الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

هرجيسا ·· النهوض من بين الغبار والرماد

12 مارس 2007 02:35
كانت هذه أول مرة أزور فيها جمهورية أرض الصومال التي أعلنت استقلالها من جانب واحد منذ قرابة 17عاماً، ومع ذلك لم يعترف بها المجتمع الدولي، وبالرغم من اتصالاتها التجارية المتواصلة مع بقية العالم، لا يوجد تمثيل سياسي متبادل معها سوى مع الجارة القوية إثيوبيا، ومثله مع بريطانيا والاتحاد الأوروبي''الدائمي التفهم للاحتياجات الإنسانية'' لسكان أرض الصومال، على حد قول مسؤول في العاصمة هرجيسا· وعلى امتداد قرابة السبعة عشر عاماً جرت مياه كثيرة على الساحة، ولكن الحقيقة البارزة فيها بالنسبة للسكان أن ''جمهوريتهم'' وقفت على أقدامها وأصبحت حقيقة، وأن تجربتهم الديمقراطية تترعرع من خلال المؤسسات التشريعية ومؤسسات المجتمع المدني، وللتعرف إلى واقع أرض الصومال كان لا بد من الاقتراب من الأرض ومن الرجل الذي يقف على رأس السلطة فيها، ووصل إليها عبر صناديق الاقتراع· كانت مشاعر عدة تتجاذبني قبل أن تهبط بي تلك الطائرة العجيبة من الطراز السوفيتي المنقرض إلى أرض مطار هرجيسا، الذي يطلق عليه اسم مطار عقال ايضا تكريما لروح محمد ابراهيم عقال أول رئيس منتخب لأرض الصومال-التي اعلنت استقلالها في الشمال من جانب واحد في العام1991- وقد كان صاحب مبادرة في جمع شتات مواطنيه من خلال مؤتمرات مصالحة اسهمت في هذا الاستقرار الكبير الذي تنعم به قياسا بجنوب الصومال الذي كان للمفارقة ايضا هو أخر رئيس وزراء منتخب له· مشاعري مردها ما سمعت عن المدينة ولطف مناخها الذي جعلها عاصمة للاستجمام في شمال الصومال في العهود الخوالي · وما سمعت عن المصير الذي حاق بها بعد الحروب والاقتتال· عندما هبطنا مطار هرجيسا، وجدت في استقبالي مدير اذاعة المدينة الذي اصطحبني إلى غرفة متواضعة الأثاث امضيت فيها بعض الوقت في انتظار إنهاء تأشيرة الدخول التي تتكلف عشرين دولارا أميركيا، وتحويل خمسين دولارا اخر لعملة ارض الصومال التي وجدت مقابلها رزما من الاوراق النقدية· وبعد اتصالات مكثفة بين مدير الإذاعة ووزير الإعلام ومسوؤلي الهجرة والجوازات، جاء الفرج وسمح لي بالدخول، لنغادر المبنى الصغير للمطار ونخترق الشوارع الترابية للمدينة باتجاه مقر اقامتنا· كنا في أول النهار الذي لم ينتصف بعد، والمدينة واهلها في أوج نشاطهم، قبل ان تهجع الحركة مع اقتراب ساعات مقيل'' القات''· نصب تذكاري·· ومقابر جماعية في قلب مدينة هرجيسا عاصمة أرض الصومال يقف نصب تذكاري عبارة عن هيكل طائرة ميج وضع على بناء حجري، يروي قصة مقاتلات نظام سياد بري التي كانت تنطلق من مطار المدينة لقصف اجزاء واسعة من هرجيسا خلال المواجهات التي جرت بين النظام ومقاتلي الحركة الوطنية الصومالية التي تعد أولى الحركات المسلحة ضد النظام· ويتذكر الاهالي بكل مرارة هذه الفترة الدامية من تاريخهم والتي استمرت من عام 1988 وحتى1991 وذهب ضحيتها ما لايقل عن 533الف انسان غالبيتهم من النساء والاطفال الذين كانت لا تميزهم القذائف العشوائية للنظام الذي قامت قواته ايضا خلال انسحابها من شمال الصومال بزرع اكثر من 180 ألف لغم أرضي· وفي صورة من اشد الصور ايلاما زرنا موقعاً في ضواحي المدينة يطلق عليه أسم ''مكادردرو'' حيث كشف فيضان اجتاح المدينة عام 1993عن مقابر جماعية عثر فيها على رفات مئات المفقودين الذين كانوا يحتجزون في مقر قيادة جيش سياد بري ويجري بعد ذلك تصفيتهم جسديا ودفنهم· وكان الموقع زاخر بالهياكل العظمية لبشر لم يستدل على هوياتهم حتى الان بسبب ضعف الامكانيات· وقد قام الاتحاد الاوروبي بتكليف بعض الشركات الاوروبية المتخصصة لأزالة هذه الالغام، وقد نحجت في تطهير مناطق واسعة تقدر بـ70بالمئة من المساحة المزروعة بالالغام، ولا زالت تعمل بعض هذه المنظمات لتطهير بقية المناطق من الالغام التي لم يعثر على الخرائط الخاصة بها في اعقاب انهيار نظام سياد بري· ويعتبر الحديث عن استقلال أرض الصومال من المقدسات غير القابلة للنقاش بالنسبة للسكان هناك، الذين يستذكرون بمرارة تلك الاحداث الدامية وهم يبررون تمسكهم باستقلالهم الذي يقولون انه غير قابل للمساومة· وقد مهدت المؤتمرات التي عقدتها عشائر وقبائل ارض الصومال وغالبيتها من الاسحاق والدارود والجدبورسي في عام 1991للاستقلال وبلورة نظام الحكم، وعززت من خلال مؤتمرات برعو وشيخ وبوراما بالعديد من الخطوات التي كشفت عن نضجا في التناول افتقدت له نظيراتها في جنوب الصومال الذي واصل رحلته نحو الانهيار التام والفوضى الشاملة·وفي هذه المؤتمرات جرى التأكيد على ثلاثة أمور ساهمت في الاستقرار والامن الذي تنعم به أرض الصومال اليوم، وفي المقدمة التمسك باستعادة استقلال الاقليم بعد انهيار الوحدة مع الجنوب، وثانيا العفو عن العناصر الاسحاقية أو من ابناء الاقليم التي كانت تعمل مع نظام سياد بري وذلك منعا للثأر وعمليات الانتقام، وثالثا تأمين الحدود المترامية الاطراف مع اثيوبيا والتي تمتد على مسافة 1900كيلومتر، وحيث تحاذي اربع من محافظات البلاد الست اثيوبيا·وقد اسهم هذا القرار في بلورة صيغة من التعاون الايجابي انعكست آثاره الايجابية على الجانبين· عمران رغم التجاهل الدولي ما يلفت انظار الزائر الى هرجيسا هو حجم البناء الذي يجري ليس من جانب الحكومة او السلطة المحدودة الموارد، وانما من قبل أبناء ارض الصومال المنتشرين في اصقاع الارض· وجلهم يحملون جنسيات دول اوروبية غربية واسكندنافية واميركية وكندية· وقد بداوا هؤلاء رحلة العودة للديار مدفوعين بعاملين رئيسيين اولاهما حجم الاستقرار التي تنعم به اراضيهم والنهج الديمقراطي المتعدد الذي التزمت به البلاد منذ اعلان استقلالها في العام ،1991 والعامل الثاني المخاطر التي بدأوا يشعرون بها من جراء التنشئة الغربية لأبنائهم في المجتمعات الاوروبية والاميركية والاسترالية ،بعيدا عن انتمائهم الاسلامي والعربي والصومالي، وقد ذهلت بينما كنت اتجول في ضواحي المدينة بمستوى الفلل التي تقام وفق احدث المواصفات، مما ساعد على ارتفاع اسعار الاراضي والعقارات· قال لى احد رجال الاعمال المحليين ممن امضوا سنوات طويلة من الاغتراب في منطقتنا الخليجية في ظل الغياب العربي جاءتنا شركات غربية وصينية للاستثمار ، ولعل احدث مشروع سيبدأ العمل بع مع الجانب الصيني هو مشروع مجمع مصنع للاسمنت والجبس لتلبية الاستهلال المحلي وللتصدير والذي من المتوقع ان يوفر فرص عمل لأكثر من اربعة آلاف شخص· ولكن كل من تقابل هنا ما أن يعرف انك عربي، حتى يطرح السؤال المرير، لماذا تأخذوننا بجريرة أهل الجنوب الذين فشلوا على امتداد17عاما على حد ادنى من الاتفاق؟، بينما نحن ننعم بالامن والاستقرار ونبني تجربة ديمقراطية تعددية وننفذ خطط تنموية على قدر امكانياتنا، ومن دون مساعدة من أحد، اللهم بعض المساعدات الغربية من منظمات غير حكومية وبعض برامج الامم المتحدة الانمائية· ويقف مشروع اقامة جسر على مجرى للسيول خير شاهد على ارادة التصميم عند أهل ارض الصومال، اذا رفضوا ان تتعطل حياتهم او تصاب بالشلل لمجرد ان لا احد يريد الاعتراف بدولتهم، فقرروا طرح كلفة مشروع اقامة هذا الجسر الحيوي للتبرع الشعبي امام مواطنيهم المغتربين او داخل البلاد، واعلنوا أن من لا يملك مالا باستطاعته ان يتبرع بجهده او حتى بحجرة تضاف الى بناء الجسر الذي من المقرر ان تبدا شركة اثيوبية في تنفيذ اعماله الانشائية قريبا · وفي الفندق الذي اقمت فيه قابلت تاجرا عربيا للمواشي جاء بحثا عن فرصة استثمارية في هذه البلاد التي تعد اكبر بلاد العرب تصديرا للمواشى، وتضم اكبر قطعان الابل فيها· ولذلك لا تستغرب عندما تجد الكثير من مطاعم المدينة تعلن انها الافضل أو الاكثر تخصصا في لحوم الآبل· هرجيسا·· وهيروشيما ونحن نشق طريقنا وسط الطرقات المزدحمة والمغبرة قال لي مرافقي مدير اذاعة هرجيسا محمد سعيد لو جئت الى هذه المدينة قبل اكثر من عقد من السنين لما صدقت انها هي المدينة اليوم التي تعج حركة ونشاطا، فقد جعلها القصف الجوي والمدفعي يابانا وكانت الصور التي التقطت لها كما لو انها من مدينة هيروشيما بعد القاء القنبلة الذرية عليها· كانت العديد من الابنية لا زالت تحمل آثار ما شهدت المدينة من قصف وقتال، وحال ضعف امكانيات اصحابها من ازالة تلك الاثار أو بناء دور جديدة تواكب المرحلة التي تعيشها هرجيسا اليوم· وبعد الظهر واصلت تجوالي في المدينة، وقد كانت الساعة تقترب من الرابعة والنصف عصرا، حيث كانت البسطات المفروشة على جانبي الطريق تزخر بمختلف انواع السلع والبضائع من مختلف انحاء العالم، وقد كانت الغالبية العظمى من هذه السلع قادمة عن طريق دبي بما في ذلك السيارات المستعملة، ومنها ذات المقود على اليمين وارد اليابان عن طريق دبي ايضا· في جولة بعد الظهر رافقني مسؤول القسم العربي باذاعة هرجيسا وهو شاب صومالي من مواليد الكويت والدته مصرية، نشأ وترعرع في الكويت قبل ان تنتهي به رحلة الايام الى هذا الموقع· قال لي مازن حسن ابراهيم إن غالبية المشتغلات في السوق وخاصة في تجارة صرافات العملات الاجنبية والذهب هن من النساء، وبالفعل شاهدت لأول مرة اسواقا للذهب والعملات في الهواء الطلق، هذه الاسواق التي قال عنها نيكولاس كريستوف مراسل صحيفة نيويورك تايمز انها اسواق نادر ما تجد مثيلا لها في العالم ولا سيما في الغرب حيث ترتع العصابات المسلحة· كانت النسوة اللاتي يقفن خلفن تلك الاموال والذهب المكدس في غاية الهدوء وهن منصرفات الى اعمالهن في أجواء من الثقة والطمائنينة يحسدهن عليها نظراؤهن في مناطق شتى من العالم· غير بعيد من السوق كانت توجد مكتبة تضم الكثير من المطبوعات والكتب العربية، ومن بينها صحف ومجلات إماراتية، عرفت انها تلقي الاقبال لعطش اهل البلاد للثقافة والاصدارات العربية· وتحف بالاسواق المفتوحة العديد من المحلات التجارية وغالبيتها يبيع احدث انواع الهواتف النقالة، كما تجاورها اكشاك للاتصالات مع أي بقعة في العالم الخارجي حيثما يوجد صومالي من الصين شرقا وحتى الساحل الغربي للولايات المتحدة وكندا· وتلبستني الدهشة التي غمرت كريستوف وهو يتحدث عن الاشارة المرورية الوحيدة في الصومال باسره شماله وجنوبه، وسيارات دوريات الشرطة و مقاهي الانترنت ومكاتب شركات عالمية للتوصيل السريع من أمثال دي اتش ال وغيرها· ومفاجآت ارض الصومال تتواصل فهناك مدارس حكومية تعمل وكذلك اخرى خاصة، والشيء ذاته بالنسبة للمرافق الصحية والعيادات الخاصة، وما لا يعرفه الكثيرون ايضا الذين لا ترتبط صورة الصومال في اذهانهم سوى بالحروب والقتل والمجاعة والفقر ان هذه المنطقة تضم جامعات خاصة احداها في العاصمة هرجيسا واخرى في برعو وثالثة في عمود· وتضم هذه البلاد من المناطق السياحية الواعدة التي تبهرك بجمالها الطبيعي وتحمل معها امكانيا سياحية هائلة ولا سيما في مدن عيرجابو وزيلع الميناء الذي يعد بوابة دخول الاسلام الى الصومال· والى جانب هرجيسا العاصمة هناك مدن كبرى أخرى مثل برعو وبوراما وبربرة وعير جابو ولاس عانود· إذاعة هرجيسا ·· ولما كان معظم مرافقي من إذاعة هرجيسا كان لا بد من زيارة الى مقر الاذاعة الذي يمكن ان نقول عنه مجازا مقرا، بالنسبة للقارىء العربي الذي ارتبطت في ذهنه مقار الاذاعة والتلفزيون بالابنية الضخمة والشاهقة التي يقفز اليها الجيش ليسيطر عليها في الانقلابات العسكرية·كان مبنى اذاعة هرجيسا عبارة عن غرف صغيرة متناثرة، يكاد ينعدم أي اثاث اضافي داخلها، بعضها كان عن غرفة استماع لإعداد النشرة، وغرفة اخرى عن استديو للبث المباشر الذي لا يتعدي الساعات الست، وغرفة ثالثة تستخدم كاستديو للتسجيل، وقد كانت هناك غرفة واسعة بعض الشيء تستخدم كقاعة تحرير واجتماع لمحرري صحيفة القرن الأفريقي الأسبوعية، وهي عبارة عن مطبوعة باللغة العربية من بضع صفحات بحجم التابلويد يعتمد طباعتها على ظروف المطبعة الحكومية الوحيدة!·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©