الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دقة ملك الموت

دقة ملك الموت
20 نوفمبر 2014 00:00
ولد كوتارو إيساكا عام 1971 في محافظة ‹تشيبا› المجاورة لطوكيو، وتخرج في كلية الحقوق في جامعة توهوكو في شمال شرق اليابان. أصدر كوتارو إيساكا حتى الآن العديد من الروايات والقصص القصيرة والمقالات منذ أن نشر أول رواية له في عام 2000 وهي رواية بوليسية باسم «صلاة أودوبون»، وحصل بها على جائزة دار نشر شينتشو لروايات الألغاز المثيرة. وبعد ذلك حصل على سبع جوائز أدبية رفيعة ورشح أكثر من مرة لجائزة ناوكي الأدبية أشهر جوائز اليابان في الأدب. عمله هذا «دقة ملك الموت»، غريب في موضوعه، متفرد في طريقة طرحه، ويحمل عمقا فلسفيا وأدبيا. العمل اسمه عبارة عن ست قصص منفصلة متصلة في ذات الوقت، نشرها الكاتب لأول مرة على فترات متباعدة نسبيا، من ديسمبر 2003 إلى أبريل 2005 في جرائد ومجلات أدبية متفرقة.. ثم نشرت معا في كتاب لأول مرة في يونيو 2005 عن دار نشر «بونغيه شونشو» باسم «دِقة ملك الموت». كوتارو إيساكا ترجمة - ميسرة عفيفي(1) منذ زمن بعيد قال لي حلاق: «أنا ليس لدي أدنى اهتمام بالشعر». وأضاف: «إن عملي أن أقص شعر الزبائن بالمقص، من وقت فتح المحل صباحا وحتى إغلاقه مساءً بلا راحة، أظل أعمل فيه المقص يمينا ويسارا. بالطبع أستمتع قليلا بمنظر الزبون وقد تهذب شعره وأصبح رأسه منعشا، ولكن في الواقع أنا لا أحب الشعر». ذلك الرجل بعدها بخمسة أيام قُتل بيد شرير عارض في طريق مظلمة، ولكنه بالطبع، وقتها، لم يكن عنده أي توقع بأنه سيموت، وكان صوته يفيض بالمتعة والحيوية. عندما رددت عليه بسؤال: «إذن لماذا تحلق الشعر؟»  أجاب وهو يخلط كلامه بابتسامة مريرة: «لأنه عملي». هذا هو بالضبط ما يتطابق مع أفكاري، وإذا تكلمت بمبالغة، هذا هو ما يتطابق مع فلسفتي. فأنا ليس لدى أدنى اهتمام بموت البشر. حتى لو كان هجوما على رئيس دولة شاب يسير في سيارته بالموكب الرئاسي بسرعة 11 ميلا في الساعة، أو موت فتى صغير من بلدة ما مع كلبه المحبوب متجمدا من البرد أمام لوحة من لوحات بيتر روبنس، فلا علاقة لي بذلك ولا أتأثر به. بالمناسبة الحلاق سالف الذكر أسرّ لي بالقول: «أنا أخاف من الموت». إزاء ذلك سألته: «وهل تذكر ما كنت عليه قبل أن تولد؟ هل كنت تتألم أو تخاف في مرحلة ما قبل الميلاد؟» «لا مطلقا». «إذن فالموت هو حدوث ذلك الأمر. هو فقط مجرد العودة لحالة ما قبل الميلاد. لا يوجد خوف ولا ألم». موت الإنسان لا معنى له ولا قيمة. بمعنى أننا لو فكرنا بطريقة عكسية، يصبح قيمة موت أي شخص متساوية مع الآخرين. لا علاقة لذلك بمن يموت أو متى يموت. ولكن رغم ذلك فأنا خرجت للعمل هذا اليوم خصيصا لتحديد وفحص حالة موت شخص ما. لماذا؟ لأنه عملي. بالضبط كما قال الحلاق. كنت أقف أمام بناية. في مكان يبعد حوالي مئة متر عن محطة لمترو أنفاق، مبنى مكاتب لشركة تصنع أجهزة كهربائية مكون من عشرين طابقا فوق الأرض. الواجهة كلها تبدو وكأنها نوافذ زجاجية، تعكس جسر المشاة المواجه لها ودرج الطوارئ في المبنى المقابل. أقف بجوار المدخل الرئيس ممسكا بمظلة المطر بعد أن قمت بثنيها. السحب التي فوق رأسي شديدة السواد، ولها انتفاخات تذكرك بالعضلات المفتولة. الأمطار تهطل، ليس بقوة وعنف، ولكن مقابل ذلك تشعرك أن لها لزوجة الاستمرار في الهطول إلى الأبد بدون توقف. لم أحظ في وقت عملي بطقس مشمس قط. كنت مقتنعا أنه بما أن عملي هو «التعامل مع الموت»، فإنه يستلزم طقسا سيئا، لكن عندما سألت زملاء العمل، بدا أن الأمر ليس كذلك دائما، وعلمت مؤخرا أن الأمر لا يزيد عن كونه مجرد مصادفة. عندما أقول إنني لم يسبق لي أن رأيت جوا صحوا مشمسا، فحتى زملائي يوجهون لي نظرة تكذيب، وبالطبع كان ذلك نفس ردة فعل البشر أيضا، ولكن لأنها الحقيقة فليس لي حيلة. أنظر إلى الساعة. ثلاث دقائق بعد السادسة مساء. في اللحظة التي فكرت فيها أنه طبقا للجدول الذي تسلمته من قسم المعلومات، فهي على وشك الظهور أمامي، عندها بالضبط خرجتْ من الباب الآلي، فاتبعت أثرها. منظر المرأة وهي تسير ممسكة بمظلة بلاستيكية شفافة اللون، ليس فيه أية إثارة. قامتها طويلة نوعا ما، ولا يبدو أن بجسدها شحوما زائدة، هذا هو كل ما يمكن أن يُمدح فيها. ولأن بها حدبا صغيرا في ظهرها وانفراجا بين الساقين، وتسير مطأطأة الرأس فهي تبدو أكبر كثيرا من سن 22 سنة، سنها الحقيقي. وربطها لشعرها الأسود الفاحم في ربطة واحدة خلفية يجعلها ذات انطباع كئيب، والأكثر من ذلك أن أثر الإجهاد يلتصق بها من جبهتها وحتى عنقها، ربما بسبب الإحساس بتعب العمل أو بسبب الإحساس بمأساة ما. وظهورها وكأنها ملفوفة في لون رمادي بليد ليس سببه ابتلال أرضية الطريق بماء الأمطار فقط. وليس معنى ذلك أنها لو وضعت مساحيق وجه، لأصبح شكلها أفضل، وعلى كل يبدو أنه ليس لديها النية أصلا لتزيين نفسها، والبذلة التي ترتديها بينها وبين الماركات الشهيرة مسافات بعيدة. تقدمتُ بخطوات واسعة واقتربت من ظهرها. من المفترض أنه بعد حوالي عشرين مترا يوجد مدخل محطة قطار الأنفاق، ويفضل أن أحتك بها هناك. هكذا صدرت لي التعليمات. أريد أن أنهي الأمر سريعا، هذا هو ما أفكر فيه في كل مرة. فعل ما يجب عليّ فعله فقط، وعدم فعل أي شيء زائد عنه. لأنه مجرد عمل. (2) قبل درجات محطة قطار الأنفاق الهابطة، وعندما وضعت قدمي في الجزء المسقوف من المدخل، قمت بثني المظلة. ولكن قبل ثنيها هززتها مرتين أو ثلاث مرات، فتطايرت قطرات الماء. وتطايرت كذلك قطعة من الطين كان ملتصقة بها فجاءت على ظهرها وهي تقف أمامي. رفعت صوتي بقول: «آه». كانت القطرات أكبر مما كنت أتوقعه. نظرت الفتاة للخلف في حذر وريبة». «آسف. لقد تطاير الطين.» انحنيت برأسي لها. لوت عنقها وجذبت بعشوائية البذلة التي ترتديها ونظرت إلى الجزء الذي اتسخ بالطين. وعندما تأكدت من وجود بقعة طين بحجم قطعة نقود معدنية من فئة الخمسة ينات، فوق قماش البذلة ذي اللون القمحي، وجهت نظرها لي ثانية بعيون مرتابة. يبدو عليها الغضب، لا بل لها الحق في أن تغضب بالطبع، ولكن بدت حيرتها أكبر من غضبها. ولأنها كانت على وشك النزول من المدخل بهذا الشكل دون قول أو فعل، أسرعت بالوقوف أمامها لمنعها. « أرجوك انتظري. سأدفع لكي أجرة التنظيف.» عرضت عليها ذلك. من المفترض أن شكلي البشري هذه المرة جذاب للفتيات في عمر الشباب ولكن لم أتأكد من ذلك بالتفصيل. فأنا شاب في النصف الأول من عشرينيات العمر، أصلح أن أكون عارضا في مجلة أزياء، هكذا شرح لي قسم المعلومات شكلي. فهم في كل عملية دراسة حالة، يختارون أفضل النماذج البشرية تيسيرا للمهمة ويحددون لنا العمر والمظهر الخارجي. ولذا فمن الصعب التفكير أن شكلي قد أعطاها إحساسا قميئا، ولكن يبدو أن حديثي المفاجئ عن المال كان سببا في أن يثير لديها الشك والريبة. قالت شيئا ما. استطعت أن أحدد أن محتوى ما قالت من نوعية (لا داعي لذلك أو لا تهتم بذلك)، ولكن لأن صوتها كان في منتهى الانخفاض لم أستطع سماعه وفهمه. «انتظري» بدون وعي كنت على وشك مسكها من كتفها في ردة فعل لا شعورية. ولكني سحبت يدي بسرعة. لقد نسيت أن أرتدي قفاز اليد. فالقاعدة لدينا أنه ممنوع لمس جسد البشر بيد عارية مباشرة. فمجرد لمسه سيفقد الوعي ويكون الوضع مسببا لمشاكل عدة، ولذا باستثناء حالات الطوارئ الضرورية، ممنوع ذلك علينا منعا باتا. تلك هي اللوائح. ومن يخالفها، يعاقب بالعمل البدني الشاق لمدة معينة ويُجبر على حضور محاضرات لمناهج تعليمية وتدريب. ولأن مخالفة اللوائح التفصيلية تلك، مثلها مثل ما يفعله البشر من ألقاء أعقاب السجائر في الطريق أو كسر إشارة المرور، فلا يجب التشدد عليها بتلك الصرامة والتعنت، هذا إحساسي أنا ولكن لا أصرح بذلك في العلن. فأنا أعتقد أنه حتى ولو كنت تشعر بمقاومة داخلية تجاها، لكن في النهاية يجب إطاعة اللوائح الملزمة. قلت لها: «لا يمكن أن أترك الأمر هكذا وأنا قد تسببت في اتساخ تلك البذلة التي تبدو غالية الثمن». أخيرا أخرجت الفتاة صوتا يمكن التقاطه وسماع محتواه. «تبدو غالية الثمن؟ هل تسخر مني؟ القطعتين معا بسعر عشرة آلاف ين فقط». «لا تبدو رخيصة لهذه الدرجة». كانت البذلة في الواقع تبدو رخيصة بشكل كاف جدا. «إذن فالأمر هكذا يزداد سوءا، فمن الصعب الحصول على بذلة جيدة بهذا السعر الرخيص. أليس كذلك؟». «لا تشغل بالك بهذه البقعة». أخرجت الفتاة صوتا كئيبا. «فلن يختلف الأمر حاليا لو التصقت بها بقعة وبقعتان». {بالضبط فحياتك كلها لن تتغير كثيرا بوجود بقعة طين بها. وكذلك بعد أسبوع ستنتهي حياتك نفسها}.. هكذا فكرتُ ولكن لساني لم ينطق بذلك. «لا مطلقا. حسنا ما رأيك فيما يلي. بديلا عن الاعتذار هل تسمحي لي أن أدعوك على وجبة العشاء؟» «ماذا؟» وجه الفتاة كما لو أنها سمعت حوارا لم يقع على سمعها من قبل قط. «أعرف مطعما جيدا. ولا أستطيع دخوله بمفردي لو جئتِ معي ستسدين لي جميلا». نظرت إلي الفتاة شزرا. إن البشر في الواقع يرتابون بشدة في الآخرين. يخافون للغاية من التورط في عمل غبي بمفردهم، ورغم ذلك من السهل جدا التغرير بهم، ولا يمكن فعل شيء لإنقاذهم على الإطلاق. بالطبع لا يوجد أي نية لديّ لإنقاذهم. «أين يختبئ الآخرون؟» قالت الفتاة ذلك بطريقة حادة في الحديث. «ماذا؟» «أين يختبئون؟ ألا يهزأ الجميع مني لكونك تغازلني بهذه الطريقة؟ ثم تستمتعون برد فعلي، أليس كذلك؟» كان انطباعي أنها تتلو تعاويذ بوذية أكثر من أنها تتحدث. «مغازلة؟» شعوري وكأني أُخذت على حين غرة. «أعرف أن مظهري الخارجي ليس مثيرا، ولكني لا أسبب إزعاجا لأحد، فأرجوك دعني وشأني». تحاول الفتاة السير للأمام. وعندها وبحركة عفوية متهورة أمسكتُ كتفها بيدي العارية. وعندما فكرت في خطر ذلك كان الوقت قد فات، نظرت الفتاة بوجهها فقط نحوي، ثم وكأنها قد رأت ملك الموت، لا هي بالفعل قد رأته، ولكن على أي حال فقد ازرق لون وجهها وقدانسحبت الدماء منه تماما، وجلست في مكانها ذلك فاقدة كل قوة لديها. مهما كان الندم فلقد فات وقته. أتمنى فقط ألا يكون أحد الزملاء قد شاهد ذلك. أخرجت القفاز من جيبي ولبسته في كفي الاثنين، وحملت تلك التي جلست على أرضية الطريق، وجعلتها تقف. تشابه يحظى كوتارو إيساكا بإعجاب النقاد الشديد ويحصل على متابعة القراء، وتتصدر أعماله قوائم المبيعات في اليابان. يرشح كثير من النقاد كوتارو إيساكا ليكون خليفة هاروكي موراكامي في المكانة الأدبية والانتشار العالمي لتشابه أسلوبهما الأدبي والبناء الدرامي للعمل الفني، ولا ينفي إيساكا إعجابه الشديد بموراكامي ولكنه ينفي أن يكون متأثراً به بشكل مباشر، ويؤكد أنه لا يحاول تقليده أبداً، لافتاً إلى أن أسلوبه في الكتابة يختلف عن موراكامي كثيراً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©