الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كلمات ساخرة كأنها الرصاص

كلمات ساخرة كأنها الرصاص
19 نوفمبر 2014 23:55
رضاب نهارإذا ذكرت القصة العربية القصيرة يأتي في طليعة كتابها القاص السوري العربي زكريا تامر.. ليس فقط لأنه أحد أعلامها البارزين، وواحد من المخلصين لهذا الفن، وإنما لأنه ذهب بها إلى شوط بعيد على مستوى الحساسية الفنية والجماليات الإبداعية المختلفة.. بل إن قصته «النمور في اليوم العاشر» لا تزال قابلة لأن تكون نموذجاً مثالياً على الطريقة التي يجري بها أحياناً تطويع البشر، بالخوف وسياسية الإخضاع البطيء. ولد زكريا تامر عام 1931 في دمشق، التي ظلت حاراتها القديمة، رغم انتقاله للعيش في بريطانيا، المكان الحاضن لشخصياته المترنحة دوماً بين الواقع والخيال. فحاكت قصصه حياة الإنسان العربي في مواجهته لظروف المجتمعات التي يعيش فيها. شغل العديد من المناصب ضمن القطاع الثقافي داخل سوريا وخارجها، وكتب الكثير من المقالات في صحف ومجلات عربية، وشكّلت مجموعاته القصصية مادةً دسمة للنقاد والباحثين المتخصصين. حصل على جوائز مهمة، تقديراً لإبداعه طيلة السنوات الماضية، منها جائزة العويس للقصة عام 2002. ومن مؤلفاته: «دمشق الحرائق»، «ربيع في الرماد»، و«صهيل الجواد الأبيض»، و«الحصرم»... هنا مجموعة مختارة من مجموعاته القصصية: «ربيع في الرماد»، «النمور في اليوم العاشر» و«الرعد». في اليوم العاشر اختفى المروّض وتلاميذه والنمر والقفص، فصار النمر مواطناً، والقفص مدينة. *** فتّش كما تشاء يا سيدي الشرطي، فامرأتي ليست مطبعة تطبع المنشورات السياسية الهدامة، وضحكتها ليست مؤامرة استعمارية، ولا يمكن أن تفسر على أنها نقد مباشر لنظام الحكم، خاصة وأني قبل أن أحبها، سألتها عن رأيها بنظام الحكم السائد حالياً في البلاد، فأجابت فوراً بأنها تحبه حباً جماً، وعندئذٍ فقط سمحت لقلبي بأن يعشق تلك المواطنة الواعية. *** في تلك اللحظة كانت الأرض الجرداء والأرض الخضراء، لهما سماء واحدة مصنوعة من قضبان فولاذية. *** (...) وتلقفه صمت الشارع الذي كان آنئذٍ خاوياً، فعندما يشارف الليل على الانتصاف، تستسلم المدينة للسبات، فتطفأ أنوار النوافذ، وتقفر الطرقات، وتمسي ملكاً للمتسكعين والمقامرين والسكارى العائدين إلى منازلهم بخطى متعبة. ... (...) واستسلم أحمد للسبات رويداً رويداً، بينما كان يتناهى إليه من بعيد صوت السكران الخشن الذي يجد فيه عذوبة عجيبة. وشاهد في أثناء نومه الصيف، وكان طفلاً ذهبي الشعر والوجه، يلعب على شاطئ رملي. *** دفع عمر السعدي أخيراً إلى زنزانة، وعندما أغلق بابها خلفه تطلع عمر السعدي فيما حوله، فألفى نفسه وحيداً، ولم يكن للزنزانة أي نافذة. وكان ثمة نور قليل ينبعث من مصباح كهربائي متدلٍ من سلك حديدي قصير مثبت في السقف، وكان هناك أيضاً فراش ملقى على الأرض كجثة هامدة، فتمدد عمر فوقه، وأخفى وجهه في الوسادة، فدهمت أنفه في الحال رائحة غريبة، وخيّل إليه أنها رائحة مخلوقات ستهلك عما قريب. *** ظفرت اللغة العربية بأرفع وسام في الوطن لمساهمتها في تحويل هزيمة إلى نصر، فهي أسمت الحرب انسحاباً، وأسمت الانسحاب صموداً، وأسمت الصمود بطولة، وأسمت البطولة نصراً، ولقد انتصرنا على الأعداء، وسننتصر قريباً على طابورهم الخامس الذي يتجاهل وحدة الطاقات القتالية للغة العربية. *** وراقبت بعينين مفتوحتين مفعمتين بالكراهية والشفقة دمي الذي كان ينزف رويداً رويداً ليتركني بارداً فارغ الشرايين. *** نفخ الشرطي في صفارته، فبزغت تواً شمس الصباح وأضاءت شوارع المدينة بنور أصفر كخشب مشنقة عجوز. وعندئذٍ أفاق الناس من نومهم آسفين عابسي الوجوه. *** الحمد لله الذي خلقنا رجالاً نركض ساعة الخطر إلى أمام كالريح، فننجو ولا نهلك، والحمد الله الذي لم يخلقنا نساء نقعد في البيوت، فتحرقنا قنابل الأعداء، وكأننا الجوارب العتيقة. الحمد لله الذي لا يحمد سواه. *** أغمد رجل نصل مديته حتى المقبض في التراب بحركة متشفية ثم ألصق أذنيه بالأرض وهتف بدهشة: «الأرض تبكي». ثم ألصق أذنه بالأرض ثانية، وصاح بصوت مثقل بالفرح: «لقد ماتت». وحين ألصق أذنه بالأرض مرة ثالثة، لم يسمع سوى أحذية الجنود تصك الأرض برتابة. *** جاع المواطن سليمان القاسم، فأكل جرائد زاخرة بمقالات تمتدح نظام الحكم، وتعدد محاسنه المتجلية في محو الفقر، ولما شبع، شكر الله رازق العباد، وآمن إيماناً عميقاً بما قالته الجرائد. *** (...) وتناول الرجل الأسود أوراقاً بيضاً من على سطح المكتب، وأخذ يقرأ ما كتب فيها: «في الثالث من نيسان في الساعة الحادية عشرة وثلاث دقائق تطلع سليمان الحلبي إلى القمر، وقال لنفسه: «القمر سعيد لأنه لا يعيش في مدينة حاكمها الجنرال كليبر». *** ظلّ جالساً على حافة السرير يحدّق إليها مبهوراً وهي تدنو منه، وتلاقى الفمان مخلوقين جائعين تواقين إلى الفرح. وفي تلك اللحظة أحرقت الأرض ثياب الحداد، وغنى أبناؤها للعشب الأخضر، وانتحر الأعداء، وتحوّلت قنابلهم إلى ورد أحمر. *** (...) وتجسدت في مخيلة يوسف بقايا مدن.. أبنية متهدمة، فهتف بلا صوت: عمري يتبدد.. أريد عمراً آخر بلا أب. *** لم يستطع الطفل أن ينجح في محاولته أن يجابه ضياء الشمس بعينين مفتوحتين، فأحنى رأسه مكتئباً وقال لأمه: «الشمس تكرهني». *** (...) وعندما كان يصغي إلى ضجيج رجاله الشبيه بإعصار غاضب،خيّل إليه أنه يبصر طوفان فولاذٍ مصهور، يجتاح الأرض كلها، وحينئذٍ ابتسم بتشفٍ. وكانت الجنة لا تزال مكاناً جميلاً للغاية مكتظاً بالأشجار الخضر والنساء الجميلات وأنهر العسل والخمر واللبن. *** (...) وخيّل إليه أن صوته الخشن مفعم بعذوبة فائقة، فقال لنفسه بصوتٍ مرتفع: «أنا مطرب». كان أحمد يحب الصيف، ففي الصيف الماضي تزوّج سميرة، ويحلو له على الدوام أن يتخيّل.. الصيف أميراً ذهبي الشعر والوجه، له يدان خشنتان وحانيتان، ما إن تلمسا الحقول حتى تمتلئ بالسنابل الصفر وتولد بهجة شبيهة بسرب عاصفي يحوم عبر السماء الزرقاء. ***(...) وتخيّل المهرج سفينته ذات الأشرعة البيض تمخر البحار، ورجاله يلوحون بسيوفهم ويقهقهون، وحبيبته رندا تمشط شعرها الأسود تحت الشمس، ثم تخيّل سيفاً يهوي على عنقه، ويطيح برأسه الذي سيتدحرج على البلاط اللامع. وحينئذٍ انتحب المهرج كامرأةٍ هرمة، وبللت دموعه وجهه المتجعد. واستولت الدهشة على الأمير ثم أخذ يضحك وقال: «أحسنت يا لك من ممثل قدير»!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©