الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«كل يوم».. البناء والتفكيك

«كل يوم».. البناء والتفكيك
25 أكتوبر 2012
من المؤكد أن أي متلق عندما يرى فيلم “كل يوم” للمخرج البريطاني مايكل وينتربوتوم فإنه يفكر أولاً وقبل كل شيء في غرابة تنفيذه وشفافية تناوله للحكاية، حيث يعد هذا من الأفلام التي يتطابق فيها زمن الحكاية مع زمن السرد إذ أن هناك أزماناً عديدة في أبنية الفنون الإبداعية ومنها: 1 - زمن الحكاية. 2 - زمن السرد. 3 - زمن التلقي. زمن حكاية الفيلم الذي عرض في إطار مسابقة الأفلام الروائية في مهرجان أبوظبي السينمائي، يمتد لخمس سنوات، وهي مدة سجن الأب “إيان” والتي انقطع فيها عن أسرته المتكونة من أطفال أربعة وزوجة تعيش في الريف الإنجليزي، وخلال هذه المدة يخرج الأب تسريحاً مشروطاً وموقتاً ثلاث مرات. الغرابة هُنا أن مخرج “كل يوم” وهو الإنجليزي مايكل وينتربوتوم قد نفذ عمله هذا الذي استمر في زمنه السردي 94 دقيقة في مدة 5 سنوات أي أنه تابع تحولات أبطاله الستة (4 أبناء وزوج وزوجة)، طوال تلك المدة وبذلك طابق بين زمن الحكاية وزمن السرد. أما الجانب الآخر والمهم فإن مدة التنفيذ الطويلة تلك تستدعي تجميع مشاهد أسرية متعددة خلال السنوات الخمس لتواكب تحولات الشخوص الجسدية والذهنية وتبدلات الملامح، إذ بدت اللقطات الأولى للشخوص وخاصة الأبناء الأربعة في السنة الأولى لسجن الأب وهم صغار وبدت اللقطات الأخيرة للشخوص وخاصة الأبناء في السنة الخامسة لسجن الأب، وهم كبار قد امتلكوا خصائص وملامح مختلفة. من خلال أعداد كبيرة من اللقطات في 5 سنوات متفرقة استجمع المخرج توم قصة فيلمه أي إذا افترضنا تقسيم اللقطات جميعها فإننا نحصل على ما يقرب من خمس عشرة دقيقة كل عام قد تزيد أو تنقص في أحد الأعوام الخمسة التي سجن فيها الأب، وذلك لضرورات تتبع كثافة الحكاية في أي سنة منها. عنوان غريب الحكاية بملخصها تروي مأساة عائلة إيان الذي هو (الممثل جون سم) السجين بسبب الاتجار بالمخدرات، حيث حكم عليه لمدة خمس سنوات، وما يقابل هذا السجن المؤلم للأب إيان نجد جهود الأم كارين (الممثلة شيرلي هندرسون) في إدارة شؤون الأولاد الأربعة. أطلق المخرج وينتربوتوم على فيلمه عنواناً غريباً وهو “كل يوم”، ويعني هذا العنوان أن الكاميرا كانت تصور هذه الأسرة كل يوم وأن هذه العائلة قد كبرت أمام الكاميرا، وبعد أن خرج الأب من السجن انتهى النص البصري ليبدأ تشذيب هذا العدد الهائل من لقطات الأيام في سنوات تصوير الفيلم الخمس. تتكرر زيارات الأم وأطفالها إلى زوجها السجين إيان، وبدا هذا الشخص أكثر رقة مع أبنائه، حيث يتعامل معهم بشفافية راقية وبفهم عالٍ للتعامل الأبوي، مما جعلنا نقف ـ بوصفنا متلقين ـ إلى جانب عذابات هذا الرجل الذي يسأل أطفاله عن كل شيء مفرح في حياتهم. خلال حركة الفيلم وبعد كل عودة للأب من نهاية زيارات العائلة له ينام على سريره في الزنزانة وينقطع عن حياة السجن في لقطة حلمية “مفتوحة” تصور انفتاح الريف الذي يعيش فيه الآن حلماً بعد أن فقده واقعاً. جدليات تضادية أقول إن أي فيلم لا بد أن يشتغل على جدليات تضادية، وهي المفتوح/ الطبيعة، بما يقابل بالضد المغلق/ السجن، وأيضاً هناك الرغبة بالأنثى زوجته كارين بما يقابل الكبت. وبدت تلك الحركات الحلمية، بعد كل زيارة يحلم الزوج فيها بالريف، هي الفاصل بين المقاطع السردية التصويرية للفيلم، حيث يسلط المخرج وينتربوتوم الكاميرا على وجه إيان فينقله فجأة إلى عالم حر هو الريف الإنجليزي، حيث الاخضرار الممتد في عالم الطبيعة الهادئ، هذه المشاهد المفصلية بدت طبيعية وجاذبة في البدء غير أنها أصبحت متكررة ومتوقعة في منتصف الفيلم. يتكرر هذا المشهد لأكثر من مرّة وكأن المخرج يقابل الحلم بالضد من الواقع وبين هذا اللعب السردي تأتي قضية الافراجات المؤقتة، حيث يعطى الزوج افراجاً أول فيأخذ زوجته “كارين” إلى غرفة في المدينة في جو حميمي. وبعد هذا اللقاء الحميمي يظهر ما هو مطموس في عمق الذات لدى إيان وكارين وكأن اللذة لم تشبع بالتلامس، فيتعاشق الزوجان ثانية في زيارة للزوج من خلال اللغة دون الفعل، حيث تقترب منه وجهاً لوجه لكي يرى مفاتنها وترى هي الرغبة في عينيه فيتوجهان معاً. قراءة نفسية هذه القراءة النفسية الدقيقة التي قدمها المخرج لطبيعة الشخصيتين (الزوج والزوجة) في هذا الفيلم كفيلة بأن تجسد روح الشعرية في النص التصويري، إذ نرى عدم اكتمال اللذة في التقاء الزوجة تماساً إلى اكتمالها لديهما روحاً وحواراً. في اللقاء المشروط الثاني يقترب الزوج من زوجته في بيتهما، حيث بقي ليوم أو أكثر، وما بين هذين اللقاءين تظهر شخصية رجل شاب في حياة الأسرة، وتصبح جزءاً من أسرة بلا أب وتبدو هذه الشخصية الجديدة غير مكتملة وهامشية ولم تؤثر في بنية تماسك الأسرة وأقصد “الأم والأطفال الأربعة”، حتى العلاقة الحميمية بين إيان وكارين ظلّت على عمقها الجسدي المترابط باللذة المفرطة ولم تكسر بفعل وجود هذه الشخصية الطارئة التي لم يظهر أنها استطاعت أن تبني علاقة حميمية مع “كارين” الأم. ويبدو أن ظهور هذه الشخصية في الفيلم جاء لضرورات “التحفيز” بالرغم من أنها شخصية افتراضية تتكرر في الواقع وفي القصة، وبواسطتها انتقل الحدث أو الحكاية إلى المعنى الدرامي/ الصراعي، إذ أن إخفاء وجودها عن الأب يحمل غموضاً وحال أن أفشت الأم علاقتها به لزوجها بعد أن خرج من السجن تفجرت الحالة الدرامية، حيث أصبحت القصة تمتلك “صراعاً”. هذا الصراع وبكل بساطة لا بد له من حلّ عضوي من داخل الحكاية، لذا نرى المخرج بوتوم استجلب حلاً من خارج الواقع، من النص الإنجيلي، حيث جاء في الإنجيل: “المجد للرب في الأعالي وعلى الأرض السلام”. أناشيد دينية كيف حصل ذلك؟ تقدم مدرسة الأطفال أناشيد دينية بمناسبة عيد الشكر المسيحي وتأتي في سياق الأناشيد هذه العبارة “المجد للرب في الأعالي وعلى الأرض السلام”، وهي تعبير دقيق ومتطابق إلى حد كبير مع النص القصصي لهذا الفيلم، حيث يدعو الأبناء المشتركون في ترديد هذا النشيد مع زملائهم إلى أن يأملوا من الرب صفحه عوضاً عن الأم “كارين” لكي يعم السلام فيلتقي الأب “إيان” بأمهم. وهذا ما حصل.. كيف؟ في أيام وجود الشخصية الطارئة على الأسرة كان يقترح عليهم الذهاب إلى البحر وكانوا يذهبون فرحين، إلا الابن الأكبر، فقد كان متذمراً من وجود شخص “رجل” بديل عن أبيه، كان متجهماً يسير خلف أفراد الأسرة حزيناً، عندما يذهبون إلى البحر، ولكن عندما يخرج الأب “إيان” من السجن وبعد أن علم الأطفال باعتراف أمهم “كارين” للأب بأن رجلاً اقترب من الأسرة في غيابه طوال تلك السنين الخمس، بالرغم من أنه لم يقم علاقة حميمية معها، إلا أنه كان يقضي مع العائلة وقته أيام العطل ويأكل على طاولة الأب، بدأوا يدعون الرب لأن يحل السلام الذي أوشك أن يهبط على أرض هذه الأسرة فيتحقق ذلك حين يعدو الأب إيان زوجته وأولاده بالذهاب إلى البحر وهنا يتقدم الابن الأكبر إخوته راكضاً إلى زرقة البحر. الموروث الاغتسالي البحر/ الماء في أغلب الأعمال التي رأيناها، شرقية كانت أو غربية يرمز لدى مخرجي تلك الأعمال إلى التطهير من الآثام، الاغتسال. أدخل المخرج بوتوم فيلمه في عالم ديني واستعارات ميثيولوجية، عند الاستعانة بالنص الإنجيلي وبالموروث الاغتسالي عندما يدخل إيان الأب وكارين الزوجة ليغتسلا في ماء البحر. يبقى من الضرورة أن أشير إلى أن هذا الصراع الدرامي الذي تولد ما قبل نهاية الفيلم قد احتاج إلى حل وهذا ما يفكر فيه أي مخرج غير أن تقديم الحل كان هادئاً في فيلم “كل يوم” لأنه تحصل عليه من الفكر الديني، لا من تمزق العناصر. الواقعية المشكلة للتأزم والصراع، أي بشكل آخر أن الانتهاء من الأزمة بين الأب والأم بعد الاعتراف المسيحي للأم أوجد حلاً مسيحياً من الإنجيل لا من الحكاية نفسها، لهذا أعد هذا الفيلم إنجيلي بامتياز يتلخص في كيفية نظرة الإنجيل للخطائين وكيفية الغفران. إنه نص إنجيلي بحق قدمه مايكل وينتربوتوم الإنجليزي الذي سبق أن قدم “قبلة الفراشة” 1995 وبعدها أخرج 20 فيلماً من بينها “مرحباً في سراييفو” 1997، و”أرض العجائب” 1998، و”محبو الحفلات” 2002، و”الشيفرة 56” في عام 2003، و”أغنيات” 2004، و”توسترام شاندي قصة ديك وثور” 2005، و”قلب جبار” 2007، و”الرحلة” 2010.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©