السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الماضي يحكم عقول الأوروبيين

الماضي يحكم عقول الأوروبيين
6 نوفمبر 2013 19:18
لم تتخذ العلاقة بين الغرب والشرق في القرون الوسطى مساراً واحداً بل ظلت أسيرة مسارات متباينة، تعكس اختلافاً واضحاً في القيم والأخلاقيات التي شكل الشرق منبعها، لكن صورة الشرق التي طالما قدَّمه فيها الاستشراق الأوروبي ظلت تعكس في خلفياتها موقف المستشرقين الغربيين منه، ونظرتهم إليه باعتباره الآخر المختلف وأرض الجهل والتعصب والأساطير والجنس من دون أن تتطور تلك الرؤية كثيراً نظراً لأنها تلبي حاجة الإنسان الغربي للآخر المختلف لكي يشعر بالاختلاف. الباحث جون .م. غانم في كتابه “الاستشراق والقرون الوسطى”، (ترجمة عبلة عودة)، من إصدارات مشروع كلمة للترجمة، التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، يعيد قراءة صورة الشرق على نحو مغاير لتلك الصورة النمطية للاستشراق الغربي، في محاولة منه لإنصاف هذا العالم بصورة يتبدل معها مفهوم الاستشراق، ويعاد تعريفه من جديد. يتخذ الدارس من رسالة القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي محرر القدس إلى القائد الصليبي منطلقاً للتمييز بين السلوك الدموي المتطرف لقواد الحملة الصليبية على الشرق، وموقف هذا البطل الدال على التسامح والعفو عند المقدرة. نحو فهم مغاير يكشف جون غانم في مقدمة الكتاب خلفيات البحث ودوافعه المتمثلة في تصحيح الكثير من الأفكار السائدة في أوروبا عن القرون الوسطى، والتي تجذرت في الوعي الأوروبي في أواخر تلك الحقبة، عندما بدأ الغرب يخطو نحو الحداثة، وكأن تلك الحقبة تخص بلاداً مختلفة. لا ينفي حقيقة تلك المقولة التي يرى أنها صحيحة بالنسبة إلى جوانب الماضي الأوروبي، لكنه يفند من خلال تتبع التعبيرات والمصطلحات المعبرة عن الهوية الهجينة للغرب والعلاقة الوثيقة بين الاستشراق والنزعة القروسطية تلك الآراء التي ترى في تلك القرون نتيجة للتأثيرات الأجنبية التي تدخلت في تغيير مسار التاريخ. وعلى خلاف ما يدعيه الغرب من أن الحاضر هو نقطة الانطلاق نحو المستقبل، فإنه يؤكد أن الماضي ما زال يسكن عقول الأوروبيين، ويتجلى تأثيره في الجهود الحثيثة لإقامة الحاضر، لأن أهمية العلاقة مع الماضي وتذكره تكمن في زيادة الوعي الأوروبي بالذات. في ضوء هذا الإدراك يحدد الدارس هدف بحثه المتمثل في توضيح مسألة مهمة تتعلق بفكرة القرون الوسطى التي تطورت من سياقها الابتدائي في الوعي التاريخي للغرب الأوروبي، باعتبارها جزءاً من أزمة الهوية، وتعكس شعوراً عميقاً بالغرب تجاه ماهية الغرب، وما يجب أن يكون عليه. الدارس يعترف منذ البداية بصعوبة البحث في تلك الحقبة بوصفها أرضاً خصبة للعديد من النظريات والأطروحات المختلفة، إضافة إلى تناولها مؤخراً كأحد مكونات الذات المهمة. أولى هذه الصعوبات التي يواجهها الباحث هي الصورة الخيالية التي تمثلها القرون الوسطى بالنسبة للأوروبي العادي، بعد أن روج لها بعض الكتاب، وأضاف إلى صورتها عدداً هائلاً من المعارض التجارية، والمحال التي استخدمت الاسم لأغراض تجارية. الأدب في القرن التاسع عشر رسم صورة مثالية لتلك القرون بوصفها مخرجاً من الواقع الذي كان سائدا آنذاك. في هذه الدعوة يجد الباحث غموضاً سياسياً في استدعاء الماضي على المستويين الأدبي والسياسي، وعلى مناهج التواصل معه، ما يدفع به إلى إظهار عدد من مواضيع الخطاب النقدي الحديث مثل التمييز العرقي والحداثة والمسائل القومية ذات جذور ضاربة في عمق القرون الوسطى، الأمر الذي يقوده إلى جعل اهتمامه ينصب على كشف النقاب عن القوالب والنماذج التي صاغها مبجلو ولاعنو تلك القرون على حد سواء، ذلك لأن الأوروبيين نظروا إلى تلك القرون على أنها تضم الـ”نحن” والآخر، الوحدة والفوضى والمثال الأنثوي المفرط وشبيهه الذكوري أيضاً. موقف الأدب الرومانسي الازدواجية في موقف أصحاب النزعة القروسطية تمثلت في الأدب الرومانسي الذي اعتبره الكثيرون من مؤيديه سجلاً للتاريخ الوطني الأوروبي، وفي الآن ذاته أعلنوا عن اعتزازهم بأصوله غير الغربية. الباحث يرد هذا التناقض إلى الآخرية بشقيها الداخلي والخارجي، فهي آخرية الماضي الهمجي لأوروبا وبالوقت نفسه هي آخرية الخارج الذي يمثله نموذج الأدب الشرقي. تراث القرن الثامن عشر بالنسبة له يعد مثالاً غنياً على الانجذاب نحو سحر الشرق والتأثير العجائبي للعالم البدائي، وبذلك كانت العلاقة بين الرومانسية والقروسطية والاستشراق واضحة وعميقة حتى أنها اتخذت طابع الذوق الخاص في الأدب والمعمار. هذه الرؤية الجديدة ساهمت إلى حد بعيد في تغيير الخطاب القروسطي بصورة كبيرة، انطلاقاً من رؤية الشرق كمصدر لموهبة الخيال والسجل الأول للأصول التاريخية. ويربط غانم بين الرومانسية والأسطورة، الأمر الذي يجعل مفهوم ارتباط الاستشراق بالقرون الوسطى، والذي أقحم على الرومانسية لايزال قائماً في الأدب الحديث، بل ثمة جدل حول علاقة الأسطورة بالتاريخ، والأسطورة بالأسطورة، وهذا الجدل لم يخل من محاولات تسييس الأساطير والطقوس والفلكوريات في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، وهو ما جعل الدراسات الأسطورية والأنثربولوجية والفلكلورية تنتعش بعد الحرب العالمية الثانية في إثر حملة تطهير واسعة طالت الدراسات النقدية، وتمثل دراسة نورثروب فراي أهم الدراسات في هذا المجال الذي تناول فيه طبيعة الأدب الرومانسي في القرن العشرين. الشرق الأبيض في هذا الفصل يتناول الباحث منحى خاصاً في الخطاب القروسطي المرتبط بالشرق، وذلك من خلال نظريات الأصول الشرقية في الكتابات القروسطية ذاتها، وقد توسعت دراسات القرون الوسطى مع نهاية القرن التاسع عشر، بالتزامن مع تطور الأنثربولوجيا التي أخذت تهتم اهتماماً خاصاً بما كان يعد ثقافة المجتمعات وطقوسها البدائية، ولذلك يركز البحث على طريقة إعادة تعريف مفهوم القرون الوسطى مع صعود الدراسات الأنثربولوجية التي ارتبطت بأفكار نيتشة وداروين المتعلقة بالأعراف والتطور، وكانت الدراسات الآثارية والرومانسية في القرن الثامن عشر، إلى جانب المعرفة المباشرة بالثقافة الشرقية في تغيير الأفكار السلبية المتعلقة بالقرون الوسطى والشرق. وعلى الرغم من أن الرومانسية ساوت بين القرون الوسطى والشرق إلا أنهما بقيا يسيران في خطين متوازيين باستثناء الهوية التاريخية الألمانية التي رأت في تلك القرون تعبيراً عن التطور الذي بدأ في الشرق. ويكشف الباحث أنه على الرغم من المكانة المرموقة للأصول الشرقية في تاريخ الرومانسية فإن الخطاب الجديد في القرن التاسع عشر ذهب باتجاه تعزيز التفوق الغربي بعد أن أصبح الغرب من وجهة نظرهم هو الوريث الحقيقي للغة السنسكريتية والحضارات القديمة عموماً. إن المشكلة الرئيسية التي واجهتها الدراسات الغربية كما يرى الباحث ذلك تكمن في الجدل المعقد الذي ظل يدور حول طبيعة القرون الوسطى، وإذا ما كانت تمثل استمراراً لتطور الثقافة الغربية أو أنها مرحلة قطيعة معها، وفيما إذا كانت تلك القرون أهلية ومحلية ممثلة نقطة البداية للأمة الحديثة أم أنها غربية وأجنبية ومفروضة من قبل قوى خارجية. لكنْ علماء الأنثربولوجيا والمؤرخون كشفوا في السنوات الأخيرة عن تأثير الإمبراطوريات وتراجعها في الداخل والخارج.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©