السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«فلاش».. الموت

«فلاش».. الموت
22 نوفمبر 2012
يقف المصور جابر العظمة عاجزاً أمام باب منزله في دمشق، يستمع منتشياً لأصوات الشباب في الساحات القريبة والأزقة تملأ سماء المدينة غناء وأملاً وثورة، ينتفض على نفسه، يحثّها على مغادرة مكانها الآمن خلف الجدران الاسمنتية، يتصورها جزءاً نشطاً من ذاك التحرك اليومي الهادر في الخارج، يتسارع الادرينالين في أوردته الدموية، ثم يجمد عند اللحظة الحاسمة، لحظة الضغط على مقبض الباب. "لم أقو حينها على الخروج، تمنيت المشاركة ولو بمظاهرة واحدة، كنت خائفاً..."، يقول العظمة بشفافية مطلقة شارحاً النواة الأولى لعمله التصويري الانفعالي "جراح"، والذي نظمه معرض غرين آرت غاليري في دبي. مع مرور الأيام والأشهر الأولى للثورة السورية حينما كانت لا تزال فعلاً “سلمية سلمية”، تحوّل هذا الكبت الى كتل متراكمة متلاطمة من الغضب والدمع والحزن والفرح والخوف، تتغذى يومياً على ما يبتكره الأصدقاء في مشاركاتهم الميدانية وبثها مباشرة عبر هواتفهم النقالة الى الصديق القابع في منزله. لكن كيف يمكن احتمال كل ذلك الجنون المتنقل من حي الى آخر؟ تلك الأهازيج والأناشيد الارتجالية، تلك الصدور العارية في الساحات؟ كان لا بد للعظمة من التعبير والتنفيس بالطريقة الوحيدة التي يجيدها، عندها انطلق مشروع “جراح”. 16 جرحا سوريا 16 صورة بأحجام مختلفة تسحب جنون الموت في سوريا من مشهده الوثائقي، الإعلامي والفضائي، من يومياته التي تحولت الى بورصة مفتوحة على أعداد الجثث، من التعقيدات السياسية والاتهامات المتبادلة والعواء الدولي، لتعطيه بعده الطبيعي، وحسه الإنساني، بالإضافة الى صور أخرى تجسّد شخصيات وتحركات اشتهرت في بدايات الثورة السورية وكان لها بالغ التأثير في نفس المصور. معرض “جراح” هو في الغالب معرض انفعالي، شخصي، سياسي قائم على درجة غليان انفعالات المصور اليومية أو هدوئها، غضبها أو فرحها، تشاؤمها أو تفاؤلها بالحاضر والمستقبل، تجاه التطور الدراماتيكي للأحداث الدائرة داخل بلده ومدينته. استغرق تنفيذ تلك الأعمال 18 شهراً بأفكار وتصورات ارتجالية يسيّرها الحدث اليومي نفسه، والرغبة القصوى في “تقديم شيء للثورة وشبانها” من دون خطة او جدول زمني. أما التعبير عنها فجاء مسرحياً بامتياز، ركّز فيه العظمة على تصوير خيالات حالكة لحركة الجسد بدرجات لونية متفاوتة، تُظهر وتلاحق طبيعة تلك الحركة بتسارعها، ثباتها، أو خفوتها، كل ذلك على خلفية حمراء داكنة. لم يكتف العظمة بلعب دور المخرج في إدارة تنفيذ العرض والتحكّم بلغة التعبير تقنياً ومشهدياً، بل قلّص تلك المسافة الى درجة الصفر من خلال وقوفه أيضاً كعارض أمام الكاميرا في جميع الصور التي يظهر فيها جسم بشري ما عدا ثلاثة منها. شخصانية التعبير بالنسبة للعظمة أساسية في “جراح”، فهو لا يقّدم مجرد تصور تعبيري عن الأحداث في سوريا يمثل درجة التصاقه بالأحداث من منطلق المواطنية، وإنما ينفث ألمه الشخصي، يحرّر خوفه وخوف جيله المكبوت منذ الولادة، ينتشل نفسه من “عسكرة الفكر والتربية والقائد الخالد” على حدّ قوله، وبالطريقة الوحيدة التي تطاوعه فيها نفسه بعيداً عن فانتازيا البطولة الميدانية، في ملعب التعبير البصري. خَطابة وفكاهة بالرغم من اختيار الأحمر كلون نمطي للموت وكخلفية موحدة في جميع صور المعرض، إلا أن ذلك مكّن العظمة من تسيير وتركيز انتباه الناظر على لغة الجسد نفسها، على مسرحة انفعالاتها، وتقطيع حركتها التصاعدية مثل صورة “فرحة الساحة” و”القاشوش” و”الملحمة”، وبشكل يخدم التعبير والإحساس الذي يودّ المصور اعلانه. فالوجوه والأجساد في صور العظمة متشابهة، تفتقد لأي تفصيل يميزها، ليقول بأن الجميع أمام عبثية الموت واحد، أمام جنون البطش واحد. تلك الوحدة في التعبير الفني في أعمال العظمة، فصلت المعرض عن أصل تكوينه، عن جذوره ومسبباته الأولى، عن “محَليته”، ليعطيه العظمة بعداً إنسانياً يتخطى الخارطة السورية ولا يقف عند حدود معينة، على اعتبار أن “حرية الفرد وحقه بالسلم والأمان” من مسلمات الحياة، لتلمس بذلك أعماله كل فرد مسّه ظلما أو عاش خائفاً من أن تصيبه عشوائية القتل. الإضاءة في أعمال العظمة رغم بساطة فكرتها، أعطت الكلمة للتعبير والاحتفاء بحركة الجسد التي أرادها المصور. فتوجيه “الفلاش”- الذي أضاف عليه العظمة الفلتر الأحمر- مباشرة على مساحة بيضاء خلف الشخص الواقف أمام الكاميرا وفي غرفة مظلمة تماماً، يرسم كل جسم متحرك كظل داكن. أما حركة الظلال، فتم تنفيذها من خلال ما يسمى بـ”التعريض الضوئي الطويل” أو الـLong Exposure. اذ يُبقي المصور مصراع الكاميرا (Shutter) مفتوحاً طوال الفترة التي يحتاجها لتنفيذ صورة واحدة. وبما أن الغرفة مظلمة، فإن الكاميرا لن تلتقط سوى مجموع الحركات التي أصابها ضوء الفلاش في لحظة معينة يختارها المصور. وبعد ذلك، تقوم الكاميرا بشكل آلي بجمع تلك اللقطات وإنتاج صورة واحدة منهم. 9 أعمال من المعرض نُفذت بتلك الطريقة الفوتوغرافية الصرف، أي من دون الاستعانة بأي عملية إعادة انتاج، فيما نُفذ الجزء الآخر من خلال جمع عدد من اللقطات المصورة التي يتراوح عددها بين 2 و 10 لقطات عبر احدى برامج التصميم المتخصصة. انعكاس الاختيار الموفق لنوع الورق المستخدم في الطباعة وهو Cotton Rag Fine Art Archival Paper، ساهم في الإمساك بالظلال الموجودة في الصور بكافة درجات تكثيفها، من خلال الامتصاص المدروس للصباغ الأسود مع الحفاظ على درجة عالية من التضاد. وما يساعد على ذلك هو السماكة الكافية التي يتمتع بها هذا الورق القطني، ونسبة الخيوط والألياف المصنوع منها. تلك الخيوط، أضافت في اللمسة الأخيرة لأعمال العظمة ملمساً خشناً جافاً منع من حدوث أي انعكاس او ارتداد للأشكال والألوان. كل تلك الاختيارات، لم يضعفها سوى الإطار الزجاجي للصور والذي أدى بفعل الانعكاس الحاصل الى إخفاء الكثير من تفاصيل وتموجات الحركة ـ التي تعد أساسية في “جراح” ـ خصوصاً في الصور التي يكثر فيها التظليل الداكن. فراح زائر المعرض يغالب نظره ويحاول الالتفاف على الصورة من مختلف الزوايا صعوداً ونزولاً، يميناً ويساراً، في محاولة لالتقاط تفاصيلها بعد التخلص من صورته المعكوسة على الجرح السوري. خيارات العظمة في إيجاد حل لتلك المشكلة قبل انطلاق المعرض محدودة. فنوع الزجاج الذي كان يفضل استخدامه والمعروف باسم “زجاج المتاحف” كلفته مرتفعة جداً. أما الزجاج “الجاف” الذي تنعدم فيه درجة الانعكاس يؤثر بشكل كبير على تضاد اللون والضوء في الصور فيزيد الأمور سوءاً. لكن ماذا عن عدم استخدام زجاج على الإطلاق؟ العظمة لم يرغب بالمخاطرة، فحساسية الورق تفرض حمايته من أي لمسة يمكن أن تؤثر على النتيجة النهائية لطباعة الصورة. نمطية الانفعالية التي رسمت ملامح أعمال العظمة في المعرض، والتي اتخذت من الأحداث المتصاعدة في سوريا مقياساً ودافعاً لها، سمح بتباين جودة التعبير بين صورة وأخرى من خلال تسلل بعض النمطية والخطابة الى ثلاث صور، لتكون خارج سياق جمالية التعبير وحرفته التي تتسم بها باقي الأعمال. فصورة “النهوض مرة أخرى” على سبيل المثال جاءت أشبه بمصارع غاضب شبه مطروح على الأرض. وبالرغم من حس الفكاهة المر والمباشر في صورة رفع الأصبع الأوسط للسلاح الموجّه ضده، الا ان غرين آرت غاليري استثنى عرضها من ضمن المجموعة، وهي صورة يتم تداولها بكثرة على موقع الفايسبوك من دون معرفة أو ذكر مصدرها. أما صورة تحليق حمامة السلام، فجاءت دخيلة على المعرض في الشكل والمعنى. تعبير بصري كتابي في باقي الأعمال، نجح العظمة في منح الزائر قصة، وصوت، ودمعة. مزَج جودة التعبير البصري بالكتابي من خلال ارفاق عدد من الصور بنصوص جانبية مستوحاة من ميدان المظاهرات والتحركات الشعبية كتبها صديقه السوري عروة المقداد. “(…) عينَي اسفلت الطريق الحار، وجهي شفرة صدئة، تشطر الأمل فتموء الرغبة. يدي منجل الأرواح، وأسناني أنياب لتمزيق الذاكرة. من ثقب صغير خرجت دون ملامح أو وجه. دون ذاكرة أو أعضاء. قيل لي انت جلاد فكنت!”. هي “الملحمة”، الصورة التي اعتبرها العظمة الأكثر تعقيداً من ناحية تركيب الصور، والتي أدى العمل فيها راقصان بالإضافة الى المصور، بتعبير جسدي لافت. هي ملحمة الرعب والتعذيب، ملحمة القتل بعيون مفتوحة ومساحة مختصرة، ملحمة الأجساد المسحوبة الى جوف الظلام، ملحمة الأيادي المرفوعة تناجي الكواسر في لحظة الانقضاض. في قصة أخرى، تبرع الطبيب الشاب الهادئ بالنزول الى الشوارع التي تغلي بنار القصف على الحناجر، ليس حباً بالمشاركة، ولا إيماناً بثورة الشعب مقابل قضية النظام، وإنما إسراعاً في اسعاف أي من الجرحى على الأرض. في لحظة واحدة، اخترقت تلك الرصاصة الباردة رأسه، فسقطت الطفلة الجريحة من يده، وغاب قبل ان يرى جلاده. ليلة كاملة، انهار فيها العظمة بكاءً في منزله في دمشق عقب الحادثة، لينفذ في اليوم التالي صورة “قسم ابقراط”. “جنة جنة جنة” هي الأحب الى قلب العظمة. وهي عبارة عن اربع لقطات متفرقة لشخص واحد تم جمعها وتكرارها في صورة واحدة، لتبدو من خلال الجرافيك وكأنها جموع متكاتفة متراصة تمثل الحالة التي أوجدتها تلك الأغنية المشهورة للكاتب كريم العراقي التي غناها رضا الخياط ولحنها عباد عبد الكريم، في الساحات السورية خلال المواجهات المباشرة بين المتظاهرين والجيش. عن “جنة جنة جنة” كتب عروة في نصه: “اخترقت جموع النساء المتشحات بالسواد، أمسكت يده وضمتها بكل أصابعها، حينها استعاد ذلك الدفء القديم. وفي تلك اللحظة التي كانت الدموع تنهمر من عينيها وتسقط على يديه وكأنها إكسير للحياة، كان يبتسم دون ان يراه أحد، كان يبتسم لها فقط، وهو يردد أغنيته المفضلة: جنة جنة جنة، جنة يا وطنا” في خريطة توزيع لوحات الصور على جدران الغاليري، اختتم المصور معرضه بـ “فرحة الساحة”، وهي تمثل رؤية العظمة او توقعاته بخاتمة الأحداث الحاصلة. ربما هي فرحة ساذجة أمام هول الموت والدمار، فرح لا يشبعه سقوط نظام ولا بقاءه. هنا العرض مفتوح، والستار معطل، والخاتمة مؤجلة. فلاش. جابر العظمة و«مجموعة صغيرة من السوريين» بدأ جابر العظمة المولود في دمشق عام 1973 عمله كمصور محترف عام 1998، بعد سنتين من تخرجه من جامعة دمشق التي درس فيها الفنون الجميلة. شارك العظمة في 7 معارض فردية ومشتركة من خلال مجموعتين من أعماله هما “مجاز” و”آثار”. حالياً، يستمر المصور في مشروعه الذي انطلق أيضاً مع بداية الثورة السورية بعنوان “مجموعة صغيرة من السوريين”. العمل عبارة عن مجموعة بورتريهات فردية سياسية لممثلين، ومهنيين، وفنانين تشكيليين، ومصممين، وشعراء، وصحفيين، وأساتذة، وطلبة، وأمهات. صحيفة “البعث” السورية هي القاسم المشترك بين جميع تلك الصور، يحملها كل فرد ويقدم من خلالها رسالته الخاصة المباشرة الى النظام، والتي غالباً ما تكون مستوحاة من محيطه المهني أو الاجتماعي. من الأسماء المشاركة في “مجموعة صغيرة من السوريين”: فارس الحلو، يارا صبري، سميح شقير، رشا عمران، رامي العلي، فارس البحرة وغيرهم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©