الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثقافة الاختلاف.. الآخر فينا

ثقافة الاختلاف.. الآخر فينا
16 مارس 2016 23:06
د. سعيد توفيق لا شك في أن أحد أعراض مرض الوعي في حياتنا يتمثل في الافتقار إلى ثقافة الاختلاف. يحدث هذا أحيانًا على المستوى السياسي، مثلما يحدث على مستوى الأفراد والشعوب: فعلى المستوى السياسي، نجد أن هذا يحدث حينما يتم تبرير استبعاد الآخر ما لم يكن متوافقًا مع سياسات تسعى للسيطرة والهيمنة، وهو ما تجلى بوضوح في إعلان بوش الابن النهج الذي اتخذه في حربه على الإرهاب، حينما قال صراحةً: «من ليس معنا، فهو ضدنا»!. إن هذا المنطق المغلوط ذاته يتجلى على مستوى الأفراد حينما يتبنون مواقف دوجماطيقية دينية أو فكرية، أي حينما يتخذ المرء موقفًا قطعيًا إزاء الحياة والعالم، لا يسمح بالتأويل، ومن ثم لا يسمح بالاختلاف. ولكن هذا المنطق المغلوط يحدث أحيانًا في حياة الشعوب حينما تشيع فيها حالة من اضطراب الرؤية والفوضى الأخلاقية، وهو ما حدث في بلدان ثورات الربيع العربي التي تفشت فيها تيارات دينية متأسلمة منغلقة على ذاتها، وشاعت اتهامات التخوين للآخر بما هو آخر. ويمكن القول إن عرض هذا المرض الثقافي يكمن في تزييف الوعي بمفهوم «الآخر» في علاقته «بالأنا»، حتى إن «الأنا» أصبحت تنظر إلى «الآخر» باعتباره ضدها أو خصمًا لها. ولهذا من الضروري أن نحاول الكشف عن جذور أعراض هذا المرض، من خلال تعميق وعينا بأساسه الفلسفي. إن الشعور أو الوعي بالأنا لا يتشكل فحسب من نظر الإنسان إلى نفسه، وإنما أيضًا من نظر الآخرين إليه، بل إننا لن نجانب الصواب إذا قلنا إن وعي المرء بصورته لا يمكن أن يتشكل إلا من خلال وعيه بصورته لدى الآخر، لأن الآخر هنا يكون بمثابة الصورة المرآوية أو المرايا التي تنعكس فيها صورة الذات، وتعكسها في الوقت ذاته. فالأنا والآخر يكونان معًا دائمًا، وكل منهما يصنع الآخر من خلال تبادل النظرات، وهنا ينبغي أن نلاحظ أن الآخر يصبح «أنا» عندما ينظر إلى نفسه في عيون الآخر. فالأنا والآخر يتبادلان الأدوار دائمًا، ذلك أن الآخر يكمن في أعماق الذات أو الأنا، بمعنى أن صورتنا عن أنفسنا تتشكل من خلال الآخرين أو الأغيار الذين نقابلهم في حياتنا وندخل معهم في علاقات عدة مختلفة من خلال التصارع والتنافس والتعاون والتفاهم، ومن خلال الكراهية والحب، وغير ذلك. ولهذا فإن تقديرنا لأنفسنا، على سبيل المثال، لا ينبع فحسب- ولا ينبغي أن ينبع- من نظرتنا لأنفسنا، وإنما أيضًا من خلال تقدير الآخرين لنا. تخيل- على سبيل المثال- أنك وحدك في هذا العالم، أو أنك تعزل نفسك عن هذا العالم بحيث تنكر وجود الآخرين أو لا تعتد بهم! لا شك أن وجودك كذات في هذه الحالة سوف يصبح وجودًا مريضًا يحتاج إلى علاج نفسي، لأن حالتك عندئذ سوف تشبه حالة نارسيس الذي ظل ينظر في إعجاب إلى صورته الجميلة المنعكسة على صفحة الماء. فأنت في هذه الحالة لا تفهم معنى المرآة، لأنك تظن أن الصورة المرآوية هي مجرد انعكاس مباشر لمظهرك كما يتجلى في المرآة، ولا تريد أن تتعرف على صورتك كما تتجلى في عيون الآخرين. إن هذه الحالة تتجلى بوضوح في افتتان بعض الحسناوات بصورتهن كما تتجلى في المرآة، لأنهن في الغالب ينظرن إلى أنفسهن على أساس من صورتهن الجسدية كما تنعكس في المرآة، ولا يعبأن بصورتهن كما تنعكس من خلال نظرة الآخرين لهن، لا على مستوى الجسد وحده، وإنما أيضًا على مستوى الروح والعقل. وربما يفسر لنا هذا حالة تحطيم المرآة التي يمارسها بعض الأفراد حينما يجدون أن صورة الآخرين عنهم ليست هي الصورة المباشرة التي تنعكس في المرآة أو التي اعتادوا أن يرونها في المرآة. قد يحدث أحيانًا تناقض بين صورة المرء عن نفسه وصورة الآخرين عنه، ولكنه لا يصل إلى حد تحطيم المرآة، لأنه يرى أن صورة الآخرين عنه لا تدرك كنهه في لحظة تاريخية ليست مواتية، ولكن هذا لا يحدث إلا في لحظات استثنائية من تاريخ العبقرية، حينما يجد العبقري نفسه في سياق تاريخ لا يعي ما يذهب إليه. وعي متبادل مفاد القول إن العلاقة المتبادلة بين الأنا والآخر تتخذ أنحاءً شتى تعبر عن أحوال النفس أو الذات تجاه الأغيار. ومن المؤكد أن هذه العلاقة تحكمها المشاعر والرغبات والمصالح. ولذلك فإنها لا تستطيع تحقيق حالة من التوافق إلا من خلال قدرة تحتاج إلى تدريب على فهم الآخر واحترامه، بل حبه أحيانًا. وهذا أمر يحتاج إلى تفصيل وإيضاح من خلال إبداء بعض الملاحظات الأولية: - إن العلاقة السوية بين الأنا والآخر هي علاقة تفاعل، فعلاقتي بالآخر تتحدد كرد فعل على حضوره ووجوده وطريقة تفكيره وأسلوب معاملته لي. فأنا انعكس على نفسي لأتأمل الصورة التي يؤلفها عن ذاتي، وأفصح له من خلال انفعالاتي عما أفكر فيه تجاهه، مثلما ينعكس هو على نفسه ليتأمل الصورة التي أصنعها عن ذاته، ويفصح لي من خلال انفعالاته عما يفكر فيه تجاهي. وبذلك يتحقق، من خلال الانفعال، ضرب من الاندماج والتداخل بين وعيين: وعيي أنا ووعي الآخر، أي وعي كل منا بالآخر باعتباره هو أيضًا وعي (كما يبين لنا ذلك الفيلسوف المجهول محمود رجب-رحمه الله- في كتابه الرائع عن «فلسفة المرآة»). - إن هذا الوعي الذي يتأسس من خلال العلاقة التبادلية بين الأنا بالآخر، هو ما يؤسس الشعور بالاختلاف (اختلاف الأنا عن الآخر)، ومن ثم الشعور بالهوية: فالهوية تكمن في الاختلاف. وبما أن الاختلاف يفترض وجود الآخر، فإن الهوية لا تكمن أبدًا في تطابق الذات مع نفسها، أي لا تكمن في صورة صنعتها الذات عن نفسها بمنأى عن الآخر، وبمنأى عن عالمها الذي تعيش فيه، كما لو كانت الذات بمثابة مركز ثابت تُقاس عليه مواضع كل الأشياء والموجودات، وإلا فإن الذات في هذه الحالة سوف تصبح ذاتًا مريضة يحتاج وعيها إلى علاج. والواقع أن هذا هو الحال الشائع عند من يتبنون مواقف دينية أو سياسية متصلبة تتخذ مرجعيتها من نقطة ثابتة بحيث لا تعبأ بما حدث ويحدث في التاريخ، وبما يطرأ على العالم من تغيرات، وبما يحفل به من مواقف متباينة، بل إنها قد لا تعي ذلك كله، وربما اتخذت منه موقف العداء الصريح. - إن الاعتراف بوجود الآخر والتفاعل معه يتخذ صورًا متباينة: وأدنى هذه الصور رتبة في عملية التفاعل هي التفاوض الذي يكون بين الخصوم والمتنافسين وأصحاب المصالح. وبوجه عام فإن هذه الصورة هي الصورة الشائعة في المجال السياسي وفي مجال تحقيق المصالح فيما بين الأفراد. غير أنه من الضروري أن نميز بين التفاوض Negotiation والحوار Dialogue في تعاملنا مع الآخر، لأن هناك خلطًا يحدث عادةً في فهم هاتين العمليتين: ففي عملية التفاوض لا تسعى الأنا أو الذات إلى الكشف عن نفسها صراحةً أمام الآخر، وكذلك يفعل الآخر بوصفه ذاتًا. ومعنى هذا أن الذات في عملية التفاوض يمكن أن تخفي دوافعها الحقيقي في فعل المحادثة، ويكون كل طرف مشغولًا بمحاولة التعرف على الدوافع الخفية لدى الآخر، وليس هذا هو الحال في عملية الحوار الحقيقي الذي يشبه التحدث مع الأصدقاء الذي نسعى من خلاله إلى الوصول إلى تفهم مسألة ما هي موضوع الحوار، وهو تفهم يتحقق من خلال حالة من التعاطف والشعور بالألفة والدوافع المشتركة. والمسألة التي نتحاور حولها قد تكون قضية فكرية أو شخصًا أو عملًا فنيًا أو نصًا أدبيًا، فموضوع الحوار يتسع ليشمل كل ما يمكن أن يكون موضوعًا للفهم والتعقل. أخلاقيات الحوار إن الحوار له أخلاقيات لا تتمثل فحسب في عدم إخفاء دوافعنا عن الآخر، وإنما تتمثل أيضًا في أننا لا ينبغي أن نسعى إلى فهم الآخر- سواء كان شخصًا أو أوعملاً فنياً أو نصًا أدبيًا- من خلال تصورات مسبقة لم تتأسس على نوع من الفهم الأوَّلي أو لا تسعى إلى فهم الآخر من خلال الإنصات إليه. ومن هنا يمكن أن نفهم ضيق أفق بعض النقاد حينما يتعاملون مع النص الأدبي من خلال أطر ومعايير مسبقة، دون التعامل مع النص باعتبار «آخرَ» يتحدث إلينا، فمثل هذا النقد يسيء فهم العمل المبدع ويسعى إلى تأطيره من خلال قوالب جاهزة تفرضها الذات على النص وتدخله عنوة فيها. وهذا كله يؤكد لنا أن الآخر ينبغي أن يكون معنا دائمًا، فمن دونه لا يكون لنا معنى أو وجود حقيقي. الاختلاف حتى في الحب أرقى صور العلاقة التبادلية بين الأنا والآخر تتمثل في حالة الحب، لأن كل طرف في هذه الحالة لا يسعى فحسب إلى التفاهم مع الآخر أو بلوغ فهم مشترك، وإنما يسعى إلى التطابق مع الآخر. ذلك أن كلًا منهما يرى أن صورته عن نفسه (بكل ما تنطوي عليه من عواطف ومشاعرَ وأحلام..) تكاد تتطابق مع صورة الآخر عنه، ولهذا قال أفلاطون: إن المرء إذا أحب غيره، فإنه يحب نفسه فيه. ومع ذلك تظل هناك هوامش للاختلاف بين الأنا والآخر حتى في حالة الحب، لأن كل طرف يعي- أو ينبغي أن يعي- أنه ذات لا يمكن تتوحد تمامًا مع الآخر أو تنسحق إرادتها فيه، وربما كان عدم تقبل هذه الحقيقة هو ما يقضي أحيانًا على حالات الحب المتأججة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©