الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حيثيات التكوين

حيثيات التكوين
11 ديسمبر 2014 02:02
يشكل القرن العشرين أبرز مثال على انتصار الحقيقة على الجهل والسلطة والأخطاء الإيبستمولوجية. هذا الانتصار وهذه الحقيقة تأخذ اليوم شكل نظرية تلقى قبولا من طرف أغلب العلماء -على الأقل فيما يعرف بالنموذج المعياري- وهي تسمى بالانفجار العظيم The Big Bang الفاهم محمد يخبرنا علم الفلك المعاصر أن بنية الكون شاسعة بدرجة قد لا يستطيع عقلنا استيعابها أو التفكير في لا نهائيتها، والمهم في كل هذا هو أن كل هذا الكون قد بدأ انطلاقا من حدث خارق، انفجار مهول وقع داخل مفردة La singularité متناهية في الصغر بلغت درجة حرارة عالية جدا، فأدت إلى هذا الانفجار الذي يطلق عليه الانفجار العظيم. فما هي هذه النظرية وكيف تفسر لنا أصل الكون ثم ما هي حدود هذا التفسير الذي تقدمه لمشكلة الأصل؟ النموذج المعياري نظرية الانفجار العظيم: إنها واحدة من أشهر النظريات التي تلقى رواجا وشهرة من طرف العلماء، وهي عبارة عن نظرية إجرائية تفسر لنا لماذا الكون على هذه الشاكلة انطلاقا من افتراض أصل معين انبثقت منه المادة من حالة شبيهة بالعدم، وذلك حوالي قبل 7،13 بليون سنة تقريبا. إذا كان الأمر على هذا النحو فهذا معناه أن الكون ليس قديما وأزليا وإنما هو محدث في الزمان. هذا هو ما تقوله نظرية البيج بانج. للكون أصل، بداية وهو يتطور باستمرار بشكل ديناميكي. كان القس والعالم البلجيكي جورج لوميتر George Le Maitre 1894 ـ 1966 هو من الأوائل الذين طرحوا هذه الفكرة. لقد درس معادلات أينشتاين فأثبت على العكس منه أن الكون ليس ثابتا بل هو يتحرك باستمرار، مستنتجا من ذلك أنه إذا كان الكون يتسع بشكل متزايد فهذا معناه أنه في الماضي كان مفردة واحدة، ذرة بدائية. لأسباب مازالت مجهولة إلى يومنا هذا انفجرت هذه المفردة وشكلت سحابة أو حساء بدائيا أطلق عليه اسم «البيضة الكونية» أدت إلى انطلاق جملة من التفاعلات الفيزيائية والكيميائية الطويلة والجد معقدة إلى ظهور الكون كما نعرفه حاليا. تقول هذه النظرية باختصار شديد إن الكون في بداية الأمر كان عبارة عن نقطة شديدة الكثافة والحرارة، التي تفوق بكثير حرارة الشمس، أي أن الكون بدأ من مفردة واحدة، خلال زمن قياسي متناهي في الصغر. خلال هذا الزمن الصغير جدا والذي يسمى أيضا زمن ماكس بلانك حدث انفجار هائل. إنه فترة زمنية متناهية في الصغر لكن مع ذلك لا يمكن القول بأنها اللحظة صفر لبداية الزمن وتشكل الكون، بل كل ما يمكن قوله إن جدار ماكس بلانك هو أصغر لحظة زمنية يمكن أن يتصورها العلم لحد الآن وأن تصل إليها الحسابات الرياضية. إن العلماء بإمكانهم وصف ما حدث بعد هذه اللحظة، لكن ما حدث قبلها فهو أمر يظل لحد الآن خارج نطاق العلم، لذلك سميت هذه اللحظة بجدار ماكس بلانك. بعد ظهور النجوم وإضاءة الكون وهي اللحظة التي ربما لا يكفي أن يكون المرء عالما حتى يصفها بل ينبغي أن يكون أيضا شاعرا، تكونت المجرات التي يعتقد العلماء أنها في البداية كانت قزمة ولكنها سرعان ما بدأت تندمج مع بعضها البعض لكي تشكل مجرات أكبر وأضخم. مجرة درب اللبانة يعتقد أنها خليط من المجرات الصغيرة المندمجة مع بعضها البعض والتي بلغت حوالي مليون مجرة قزمة. أدلة تجريبيةهناك أدلة كثيرة تقدم على صحة هذه النظرية لعل أهمها الدليلان الآتيان: الدليل الأول يتعلق بتمدد الكون وتوسعه وكان هذا هو الاكتشاف الذي فاجأ به إدوين هابل Edwin hubble 1889 ـ 1953 المجتمع العلمي. إن الرصد الفلكي الذي قام به إدوين هابل قد قطع بما لا يدع مجالا للشك أن الكون في حالة تمدد مستمر. بل أكثر من ذلك أوضحت قياسات هابل أن المجرات لا تبتعد عنا فحسب بل هي أكثر من ذلك تتسارع في الابتعاد بمعنى أنها كلما ابتعدت عنا زادت سرعتها.(1) إذن وكنتيجة منطقية لهذا التمدد هو أن الكون بكل ما يحتويه قد بدأ من نقطة تجمعية واحدة. الدليل الثاني على صحة هذه النظرية يستند على التنبؤ الذي قدمه أيضا العالم جورج جاموف. لقد وافق لوميتر في تصور بداية للكون وتابع تأسيس هذه النظرية مفترضا أنه إذا كان الكون قد حدث نتيجة انفجار هائل فيفترض أن يكون الإشعاع الناتج عن هذا الانفجار ما زال يعم الكون برمته، وهذا بالفعل هو ما اكتشفه آرنو بنزياس وزميله روبرت ويلسون سنة 1964 من إثبات لنظرية جاموف حول الإشعاع الكوني، حيث لاحظا بالصدفة وجود إشعاع له نفس الخصائص في الكون. الأبعاد الدينيةيبدو أن هذه النظرية في مجملها تتماشى -رغم بعض الصعوبات- مع الفكر الديني ومع ما ذكره القرآن فالآية 30 من صورة الأنبياء تقول: «أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون». هكذا فالكون (السماء والأرض) كانتا شيئا واحدا قبل عملية الخلق التي يعبر عنها قرآنيا بالفتق والرتق، فالرتق يحيل على الوحدة والاتصال أي ما هو ملتحم بذاته (البيضة الكونية بتعبير لوميتر). أما الفتق فهو الفصل والتباعد أي الانفجار العظيم بتعبير الفيزيائيين. ثم إن النظرية تقول بصريح العبارة أن الكون حادث بلغة القدماء، أي أن له بداية زمنية وهذا شيء يتطابق مع وجهة نظر الدين التي تقول بأن الكون مخلوق وبالتالي هناك من أوجده وأخرجه من العدم إلى الوجود. ليس من الغريب إذن أن يكون رجل دين هو جورج لوميتر وراء هذه النظرية الفلكية الهائلة. لكن رغم هذا التقارب إلا أن مسألة الأصل تظل بالنسبة للكوسمولوجيا مسألة فيزيائية كيميائية، بينما الأمر يختلف بالنسبة للدين الذي يرى بأن هذا الأصل قد لا يفسر فقط بلغة تجريبية اختبارية، إنه مسألة إلهية قدسية. الأبعاد الميتافيزيقيةيبدو إذن أن نظرية الانفجار العظيم وإن كانت تقدم لنا تصورا علميا عن كيفية تشكل الكون بما فيه من مادة وطاقة، إلا أنها عاجزة مع ذلك عن وصف وتحديد نهائي لأصل الكون، لأن لحظة البدء الأولى تنفلت منها بحيث تنهار جميع المعادلات الفيزيائية. لقد قدمت هذه النظرية دوما على أنها النظرية التي تصف لنا أصل الكون وبدايته، وهذا شيء مجانب للصواب لأن ما تقدمه لنا هذه النظرية هو افتراض بداية وأصل معين وهو ما يصطلح عليه بزمن ماكس بلانك 10 أس ناقص 43 ثانية، إلا أن الحسابات العلمية لا يمكنها الذهاب أبعد من هذا الزمان للوصول إلى لحظة الأصل الفعلية. إن السؤال حول ما قبل الانفجار العظيم هو السؤال حول الحقيقة النهائية للكون، فالعلم يستطيع تدريجيا بفضل الجهود التي يبذلها العلماء في مختلف التخصصات من وصف ما حدث داخل تاريخ الكون منذ بداية الانفجار وإلى غاية تكون المادة وظهور النجوم والكواكب ثم نشوء الحياة فوق الأرض. ولكن هل هذه العملية برمتها يمكن وصفها بالاستعانة فقط بالعمليات الميكانيكية الفيزيائية والتفاعلات الكيميائية، أم أن الأمر يتعدى ذلك بكثير. بطريقة أخرى أكثر وضوحا هل الكون هو الذي خلق نفسه بنفسه وبرز من العدم، أم أنه من الضروري افتراض قوة كونية هي الشرارة التي أدت إلى كل هذه العمليات الكونية الهائلة؟. يقول ستيفان هوكينج في هذا السياق: «إذا كنا كما هو الحال نعلم فقط ما حدث منذ الانفجار الكبير فإننا لا نستطيع تحديد ما حدث قبل ذلك، وعلى قدر اهتمامنا فإن الأحداث التي وقعت قبل الانفجار الكبير ليس لها تبعات، ولا يجب أن تشكل أي جزء من النموذج العلمي للكون. وعليه فإنه يجب علينا أن نستبعدها من نموذجنا، وأن نقرر أن الانفجار الكبير هو بداية الزمن، ويعني ذلك أن الأسئلة التي تدور حول من الذي هيأ الظروف لهذا الانفجار الكبير ليست بالأسئلة التي يتناولها العلم» (2). يبدو هنا أن ستيفان هوكينج يريد أن يستبعد السؤال الديني حول وجود الخالق وأن يعتبر أن هذا السؤال يوجد خارج العلم. ولكن مع ذلك هناك مجازفة في القول أن العلم ينتهي هنا وأن الدين يبدأ من هذه النقطة التي انتهى إليها العلم. وهي نفس الفكرة التي ذكرها البابا جان بول الثاني لستيفان هوكينج أثناء لقائهما: أنتم الفيزيائيون لكم ما بعد الانفجار العظيم، أما الكنيسة ورجال الدين فلهم ما قبل هذا الانفجار. هكذا وكأن المسألة حلت بتوزيع مناطق النفوذ والسلطة. اهتموا أنتم بميدانكم وسنهتم نحن بميداننا. حدود العلم إن الحديث عن حدود للعلم وعن عمق للكون قد لا تطاله عين الراصد لا يعني فشلا للعلم أو انتقاصا من قيمته، بل يعني أن مهمة العلم قد باتت أكثر صعوبة إذ ليس من المأمول أن نقدم وصفا شاملا للظواهر كما كانت تعتقد الفيزياء الكلاسيكية. إن مهمة العلم باتت لا نهائية بصدد الحقيقة. لقد قلبت ثورة فيزياء الكم أهم المفاهيم المعتادة لدينا، وعلى رأسها مفهوم الواقع والحقيقة، فالواقع لم يعد هو ذلك الشيء الموجود هناك والقابل للرصد بشكل حيادي وموضوعي، كما أن الحقيقة بدورها لم تعد هي تلك الرؤية الصادقة التي تطابق ما نراه ونرصده عن الواقع. إن تداخل الراصد والمرصود سيؤثر على المفهوم العادي للواقع والحقيقة، فالواقع أصبح مع فيزياء الكم احتماليا غير مستقر مرن، والحقيقة بدورها أضحت مركبة ومعقدة وقابلة لتشكيلات متعددة تختلف حسب اختلاف وجهات النظر وموقع الرصد. الهوامش 1 ـ جورج جاموف: بداية بلا نهاية ترجمة محمد الزاهر ـ الهيئة المصرية للكتاب 1990 انظر الفصل الحادي عشر المعنون بأيام الخلق وبالخصوص الصفحات من 318 إلى 322 2 ـ ستيفان هوكينج وليونريد ملوندينوف: تاريخ أكثر إيجازا للزمان ترجمة أحمد عبد الله السماحي وفتح الله الشيخ دار العين للنشر سنة 2000 ص 66
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©