول الخضر: متّ غرقة ما إبتلّ ينبي علّتي كلّن تعايابها على اليبس غرّقني إمحبّي وغرقة فوق اليبس ما أعيبها في بحرهم مركبي مشبّي والسواحل ما يجاربها أبعد من الشمس لو قربي تقصر إيدي لو أمدّ إبها فهذا الغريق (اليابس) يشتكي من وهم الغرق، واليابس في اللهجة المحلية الإماراتية، تعني أيضاً الشخص الهزيل، ويوصف بها كذلك العود الميت والعطشان، ولاحظ كم هو مخالف هذا الوصف لاسم ورسم شاعرنا (الخضر) أو العود الريّان بدفق الوجد والمسرّة والانتشاء، ولو كان وصفاً في المجاز أو اقترانا بلون البشرة، لصدقّنا ذلك، لكنه الخضر طريداً ومطارداً في الهشيم، يغرق وينغرس في ماء البعد والانفصال، لأنه ماء متحجّر وجامد ومتشابك، وهو البحر الذي جفّ من حرقة الجفاء ولظى الهجر، لقد صار المعشوق في هيئة الشمس التي لن يطالها العاشق في وهم الوصال هذا، وفي يأس الغرق الذي ما عاد غرقاً، بل عوما أبديا في التيه! ومن أشهر قصائد الخضر الفصيحة، قصيدته «سيد الشعرا» التي يقول فيها: أنا ابن سالم ما مرّ الهوى سحرا إلاّ ونادى «هلاً» يا راشد الخضرا إن قمت قام الهوى يهتزّ من طربٍ وإن جلست فإني سيّد «الشعرا» لكنني والهوى في ملك صاحبنا وتحت طاعته نستشعر الحذرا لا تحسبّن الهوى والمعضلات «سواً» لكل داءٍ «دوا» إلاّ فتىً هُجِرا شعراء الصحوة القومية مع ظهور طبقة الطواويش وتجار اللؤلؤ في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وتلتها طبقة تجار الذهب ومواد بناء السفن والبيوت والحصون، أصبح البحر هو شريان التغذية العكسية بين الثقافة المحلية والثقافة الوافدة عربياً وأجنبياً وخصوصاً مع هؤلاء التجار الذين تعرفوا إلى المطابع والكتب العربية في الهند، ثم مع تمركز الإنجليز في المنطقة بين الحربين العالميتين، وصولاً إلى الصحوة القومية العربية في نهاية الخمسينيات وحتى نهاية السبعينيات، فبرزت في تلك الفترة أسماء ذات قيمة اجتماعية وتأثير ثقافي جديد مثل إبراهيم المدفع وسالم العويس ومبارك بن سيف الناخي، وسلطان العويس مع مساهمات ملحوظة لشخصيات أخرى على امتداد الدولة اهتمت بالشعر والأدب وبالصحافة الوليدة آنذاك، حيث كانت الصحف والمجلات تأتي من مصر وبغداد ومكة المكرمة وبلاد الهند، مثل صحف الفتح، وأم القرى، والمنتدى، ومجلة المنار لرشيد رضا، إضافة إلى الكتب النوعية، وظهور الراديو الذي اخترق الحدود والمسافات، وساهمت هذه التحولات والانعطافات الثقافية الأولى قبل قيام الاتحاد، في اضمحلال دور «الكتاتيب»، وتراجع أساليب التعليم الفطرية والتقليدية، وانبعث التفكير الجدي في إحلال التعليم الحديث عوضاً عن آليات المعرفة القديمة، وكل هذه التغيرات ساهمت في ظهور مجموعة من شعراء النبط المعروفين الذين كتبوا قصائد بالفصحى مثل سالم العويس، وراشد الخضر، ويعقوب الحاتمي، ومبارك الناخي، وسلطان العويس تأثراً منهم بالمناخ العروبي والقومي الهائج في مصر وسوريا ولبنان، وغيرها من البلدان العربية، ورغم تفاوت هذه القصائد لغويا، وافتقارها للنضج الفني، إلا أنها بشّرت بولادة فن أدبي وشعري مستقل، هو قصيدة العمود كشكل بات يوازي حضور القصيدة النبطية خصوصاً بعد انتشار التعليم النظامي في الدولة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©