الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشهرة والاغتراب ولحظة الحقيقة

الشهرة والاغتراب ولحظة الحقيقة
23 نوفمبر 2011 21:12
ربما يكون “محمود درويش قيثارة فلسطين” للدكتور إبراهيم خليل أول مؤلف يبحر في قصائد الشاعر الراحل، واعتبره خليل نموذجا للوفاء لشاعر كبير خانه أصحابه ورحلوا وتخلى عنه الذين ارتادوا موائده طلبا لمصلحة أو منفعة. الكتاب 240 صفحة من القطع الكبير الصادر عن دار فضاءات بعمان يضيء محطات شعرية لم يتجرأ أي باحث أو ناقد في اقتحام مشوار درويش الإبداعي الذي لم يقتصر دوره ـ أي درويش ـ على الكتابة بل كان له دور في تجديد القصيدة العربية والارتقاء بها من درجة رفيعة إلى درجة رفيعة أخرى. ورغم أن المؤلف يعترف أنه ليس على اتفاق سياسي أو أيديولوجي مع درويش إلا أنه يصفه بأنه عازف ومغن تتموج ظلال المعاني في شعره على أجنحة الإيقاع تارة وعلى أجنحة الخيال تارة أخرى. فضاء اللون ووفق خليل فمن يتتبع شعر درويش يكتشف شغفه المبكر بالألوان ويستعملها بكثرة لافتة للنظر فيحيل بعض شعره إلى رسم وبعض الألفاظ لما يشبه الألوان، وهو على الدوام يضفي على الألوان معاني جديدة فتتحول وفقا للسياق الشعري والثقافي إلى علامات ثانية تنم عن معان أخر، فاللون يتحول من مدلول إلى دالول يرمي الإيحاء بمعان والمعاني توحي بأخرى. ففي رثائه لإبراهيم مرزوق ينبه بالكلمات على العلاقة المتينة بين الرسم والشعر والخبز، فهي أقانيم ثلاثة ضرورية لاستمرار الحياة وبقاء العناصر التي يستمد منها الوطن أرضا وإنسانا مضمونه وأسباب وجوده: كان إبراهيم يستولي على اللون النهائي ويستولي على سر العناصر كان رساما وثائر كان يرسم وطنا مزدحما بالناس والصفصاف والحرب وموج البحر والعمال والباعة والريف ويرسم جسدا مزدحما بالوطن المطحون في معجزة الخبز ويرسم مهرجان الأرض والإنسان خبزا ساخنا عند الصباح فالخضرة كلون في قصائده تومئ إلى استمرار التشبث بالوطن، “سنظل في الزيتون خضرته/ وحول الأرض درعا” فهي ضمن هذا السياق تتحول إلى دليل التزام وإصرار على البقاء في الوطن. كما أن الخضرة في الثقافة العربية رمز الخير والخصب والتجدد والعيون الخضراء ترمز للجمال والعطاء والخير والأنوثة والقلب الأخضر، هو القلب النشط الحيوي الذي لم تدركه الشيخوخة “قلبك أخضر/ فكيف لا أحبك أكثر/ خلي دمي المسفوك لافتة الطغاة إلى المساء/ خليه ندا للجبال الخضر في صدر الفضاء”. كما استخدم درويش جميع الألوان للدلالة على رمز يعود في نهاية المطاف للوطن وأوجاعه. الوجود والعدم لقد هيمنت مشاعر الوجود والعدم على درويش في أيامه الأخيرة وفي قصائده التي يتوجس فيها لحظة الحقيقة، فهو ينتظرها انتظار عاشق لمن يحب فلا يبدو من أن يظهر في زينته الكاملة وأناقته التامة ممشط الشعر يرتدي من القمصان أكثرها أناقة ثم يشيع نفسه: أمشط شعري وأرمي القصيدة في سلة المهملات وألبس أحدث قمصان إيطاليا وأشيّع نفسي بحاشية من كمنجات اسبانيا ثم أمشي إلى المقبرة والمتابع للكثير من قصائده يلمس عمق الشعور بالوحدة والاغتراب الذي عاشه درويش في سنواته الأخيرة رغم الشهرة التي حققها والترحيب المفعم بالحب والاحترام في أي مكان يذهب إليه وأنه كان يقاسي من الإحساس بأن كل شيء لم تعد له قيمة فحيثما نظر أبصر قبرا فاغرا فاه.. وأي شيء يراه إنما هو مشهد يتراءى فيه شعوره بأنه غريب وأنه على مسافة واحدة من البقاء أو الرحيل. وواقع الأمر هو أن درويشا في أيامه الأخيرة نسيج من الألم والمرارة فقصائده توشك أن تكون كالرسائل الأخيرة التي تصدر عن رجل ينتظر تنفيذ حكم الإعدام لكنه يراوغ الموت: “وعند الفجر أيقظني/ نداء الحارس الليلي/ من حلمي ومن لغتي/ ستحيا ميتة أخرى/ فعدّل من وصيتك الأخيرة”. الشاعر الملهم ففي قصيدته “لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي” يؤكد أن دوره في القصيدة لا يتعدى دور الشاعر الملهم أو الوسيط بين ربة الشعر “الوحي” والقارئ الذي يتلقاه لأن القصيدة إن لم تصدر عن الهام ووحي فهي مثل رمية نرد فاشلة تفتقر للإشعاع والألق فتتهاوى في مطاوي النسيان كريش في مهب الريح. ومن يقرأ قصائد درويش يكتشف مهارته في اللعب بالكلمات لا تختلف نوعا عن مهارة العازف في اللعب بأوتار الكمان أو الكمنجة أو القيثارة أو ثقوب الناي: “لا دور ليّ في القصيدة/ غير امتثالي لإيقاعها/ حركات الأحاسيس/ حسا يعدّل حسا”. وينسب المؤلف لدرويش قوله إنه درّب قلبه على الحب حتى أصبح من السعة بحيث لا يضيق عن استيعاب تجربة شوكا كانت أم وردة: “أدرب قلبي على الحب/ كي يسع الشوك والورد/ صوفية مفرداتي وحسية رغباتي”. ويستخدم درويش المفردة الشائعة المتداولة في شعره لتوحي بمعاني وإيحاءات موجودة لدى الآخرين فوظيفة الكلمة تتحدد خلال التذكير بالمعاني ومزج الدلالات المعروفة مسبقا مع الدلالات التي يريدها الشاعر باستخدامه المفردة أو التركيب أو الصورة: “رأيت الملائكة يلعبون مع الذئب” تذكرنا بسورة يوسف وقوله: “أسرجوا الخيل” تذكرنا بحماسة الشعراء القدماء. فقصيدته “لماذا تركنا الحصان وحيدا” مشحونة بالإيحاءات التي ترمز لأماكن بعينها التي تطفو على السطح توقظ في وعي القارئ النبيه الكثير من المعاني الأخر عندما يقرأ قول درويش: “وهما يخرجان من السهل/ حيث أقام جنود نابليون تلا لرصد الظلال على سور عكا” يدرك ما وراء الألفاظ من أن هذه المدينة التاريخية العريقة التي مرّ بها غزاة كثيرون أحدهم نابليون الذي ابتنى جنوده هضبة عالية لمراقبة الحركة على الشاطئ والآن أين هو نابليون! وأين جنوده؟ لقد ذهبوا جميعا وبقي التل الذي بنوه شاهدا على ذهابهم مثلما ذهب غيرهم.. وسوف يذهب الغزاة الحاليون مثلما ذهب الغابرون. ريتا الحاضرة ومن الملاحظ ورود اسم ريتا في ست قصائد لمحمود درويش وفي مراحل مختلفة “ريتا والبندقية” التي توحي بأن البنادق تباعد بين العاشقين و”العصافير تموت واقفة في الجليل” حيث يباعد بينهما الفأس والسكاكين والمجزرة بينما يباعد بينهما الشرطي والحب الممنوع والمنفى في قصيدة “ريتا أحبيني” و”أحبك أو لا أحبك”، ويظهر في “الحديقة النائمة” الخيانة والشهوات والجنود ورجال المباحث والتمييز بين العربي وغيره “ينمو البنفسج على قبعات الجنود” و”شتاء ريتا الطويل” التي يتبدد فيها وهم العاشق فالظروف التي جمعتهما تضع الحواجز بينهما فهي تعده غريبا وهو يعدها غريبة أيضا. بعض النقاد يتكهنون بأن ريتا فتاة يهودية أحبها درويش وآخرون يعتقدون أنها فتاة روسية أحبها شاعرنا أثناء تواجده في روسيا بعد خروجه من فلسطين 48 لكن حتى اللحظة لم يصل أحد إلى يقين من هي ريتا بالضبط. فقد ربطها أحيانا بالبندقية أو الحب بذات العينين العسليتين وما بينهما من لقاءات حلوة وقبلات تبادلاها والتصاق الجسد بالجسد وضفائر تدلت على ساعده: “وأنا أذكر ريتا مثلما يذكر عصفور غديره/ آه ريتا بيننا مليون عصفور وصورة/ ومواعيد كثيرة”. الرثاء الكوني وقصائد محمود درويش التي قالها في تأبين الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر أو استشهاد القادة الفلسطينيين الثلاثة في بيروت 1973 وهم كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار لم تكن رثاء بل تحولت من ندب إلى تحريض ومقاومة ونشيد وطني وتعبير عن أن الموت ليس نهاية المطاف بل بداية مسيرة وميلاد جديد لخضرة كادت أن تنقرض بسبب عسف الإحتلالين: “أنراك يا وطني/ لأن أصابع الشهداء تحملنا إلى صفد/ صلاة أو هوية/ ماذا تريد الآن منّا/ خذهم بلا أجر/ ووزعهم على بيّارة جاعت/ لعل الخضرة انقرضت/ هناك الشيء”. وتمزج قصيدته بين عناصر من المراثي القديمة وأخرى من التي أشاعها درويش في أشعاره عن شهداء فلسطين، فليس الموت هو موت الفقيد بل هو موت الشاعر الذي يؤبن، فمن خلال رثائه لراشد حسين وأحمد الزعتر وإبراهيم مرزوق وعزالدين قلق وماجد أبو شرار وآخرين نجده يرثي الزمن الذي لعبت أقداره دورا في جعل الفلسطيني يموت غدرا في أجل ليس أجله ومكان ليس وطنه وبدن ليس بدنه: “يا أحمد العربي قاوم/ لا وقت للمنفى/ وأغنيتي ستذهب في الحصار”. ومن وجهة نظر المؤلف فإن لدرويش فضل كبير في الخروج بقصيدة الرثاء من النمط التقليدي الذي يكتفي بالبكاء وذكر مناقب الراحل وتعظيمه، إلى موقف يندمج فيه الشاعر بالمرثي فهو يرثي نفسه والفقيد في آن ويتحول الموقف من البكاء إلى التحريض ثم الثورة وإلى مساءلة الوجود عن الحياة والموت والهوية والوطن والنفي والعودة وحق الإنسان في أن يكون حرا في بلاده بلا سجون أو قيود، أي أن المرثية باتت على يديه قصيدة كونية تعبر عن رؤيته للعالم وليس مجرد نواح كالذي عرف في طقوس الندب الشعري. درويش ولوركا الناقد إبراهيم خليل يرى أن أول تواصل بين درويش والإسباني لوركا كان في المجموعة الشعرية “أوراق الزيتون” 1964 حيث استعار صورة “عرس الدم” ولكنه ـ أي درويش ـ اختار الزهور بدلا من العرس فسما واحدة من قصائده في ديوانه “آخر الليل”، “أزهار الدم”. واقتبس درويش من رموز لوركا التي لا تخلو من التأثير الأندلسي رمز “الشاعر” و”الزيتون” و”الجيتار” و”الأقمار” و”اسبانيا” و”العيون السود” و”الغجر”.. هذه المفردات تتكرر في قصائد لوركا التي تشير في الغالب إلى معاناته وشعوره القاسي بالوحدة والحزن وربما كان تأثر درويش بشعر لوركا هو الجسر الذي جاءت عبره الرموز الأندلسية التي ظهرت على استحياء أولا ولم تلبث أن تعاظمت بعد الخروج من بيروت 1982. ففي قصيدة “مديح الظل العالي” التي عبر فيها درويش عن تجربة الخروج من بيروت والانطلاق عبر البحر المتوسط في سفن تحمله ورفاقه إلى المنفى الجديد في تونس، تذكر مأساة الأندلس والخروج منها عبر البحر في سفن مأجورة أقلت فلولهم المهزومة نحو منفاها: “وطني حقيبة/ من جلد أحبابي/ وأندلس القريبة/ وطني على كفي/ بقايا الأرض في جسد العروبة”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©