الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لوثر.. الإيمان مُحَرَّر ومُحَرِّر

لوثر.. الإيمان مُحَرَّر ومُحَرِّر
11 نوفمبر 2015 21:43
البروتستانتية هي في الأصل احتجاجٌ على وضع سائد، لتصير لاحقاً مرادفاً للإصلاح. وكلا الأمرين، الاحتجاج والإصلاح، هما رفض لأوضاع دينية بلغت مستوى متطورا من الاحتكار للقداسة من قِبل كنيسة روما، في زمن كان فيه المقدس ثروة وسلطة. لم تجد كنيسة البابا سبيلاً لنقْضِ ذلك «الإصلاح» سوى بنقيضه، وهو ما عُرف بـ «الإصلاح المضاد». في واقع الأمر، كانت أصوليتان تتدافعان وتتخاصمان، في الأرض وفي السماء، إحداهما سائدة والأخرى صاعدة، حتى شاعت شيْطنة متساوية بين الطرفين، الكاثوليك والبروتستانت، كان كل طرف فيها يلوّح بشعارات القداسة. وصحيح أن الصراع الديني الذي شهدته أوروبا منذ تفجّر الإصلاح البروتستانتي، وأبرز محطاته حرب الثلاثين سنة (1618-1648م)، قد بدأ دينياً مع القرن السادس عشر، ولكنه انتهى سياسياً في القرن السابع عشر. وما كان صراعاً بين شقّين جليّين في البداية: «الاتحاد البروتستانتي» و»الرابطة الكاثوليكية»، تحوّلَ لاحقاً إلى صراع داخل كل شق، لعلّ ذلك منطق الفتن الدينية حين تتشظى وتتميّع الحدود، لتخلق تحالفات جديدة وواقعاً ما كان في الحسبان. في البدء ما كان لوثر يرنو إلى تشييد كنيسة جديدة، ولا كان يفكر في إنشاء مذهب بحاله، فذلك كان بمثابة التجديف في الدين والهرطقة، ولكن شاءت التحولات أن تَصنَع «ديناً» جديداً. لقد استحوذ سحرُ العودة إلى النبع، المتمثل في المسيح و»الرسل» والآباء والإنجيل، على لوثر، وهو كَلَفٌ غالباً ما يراود الحالمين في الدين، في كل ملة ونحلة، بحثاً عن الطهر والنقاء، إنها أسطورة التعالي التي تجلت في شعارات اللوثرية «لا وسيط للخلاص إلاّ المسيح» و«كلٌّ بنفسه كاهن» و«يكفي بالكتاب المقدس وحده هادياً ودليلًا» و»بالإيمان لا غير يأتي الخلاص» (Sola fides). هكذا شاء لوثر للناس أن يغوصوا في الدين دون واسطة كهنوتية أو لغوية، ولذلك عمل جاهداً على ترجمة الكتاب المقدس إلى الألمانية حتى يهشم تلك السياجات اللاتينية، التي تحول دون ارتواء المؤمن من النبع، كما بدا له الأمر. (المترجم) وُلد مارتن لوثر في العاشر من نوفمبر 1483م في ايسليبن بألمانيا. كان طالبا موهوباً، حثَّه أبوه العامل في قطاع المناجم، بعد نيلِ دبلوم الباكالوريا، على دراسة القانون. وبحسب ما رواه لوثر عن نفسه، لاح قدره في ليلة من ليالي عام 1505، حين فاجأته عاصفة هوجاء، وظنّ أنه الفراق. صلى حينها للقديسة حنّة مستجدياً نِعَمها مقابل أن يكون راهباً. وعقب ذلك الاهتزاز قرّر أن ينضوي في دير رهبان القديس أوغسطين بإيرفورت، واعتبر تلك التجربة، على غرار من سلكوا طريق الرهبنة، بمثابة النداء الإلهي الخفي، حيث غاص في التمعن بعمق في أسرار الموت وفي سُبل الخلاص. إذ خان قلقُه الجارف حساسيتَه المرهفة، فهو شخص شكيك في أمره وفي أمر غيره أمام الأحكام الإلهية. سِيمَ لوثر كاهناً في سنّ الرابعة والعشرين، ليرتقي لاحقاً إلى أستاذ في جامعة فيتنبيرغ مع عزم على السير في طريق الرهبنة والنسك. كان يرنو أن تقوده دعواه وتقواه إلى النعيم، لكنه بقي رهين التساؤل إن كانت أفعاله خالصة لوجهه تعالى. لم يقر له قرار، وكان مهووساً بانحدار نحو الشرّ، وأحسّ بعدم جدارته أن يكون كاهناً، ووسيطاً للمقدس. بعدها وجد خلاصه في الكتاب المقدس، ولا سيما في القول الوارد في رسالة بولس إلى مؤمني روما: «كما هو مكتوب أما البارُّ فبالإيمان يحيا» (1: 17)، وبحسب تأويله، إذا ما آمن الإنسان بالإنجيل نجا. فليس الرب ذلك الحَكَم المنتقم كما تقدّمه الكنيسة؛ بل بخلاف ذلك هو إله الرحمة. ومهما كانت خطيئة المرء في حياته فإن محبة الله لا يسعها شيء. فليس الدين قانوناً للقهر بل هو إيمان للتحرر، كان ذلك الاكتشاف محورياً بالنسبة إلى لوثر. ومن ثمة لم ينفك عن تدبّر الإنجيل، وقد تخلص من الهموم الفردية للخلاص، حيث بوِسع المسيحي أن يعيش حياته وسط جماعة غير تراتبية وبوسع كل واحد أن يكون خادماً حراً للمسيح. تجارة صكوك الغفران لقد دفعت الخلافات حول صكوك الغفران اللاهوت اللوثري للخروج من ضيق جدران الجامعة. ففي أكتوبر 1517، ثار لوثر ضد صكوك الغفران التي تذهب نصف عائداتها إلى بناء كاتدرائية القديس بطرس في روما، وصاغ حينها أطروحاته الخمس والتسعين التي عبرت عن جوهر اعتقاداته. في الأصل، ما كانت للوثر رغبة في إصلاح الكنيسة، فقد اقترح سُبلًا للتأمل بغرض العودة إلى إيمان مجرد من أشكال المشارطة كافة. في حين سيعطي الانغلاق البابوي بُعداً آخر لما كان نقاشاً في أوساط علماء اللاهوت. بعد اتهام لوثر بالهرطقة تابع على مدى ثلاث سنوات تدبيج الرسائل وواصل إثارة حنق البابا، على غرار حرق قرار الحرمان البابوي الذي سُلّط عليه في الساحة العامة علناً. في الأثناء عُدّ مناوئاً من قبل الإمبراطور شارل الخامس أثناء مجمع فورمس سنة 1521. لكن الأمر جاء متأخراً، فقد شاع الجدل بشأن روما، وألهبت أطروحات لوثر أتباع المسيحية في ألمانيا، وتم الإعلان عن ميلاد الإصلاح الديني. لقد دشّن لوثر جدلًا وطنياً في صفوف رجال اللاهوت، وبالمثل في أوساط عامة المسيحيين، بفضل خيار دعائي، اعتمد المطبعة وسيلةً، إضافة إلى التبشير بالإنجيل على طريقته. في أعقاب ذلك التوتر لجأ لوثر لدى صديقه ومُجيره فريدريك دو ساكس، في قصره في فارتبورغ. وعلى مدى عامين متتاليين كثّف من إنتاجه الفكري، ولم يفل المنفى القسري في عزمه، فقد عمّق النظر في مسلكه، يدفعه في ذلك هاجس إعادة بناء العلاقة بين الرب والإنسان، وجعلها يسيرة الفهم. فكان أن ترجم العهد الجديد إلى الألمانية ودوّن كتاباته الإصلاحية الكبرى: «بابوية روما: نداء من أجل سمو الرسالة المسيحية والأمة الألمانية»، و»شرور الكنيسة البابلية»، و»رسالة في الحرية المسيحية»، التي نجد فيها معالجة ضافية ومتطورة لمسائل خلاص الإنسان وممارسة الدين وجماعة الإيمان. إذ لا نعثر لدى لوثر على أي وجه من أوجه الاختلاف بين الراهب والمؤمن. فمع مفهوم «الكهانة الكونية» يكتسب اللائكي موضعاً محورياً في الكنيسة، بوصفها محل الشراكة الروحية بين البشر. وبالنسبة إليه تُعدّ طقوس الأسرار، علاوة على التعميد والعشاء الرباني، طقوساً غير مجدية، كما هو شأن التراتبية الكنسية وعصمة البابا والمجامع. وبالنهاية أنكر الطابع المميز لخيار الرهبنة، وعلى مستوى عملي، عدّ نموذج الحياة المسيحية متمثّلًا في العائلة لا في التقشف. والواقع أن هذه المفاهيم كافة تتناسق مع تجربته الشخصية، حيث تزوج الراهبة كاثرين دي بورا، التي أنجبت له ستة أبناء. خلال عام 1522، دخل لوثر إلى فيتنبيرغ بعد أن سرى أمر الإصلاح. حينها غادر كهانٌ الأديرة، وقبِل أمراء بالإصلاح، إضافة إلى أن آخرين باتت تفصلهم مسافة عن البابوية... فقد اتخذ الإصلاح طابعاً سياسياً، دفع بالعديد من الأمراء والمزارعين إلى اتخاذ مواقف متباينة من المسألة الدينية. وبالمحصلة فاق التلاميذُ معلّمَهم، فقد أبرز توماس مونتزر (1489-1525) وأولريخ زوينغلي (1484-1531) وأندريا كارلوستادت (1497-1560) تجذّر الحركة وتحالفوا مع الأمراء ضد الفلاحين الثائرين، ممن رفضوا ربط الإصلاح بالثورات الاجتماعية. تبينت لِلُوثر ضرورة العمل على الجانب التنظيمي في الإصلاح. فغيّر مسار رسالته بالإلحاح على أن «اللوثرية» هي دين الشعب، الحائز مبادئ ومؤسسات كنسية. خلال عام 1529، كتب رسالتي كاتيكيزم وأرسى شعائر مستجدة. وفي العام اللاحق، أجاز «اعتراف أوغسبورغ» الذي صاغه فيليب ميلانكتون، مؤكدًا فيه الإيمان المسيحي. بقي لوثر حتى مماته في فيتنبيرغ، المدينة التي صارت «الوجه الآخر لروما» بالنسبة إلى أتباعه، وهي التي وضع فيها أسس عمله الرعوي، وكتب فيها ترانيمه الدينية، التي باتت بالنسبة إليه التعبير الأثير عن الكلمة. متفرقات في عيشه مع تقدّم لوثر في السن، وتوالي الخيبات، جراء ما ألمّ بالإصلاح من أحداث وأزمات، بدا أكثر سخطاً على البابا واليهود والشيطان. دوّن ملاحظات عدة، وهي في مجملها خواطر جمعها مقرَّبون منه (أكثر من 7000 خاطرة منذ عام 1529). كان الراعي لوثر الذي يودّ جلب مختلف الناس إلى طاولته، يمزح مزاحاً لاذعاً ليثير سامعيه، كما كان يحبّ الخمرة المعتقة ويهوى حياة الدعة. لقد عمل أيضاً على توشيح مكتب عمله برسوم كاريكاتورية مرسومة على الخشب تصور البابا على هيئة «المسيح الدجال»، يركب خنزيراً أو محمولًا على ظهر شيطان. ذلك الشيطان الذي يؤكد لوثر أنه جاء في زيارة ليؤكد له تفانيه في ما يفعل. لوثر صاحب الطّبع المركَّب، لم يغير مسلكه، ولم يتملّص مما اقترفه، بل كان مستجيباً لانتظارات جموع من المسيحيين، في خلق لغة لاهوتية جديدة، فقد كان وثيق الصلة بالتطورات الفكرية والدينية في الغرب. وعلى الرغم من أنه كان معاصراً للإنسانوية، إلا أنه رفض الانتماء إلى تلك الفلسفة. وعلى الرغم من عودته إلى الأصول، لمعانقة جوهر الإيمان، بحثاً عن حقيقة متعالية، كان دائماً على يقين بأن الإنسان هو مربط الفرس في أي تأمّل جادّ. آن- سيسيل هيبرال* ترجمة - عزالدين عناية * كاتبة فرنسية آخر المُصلحين لم يكن مارتن لوثر كمفكر سياسي أو فلسفي أول مَن امتلك أفكاراً عصرية، لكنه كان آخِر مُصلِح ديني شهدته العصور الوسطى؛ لأن الإصلاحات التي أجراها نجحت، بينما عجز الآخَرون عن تغيير الموقف العام داخل أوروبا. فلولا قيام حركة الإصلاح لظل لوثر مجرد ناقد آخَر عاثر الحظ، وربما كان سيُعدَم شأن غيره من المصلحين المخلصين. ففي مدينة فورمس، يخلّد نصبه التذكاري، كذلك ذكرى أربعة مصلحين سابقين له ويقف نصب لوثر منتصباً في المنتصف بما أنه الوحيد الذي صمد في وجه الحرمان من الكنيسة وخطر الإعدام، ليصبح بطلاً في أعين من شيَّدوا النصب. المضمون السياسي والاجتماعي للإصلاح تسبب في معارضته
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©