السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ما هو أبعد من مجرد أسرة

ما هو أبعد من مجرد أسرة
29 يناير 2015 23:56
كانت سلاسة انتقال السلطة في السعودية من ملك أصبح في ذمة الله إلى ملك أعانه الله، مثار استغراب الكثيرين، وخاصة لدى معظم «المتخصصين» الغربيين في شؤون الشرق الأوسط عامة، والشأن السعودي خاصة، وذلك حتى قبل مواراة الملك عبدالله ،رحمه الله، الثرى، فمات الملك وعاش الملك وكان التواتر والاستمرارية واستقرار الأوضاع هو عنوان كل ما حدث صباح يوم الجمعة، الثالث والعشرين من شهر يناير، من عام 2015. انتقال سلس للجيل الثاني وما أثار الاستغراب أكثر لدى الكثيرين هو تلك النقلة النوعية السلسة في نظام الحكم السعودي، ونقصد بها بداية عهد الجيل الثاني من الحكام السعوديين، أو جيل الأحفاد كما يحلو للبعض أن يسميه. فقد كان الكثيرون يعتقدون أن بحوراً من الصراعات والخلافات، كي لا نتجاوز مصطلح الصراعات والخلافات، ستقف أمام الأسرة السعودية الحاكمة قبل أن يهدأ الغبار وتتضح الرؤية ويتبين من هو في الصورة ومن هو خارجها، وخاصة أن صف جيل الأبناء يكاد ينتهي، فإذا بقرارات الملك الجديد، الملك سلمان بن عبدالعزيز، المبكرة جداً تحسم كل ذلك، ويبدأ العبور إلى مرحلة الجيل الجديد بيسر وهدوء أذهل حتى المواطن السعودي الذي كان يعلم بخبرته المتوارثة أن الأمور ستسير بسلاسة ويسر كالعادة، ولكن لم يخطر بباله أن تُحل قضية انتقال السلطة بين الأجيال بهذه السلاسة وهذه السرعة. الكفاءة أولاً وكانت المفاجأة الأكبر هي أن أول مرشح مستقبلي محتمل لتولي الحكم من جيل الأحفاد، أو ولي ولي العهد، هو الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز، أي أنه ليس من أبناء الملك الراحل، ولا من أبناء الملك الجديد، بل كان من الممكن أن يكون خارج الصورة، لو لم تشفع له كفاءته وجدارته في إدارة الشأن الأمني الداخلي، وهذا الأمر له دلالاته الكثيرة، من حيث إن القضية التي وضعها الملك الجديد نصب عينيه هي قضية استمرار النظام واستقراره، بعيداً عن صلات القرابة المباشرة، التي وإن كانت تلعب دوراً في هذا المجال، إلا أنها لا تصبح عاملاً حاسماً حين يتعلق الأمر باستمـرارية النظام واستقراره. وهْم «المعضلة»! والحقيقة هي أن إثارة التكهنات، وطرح الأسئلة الغامضة حول «معضلة» توارث الحكم في السعودية، وما قد تؤدي إليه من خلافات وربما صراعات وحتى ما هو أبعد من ذلك، ليست مسألة جديدة، فقد كانت هذه «المعضلة» تُثار عند وفاة كل ملك سعودي، بدءاً من وفاة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، رحمه الله، عام 1953، وحتى وفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، عام 2015، مروراً بوفاة الملك فيصل عام 1975، والملك خالد عام 1982، والملك فهد عام 2005، رحم الله الجميع. ويبدو أن السعودية بشكل عام، ومسألة توارث السلطة الأولى في الأسرة السعودية الحاكمة، تُشكل لغزاً أو حتى طلسماً عصياً على الحل لدى الكثيرين، أو يُراد له أن يكون كذلك. فالسعودية، سياسة ومجتمعاً، بالنسبة للكثير من الباحثين والمراقبين الغربيين هي متاهة ألغاز وطلاسم، الكل يحاول أن يدلي بدلوه في بئرها العميقة للحصول على بعض مائها، ولكن المشكلة أن دلاء الكثير منهم، إن لم يكن أكثرهم، قصيرة الرشا فلا تستطيع الوصول إلى الماء في قعر البئر، لا عيباً في البئر، ولكن عيباً في الرشا والدلو، رغم أن المسألة أبسط من ذلك بكثير، فلا السعودية باللغز الذي يحتاج إلى حل، ولا هي بالطلسم الذي يحتاج إلى تعويذة من نوع ما لفك أسراره وسبر أغواره. مؤسسة ذات جذور فالأسرة السعودية المالكة، وعلى رغم أنها أسرة عربية عريقة في جذورها وانتمائها الاجتماعي، إلا أنها ليست مجرد أسرة بقدر ما أنها مؤسسة سياسية ذات جذور تضرب في أعماق تاريخ الجزيرة العربية والمنطقة العربية بشكل عام. ومن هذا الفهم للطبيعة التاريخية والسياسية للأسرة السعودية المالكة، يمكن فهم ما جرى وما قد يجري، بل وحتى ما يجري وراء الكواليس في حال الأزمات، أو ما يُمكن أن يؤدي إلى أزمات. وبصفتها تلك، أي بكونها مؤسسة سياسية ذات جذور تاريخية عميقة، نستطيع أن نرسم سيناريو لما يمكن أن يحدث مستقبلاً بالنسبة لقضية توارث «العرش» السعودي (على رغم أن السعوديين لا يحبذون استخدام مصطلح العرش، ولكننا نستخدمه كتعبير مجسد لقضية توارث السلطة في السعودية)، أكثر دقة مما قد يرسمه «المتخصصون» في الشأن السعودي من غير المدركين لمثل هذا البُعد، أو غير القادرين على الانغماس في نسيجه والنظر من خلال هذا النسيج وليس من خارجه. دروس الخبرة التاريخية أكثر من ثلاثمائة عام من الخبرة والدروس التاريخية والسياسية تقف وراء هذه الأسرة، بكل ما تحمله هذه القرون الثلاثة من انتصارات وانتكاسات ونجاحات وإخفاقات ودروس لا يتعلمها المرء في أعتى مدارس العلوم السياسية في العالم. فمثلاً منذ الولادة وحتى الممات، يسير الحاكم السعودي وفي ذهنه سعودية القرن الثامن عشر، أو الدولة السعودية الأولى، بكل أبعادها التاريخية والدينية والإيديولوجية، التي نمت وازدهرت واتسعت حتى كادت تصطدم بنفوذ دول إقليمية وعالمية محيطة، بل وكانت تهدد وجود الدولة العلية العثمانية برمتها، فأرسلت لها هذه الدولة جيوش محمد علي باشا وابنه إبراهيم، التي قضت عليها في النهاية. ويسير الحاكم السعودي وفي ذهنه الأحداث الدراماتيكية لسعودية القرن التاسع عشر، أو الدولة السعودية الثانية، التي سقطت نتيجة صراع أمراء البيت المالك على السلطة، فضاع الملك وضاعت السلطة، ولم يكسب أحد في النهاية، وكانت الخسارة على الجميع. ويسير الحاكم السعودي وفي ذهنه كل تلك الأحداث التي رافقت مرحلة تأسيس سعودية القرن العشرين، أو الدولة السعودية الثالثة، وكل تلك الدروس التاريخية والسياسية التي استوعبها الملك المؤسس، فاستطاع من خلال ذلك أن يؤسس الدولة السعودية الحديثة. ومن هذه الدروس عدم محاولة استفزاز القوى الخارجية أو الاصطدام معها، حين لا تكون لديك القدرة على ذلك، فبالسياسة ومن خلال دهاليزها المتعددة، يمكن تحقيق أمور كثيرة قد لا يمكن تحصيلها بالحرب، أو إعلان العداء المباشر، وهو درس تاريخي مستفاد من تجربة سقوط سعودية القرن الثامن عشر، قبل أن يكون درساً أكاديمياً في علم السياسة. درس التماسك ومن تلك الدروس ضرورة تماسك النخبة الحاكمة، أو الأسرة الحاكمة، وهو درس مستفاد من سقوط سعودية القرن التاسع عشر، قبل أن يكون تنظيراً لمفكر سياسي أو مراقب تاريخي، إذ إن الخلاف ومن ثم الصراع وشرخ هذا التماسك هو المؤشر الرئيس على بداية الانحدار ومن ثم الإخفاق والانهيار، ولذلك كان الملك المؤسس حريصاً كل الحرص على تذكير أبنائه وخلفائه من بعده بضرورة التكاتف والتعاضد ونبذ الخلافات مهما كان الأمر، وهي وصية كان لا يمل من إعادتها وتكرارها حتى حين كان على فراش الموت، وهو درس تاريخي استوعبه المؤسس من مصير الدولة السعودية الثانية. ويسير الحاكم السعودي وفي ذهنه على الدوام ألا يقطع أواصره مع المجتمع الذي جاء منه وينتمي إليه، فهو منه في البداية، وإليه يعود في النهاية، وهنا يكمن سر من أسرار وصفة النجاح التي مكنت الملك المؤسس من توحيد معظم أرجاء جزيرة العرب في كيان سياسي حديث واحد. مشكلة المراقبين للشأن السعودي، وحتى المتخصصين منهم إلا ما ندر، هي أنهم ينظرون إلى السعودية وفق ذات المنظار الذي ينظرون من خلاله إلى معظم جمهوريات العالم الثالث، أي تلك الجمهوريات التي تحكم دولاً حديثة العهد بالاستقلال، حيث تتماهى الدولة بالزعيم تماهياً شبه تام، وبحيث تنطبق عليهم مقولة لويس الرابع عشر: «أنا الدولة، والدولة أنا»، وبحيث إنه إذا مات الزعيم أو سقط بهذا الشكل أو ذاك، فإن صراع ناب ومخلب يعقبه حتى ينجلي الأمر عن زعيم جديد ونظام جديد، بل وربما حتى دولة جديدة، وهذا أمر مدرك ومفهوم نتيجة غياب المؤسسة، والفردانية المطلقة للسلطة. أدواء الجمهوريات وفي جمهوريات عالمنا العربي خير مثال على ذلك، كي لا نتطرق لجمهوريات أفريقيا بعيد الاستقلال، أو جمهوريات أميركا اللاتينية وغيرها. ففي مصر مثلاً، حين توفي الزعيم جمال عبدالناصر، كان الصراع على السلطة هو عنوان الأشهر اللاحقة، حتى انجلى كل ذلك عن مقدم زعيم جديد ونظام جديد حاول بكل قدراته أن يمحو كل أثر لنظام الزعيم السابق. وعندما اغتيل الزعيم الجديد، حاول خليفته أن يمحو كل أثر له، على رغم أنه كان صنيعة ذات الزعيم السابق، وهكذا كانت الأمور. وفي العراق يتبدى المثل الأبرز، فكل زعيم عراقي منذ عبدالكريم قاسم وحتى صدام حسين، مروراً بعبدالسلام عارف، وعبدالرحمن عارف، وأحمد حسن البكر، يشكل نظاماً مختلفاً، ولم يصبح هذا الزعيم أو ذاك سيداً للموقف إلا بعد صراع دموي انتصر فيه الأكثر دموية. والسعودية، بل ومن الممكن القول كل الممالك العربية، لا تندرج تحت ذلك، وهنا يكمن خطأ المراقبين للشأن العربي بصفة عامة، إذ إنهم لا يفرقون بين هذه الأنظمة في معظم الأحوال، فالكل في تلك العين عرب. إطار مؤسسي صحيح أن الفردية ومركزية السلطة أمر تشترك فيه كل أنظمة العرب، الملكي منها والجمهوري، ولكن فردية الملك واستئثاره بكامل السلطة في الأنظمة الملكية إنما تجري في إطار مؤسسي مكتمل الأركان، سواء كان ذلك الإطار المؤسسي دستوراً مكتوباً كما في الحالة المغربية أو الأردنية مثلاً، أو أعرافاً وأسرة حاكمة ذات امتداد تاريخي معين كما في الحالة السعودية والحالة الخليجية، بخلاف فردية الزعيم في الجمهوريات العربية، التي تجري في إطار مطلق لا تحده حدود ولا تقيده قيود، بحيث إنه إذا سقط الزعيم سقط كل شيء معه، وترك وراءه فراغاً لا يمتلئ من جديد إلا بعد صراع وربما بحور من الدماء. صحيح أن لهذا الأمر استثناءات تاريخية معينة، فالتاريخ مليء بأمثلة صراع الأمراء، وقتلهم لبعضهم البعض في أسر حاكمة كثيرة عبر التاريخ، ولكننا نتحدث عن عالم العرب اليوم، حيث وصلت التجارب التاريخية مداها، بحيث يمكن القول إن الملكيات في هذا العالم هي الأكثر ضمانة للاستقرار، بوصفه القيمة والغاية التي لا يمكن أن تتحقق القيم والغايات الأخرى بدونها، وعن الأسر المالكة في عالم العرب اليوم، التي تشكل بوصفها مؤسسة سياسية قبل أن تكون كياناً عائلياً، المحور الذي يكفل استقرار النظام السياسي، الذي هو أساس كل استقرار. لا داعي للاندهاش وعودة إلى موضوعنا الرئيس، أي كل ذاك الاندهاش والتفاجؤ، من سلاسة انتقال السلطة في السعودية، يمكن القول، وفق ما سبق قوله، إنه لا داعي للاندهاش والتفاجؤ حين توضع الصورة العامة في الذهن، اللهم إلا في بعض التفاصيل هنا أو هناك، وهي الصورة التي حاولنا باختصار شديد تحديد معالمها في هذه المقالة، فالقضية في النهاية ليست قضية صراع قراصنة على كنز، أو عصابة على مال مسروق، أو صراع ثلة من الانقلابيين على سلطة سقطت بين أيدهم وهم بها فرحون وكل منهم طامع بالانفراد بها، بل هي قضية استمرارية نظام وثبات حكم واستقرار بلد بأسره، وبالتالي فإن الأسرة المالكة السعودية، مهما كانت اختلافات وخلافات أفرادها، تبقى في النهاية مؤسسة سياسية ذات جذر يمتد مئات السنين في تاريخ جزيرة العرب، بكل ما تراكم على هذا الجذر من خبرات ودروس وعبر، وبالتالي فإن كل هذا الترقب من قبل «المختصين» والمتابعين لأمور دراماتيكية، أو تراجيدية ذات نكهة إغريقية، مسألة لا مبرر لها في ظني. إذ حين يكون النظام السياسي على المحك، ويكون الوطن هو المهدد، فإن كل خلاف أو صراع أو حتى أطماع شخصية تختفي، ليلتف الجميع حول هدف واحد هو البقاء والاستمرار في إطار من الاستقرار. رحم الله عبدالله بن عبدالعزيز، وكان في عون سلمان بن عبدالعزيز. تركي الحمد * كاتب سعودي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©