الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عائد الثقافة

عائد الثقافة
4 ديسمبر 2014 00:30
سمر حمود الشيشكلي عرف مجمع اللغة العربية الثقافة بأنها «جملة مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي التي تنتقل من جيل إلى جيل في مجتمع أو مجتمعات متشابهة»، وعرفها مالك بن نبي بأنها «جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل فرد من أفراده جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة للتقدم». والثقافة هي الإطار الفكري الذي يفسر فيه الأفراد والجماعات طبيعة الواقع، والغرض من الحياة الإنسانية. أن يكون المرء إنساناً مثقفاً تعني أن يكون شفافاً، مرناً، واعياً لكل نواحي حياته، للتاريخ، للتراث، والإرث الثقافي. ويترجم هذا في مظاهر عدة؛ في احترام وممارسة ثقافة الحفاظ على البيئة، ثقافة العمل والقانون، ثقافة احترام الآخر، ثقافة التأثير الإيجابي الفعال، ثقافة الانتماء للأمة والمجتمع، ثقافة المبادرة الإيجابية والإحساس بالمسؤولية، ثقافة النقد البناء ممارسةً وتقبلاً، ثقافة أن الحياة هي في تحسين الحياة للآخرين. معيار المثقف ووفق التعريفات أعلاه، يكون تحصيل الشهادات الأكاديمية ليس معياراً للمثقف، ولا يمكن اعتبار كل الذين استطاعوا تلقي قدراً من التعليم الأكاديمي مثقفين، لأن تحصيل العلم لا يعود بالضرورة وعياً ونضجاً في الشخصية يمكّنها من الفهم العميق لواقع المجتمع، لذلك في الواقع يعيش الكثير من المثقفين منسلخين عن عامة المجتمع، أو عن ثقافتهم. الطبيب المثقف الواعي يقوم بعمله سعياً وراء تطبيق أخلاقية هذه المهنة الإنسانية الراقية بعد تحييد الدافع المادي، فتزول ظاهرة الإجرام في الطب عند التركيز على الربح وحده. وأستاذ الجامعة يحافظ على صورة رجل العلم المتسلح بالحكمة وتقديس العلم ما ينعكس قدوة حسنة على الطلاب. والمعلم المثقف الواعي يتفانى في تعليم طلابه، فلا يعود هناك حاجة للمدارس الخاصة أو للدروس الخصوصية، ورجل الدين يعلم الناس الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا يستخدم الدين للتحريض على التطرف والطائفية. والصحفي الصادق الأمين الذي لا يمكن أن يكون ذيلاً للسلطة، ولا بوقاً إلا لصوت الحق.. والمخرج المثقف يقدم من خلال أعماله السينمائية أو الدرامية فناً محترماً لا يشيع الانحطاط الأخلاقي بل يدعم التربية المجتمعية والحفاظ على الهوية. قد ينتج المجتمع أشخاصاً في غاية النهم للاطلاع ومتقنين لخطة تثقيف ذواتهم دون تحصيل الشهادات الأكاديمية، وهم قادرون على فهم أكبر لمشاكل المجتمع، ولديهم القدرة على تواصل وتعامل أوطد وأحكم مع الناس، وقدرة على التفكير وعلى حل المشكلات، وبالتالي يكون عائد الثقافة لديهم أثرى وأعمق. لا نستطيع اليوم أن نلوم من يتساءل عن جدوى الثقافة وهو يرى في الساحة أدعياء الثقافة الذين يشوهون الواقع ويفسدون عملية التطور المجتمعي التي تتم عادة من خلال عملية تنويرية حتمية تتبناها الثقافة والفكر الحر لاهثين وراء اكتساب الرزق والتوسع في اكتسابه، لا يملكون مشروعاً حضارياً يسعون ويناضلون من أجل تحقيقه، ويراهم وراء فرص الظهور اجتماعياً ومادياً وحتى سياسياً، والمسافة بذلك تزداد اتساعاً بين المثقف والمجتمع. تجربة غربيةقد تكون الثقافة المجتمعية التنظيمية هي الحل، لكن ما هي وما أهميتها؟ وكيف تخلق وترعى؟ في التجربة الثقافية الغربية انطلقت المجالس المحلية للمدن والبلدات على خلفية فكرية وثقافية، وهي تعزيز العمل الجماعي وتعميق أواصر العلاقات في المجتمع الواحد، ولم تأخذ هذه المجالس على عاتقها بناء أو تحسين البنية التحتية والمرافق أو التنمية الاقتصادية فقط، بل تعدى ذلك تبني الحركة الثقافية بكافة جوانبها (الفكرية والفنية) إيماناً منهم بدور الثقافة في تغيير وتطوير المجتمعات. وانعكست فكرة العمل الجماعي على البحث العلمي وباتت الأبحاث العلمية هي عمل جماعي بحت... يحرر مجموع طاقات أفراد المجتمع لما فيه رقيه، وفق مشروع عمل وطني موحد. كذلك منهم من يتبني ثقافة البيئة النظيفة الخالية من التلوث، فيجعلها مشروع يضم الكثير من الهيئات الرسمية والمدنية، ومنها انطلقت حركات وتجمعات من المجتمع المدني ومن ثم أصبحت أحزابا تلعب دوراً كبيراً في تغيير سياسات الدولة تجاه البيئة، ومنها على سبيل المثال، لا الحصر، حركة الخضر. في المجتمعات المدنية الغربية تعمق كذلك ثقافة الاقتصاد الأسري مقابل ثقافة الاستهلاك والتبذير والهدر، وهناك مقولة يتعلمها الأطفال منذ الصغر: (اشتر ما تحتاجه وليس ما ترغب فيه.. لا تشتر إلا ما تحتاج، لأنك ربما تبيع ما تحتاج إليه). وكذلك تدوير المواد والاستفادة من القديم منها بشتى الوسائل.. وترى في اليابان ظاهرة تعميق ثقافة الانتماء (الأسري أولاً ثم المؤسسات ثم الوطن) يتبناها المثقفون في كل شريحة... تقدير قيمة الوقت، وفن إدارة الوقت.... كل هذا وغيره انطلق من فكر وبالتالي ثقافة وترجم إلى عمل على أرض الواقع... فيكون دور المثقف بهذا في تحويل الفكرة والثقافة إلى قيمة إيجابية يتبناها المجتمع وتصبح فيما بعد سمة من سماته وتساهم في تطوره. السلوك والقيمإذ ما فائدة الفكر والثقافة إذا لم ينعكس إيجاباً على سلوك الفرد، ثم السلوك الجمعي للمجتمع وتعزيز القيم فيه.! وحتى يعم عائد الثقافة المجتمع بأكمله، من الضروري أن لا ينحصر دور المثقف في مخاطبة النخبة من المجتمع، والأحوج لهذا الخطاب هو بقية شرائح المجتمع، دور لا يكتفي بالجانب المادي فقط بل يتعداه إلى كافة الجوانب العملية الثقافية والفكرية والروحية. باختصار على المثقف أن يقوم بتحويل الثقافة من حالة وجود بالقوة إلى حالة وجود بالفعل. وهو ما نسميه عائد الثقافة. وبناء على ما تقدم، يمكن القول بأن أهمية الثقافة المجتمعية تكمن في إيجاد الشعور والإحساس بالهوية والانتماء والالتزام بين الأفراد، وتعزز استقرار وتوازن الأمة كنظام اجتماعي، وتعمل كمنبه لتشكيل وإرشاد سلوك الفرد والجماعة إلى التكيف مع العالم المتغير من غير فقد رؤية القيم الجوهرية. وعندما يكون طرح هذه الثقافة أصيلاً قوياً، سيرتضي أفراد الأمة بقيمها وأحكامها وقواعدها، ويتبعون كل ذلك في سلوكياتهم وعلاقاتهم. فكلما كانت قيم الأمة مرنة ومتطلعة للأفضل، كانت الأمة أقدر على التغيير والتطور، وأحرص على الإفادة منه، كلما كانت القيم تميل إلى الثبات والجمود والتحفظ، قلت قدرة الأمة واستعدادها للتطور. وفي غياب دور التربية اليوم ودور المربي المثقف، في ضبابية الرؤية وغياب الإيمان بغائية هذا الدور، وأمام تعاظم ضغط النمط الاجتماعي المادي ومعاييره المتخلفة لواقع تغيب فيه كل رابطة أساسية بين الإنسان وذاته تجعله غير قادر على التفاعل الإيجابي المثمر، ينجح هذا الدفق المجنون من الإعلام الثقافي الذي يشيع البلبلة والسطحية والجهل المركب، والذي يقدم فهماً مشوهاً للواقع بطرق ملتوية، تصرف الفرد عن أية فعالية إنسانية حقيقية. إن وسائل الثقافة العصرية من إذاعة وتلفزيون وفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، لم تعمل على بناء الفرد بنزاهة. رغم أنها تملك التأثير الواسع الانتشار على السامع أو المشاهد، بل تنشر السيئ والرديء إلى جانب الجيد، وتنشر الثقافة الراقية إلى جانب الهزل الرخيص. بمعنى آخر، إنها تنشر السم في الدسم، وبذلك يكون المردود الثقافي سلبياً وتختلط فيه القيم في فوضى عجيبة، ومن ثم يصبح كل ما يقدم زائفاً لا يعمل على تطوير الفرد بل على العكس، يعمل على ضياعه بدفعه إلى الهروب من الواقع إلى عالم من الأوهام، بدلاً من تثقيفه بآليات مواجهة واقعة والتغلب على مشكلاته. إلى جانب أنها تساهم في تشتيت وعيه، وإحاطته بأوهام عن نجاحات لا وجود لها وعن إبداعات ليست إلا فقاعات ما تلبث أن تجرفها حقيقة التخلف الحضاري، وتحرم المجتمع من خلق المقاييس الأخلاقية والثقافية التي يتسلح بها في مواجهة ذلك الزيف المقنع وذلك التخلف، وتقوم بعمليات التجهيل المستترة والواضحة تحت جميع الشعارات فتنهار بذلك قيمه وهويته. لقد أصبح الفرد عموماً مزدوج الذات كمواطن بل وأصبح فرداً لا حضور له، أما المثقف فقد تحول إلى مراءِ أناني يستميت في سبيل الحصول على مكاسب شخصية ناسياً دوره الأساسي في توعية المجتمع والتصدي لفيروسات هلاكه قبل استفحال أمرها. عن النخبةهل يمكن أن يكون هناك مجتمع نشط بالحراك الفعال، وأفراده خاملون لاهون؟ نحن نعلم أن المجتمع لا يمكن أن يكون كله بالمستوى نفسه من الوعي، ولكي يتحرك المجتمع حراكاً فعالاً، يكفي أن تكون هناك (نخبة مثقفة) لها القدرة على التعاون للعمل والتأثير في حركة المجتمع وتوجيهها الوجهة الصحيحة، وتبدأ مشروعها بالتربية. وبالطبع يتطلب خلق المثقف الذي يتعامل مع الواقع والناس بوعي ورقي إلى منظومة فكرية متكاملة معينة ناتجة عن تصورات من شأنها تزويده برؤية تشكل انسجاماً تاماً في بناء الشخصية الفعالة القادرة على التضحية وإتقان العمل المثالي الناجح المطلوب وتشجيع روح العمل الجماعي والتخلص من النزعة الفردية والجمود والانغلاق. ولابد من جو ديموقراطي ليزدهر دور المثقف والمؤسسات الثقافية الجمعية، لأن في غياب هذه الديموقراطية تتكرس أفكار وثقافات مشوهة تعمل على تحطيم البناء الاجتماعي والثقافي العام ما يعمل على تحلل القيم الثقافية وظهور الأنانية والنفعية. ونعود للتأكيد على أن العمل التربوي والتثقيفي يبدأ من المدرسة والجامعة في تكوين عقيدة الفرد ومفاهيمه الأخلاقية وثقافته الروحية. إن لم يكن المثقف، كما هو في نظر إدوارد سعيد، هو الذي يملك ملكة المعارضة، ملكة رفض الركود، المتعطش إلى التغيير دائماً، الذي يأخذ موقفاً شمولياً من المجتمع، هو صاحب الرسالة، التي إن لم يمارسها فإن وجوده يصبح غير ضروري؛ المثقف صاحب الموقف عدو التعصب الديني والقومي، المنفتح لسماع أو قراءة أو مناقشة كل الآراء، الذي لا يكتفي بمعرفة الحقيقة، بل يلتزم بالحقيقة فعلاً، إن لم يكن كذلك فإن عائد الثقافة في مجتمعنا سيبقى ضحلاً وكائناً خاملاً لا يسهم في تطور المجتمع بل يساهم في تدميره. رؤيتنا للحياة هي التي تشكل كل ما نفكر به ونفعله، هي ما نعتبره طبيعي أو غير طبيعي، مقبول أو غير مقبول، وبدورها تجاربنا الحياتية وثقافتنا هي التي تشكل تلك الرؤية، وفي نفس الوقت هي تعيد تشكيل طريقة تناولنا وتعاطينا مع الحياة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©