الأحد 5 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هاويات الجنون الخطرة

هاويات الجنون الخطرة
25 أكتوبر 2012
في ساعتين من البحث الضاري عن مكامن العنف والهشاشة والعشق والخذلان في الطبيعة البشرية، يأخذنا فيلم “خيانة” الروسي الذي عرض ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة بالدورة السادسة من مهرجان أبوظبي السينمائي الدولي، إلى حيّز تضيق فيه العبارة والقول والحوار، لتتسع فيه الرؤية السينمائية إلى أفق لانهائي، وإلى مدى يفوق ويكسر ويتجاوز كل التابوهات والمحرمات الاجتماعية المُتَخيّلة والمتشكّلة في فضاء مجيّر بالكامل للخطيئة الإنسانية، وللشبق الصارخ الملامس لحواف الجنون وهاوياته الخطرة. مخرج الفيلم كيريل سربرينيكوف المتمتع بخبرة ومراس في مجال المسرح، يستفيد هنا من توظيف الشحنة الأدائية العالية لشخصياته الرئيسية كي يقدم لنا ملحمة بصرية متلاطمة وملتبسة حدّ الخديعة والمكر، حول الخيانة الزوجية، انطلاقا من جذرها السيكولوجي الأكثر إبهاما واستعصاء على الفهم والتحليل، وللخروج بنتائج غير حاسمة ومشرعة على التأويل حول هذا النداء الغريزي الغامض الحافل بالأسرار والتفسيرات المغلقة. وسبق لسربرينيكوف تقديم عدة أفلام لافتة خلال العقد الحالي نذكر منها فيلمه الأول: “بلستسين” الذي قدمه في العام 2001 بالتعاون مع كاتب السيناريو الشهير فاسيلي سيغاروف وحاز هذا الفيلم الذي يتناول قضية اغتصاب الأطفال على العديد من الجوائز في روسيا وخارجها، وهو الأمر الذي تكرر مع فيلميه التاليين: “التماهي مع الضحية” في العام 2006، و”يوم يوري” في العام 2008. يشرع فيلم “خيانة” المشارك بالدورة الأخيرة من مهرجان فينيسيا الإيطالي، في نسج المصائد اللزجة لمتاهته الأخلاقية، منذ المشهد الأول الذي نتعرف فيه على طبيبة عامة ـ الممثلة الألمانية فرانشيسكا بيتري ـ وهي تقوم بفحص دوري على قلب أحد المراجعين ـ الممثل ديجان ليليك ـ حيث تفاجؤه الطبيبة بخبر صاعق تشير فيه إلى أن زوجة المراجع تخونه مع زوجها، فتتصاعد دقات قلب الرجل في جهاز القراءة الطبي، وفي لقطة متواصلة نراه وهو يخرج من العيادة حائرا ومذهولا وكأن المشاهد الخارجية المحيطة به باتت ذائبة وغير متعينة، وفي خلفية المشهد الضبابي نرى سيارة مسرعة وهي تصطدم بمجموعة من المشاة عند محطة الحافلات، هذا الخبر الصادم وهذا المشهد المروع سيكونان مؤشرا وبداية لكوارث عاطفية واجتماعية متلاحقة في حياة الشخصيتين الرئيسيتين للفيلم. وستكرر كلمة (القلب) في معظم المشاهد التأسيسية، كناية على أن هذا الجهاز المعقد، وهذه العضلة النابضة وغير المتحكم فيها، هي صنو الطبيعة الإنسانية ذاتها المليئة بشهوات معتمة وعمياء، يصعب ترويضها والتحكم بخياراتها ومساراتها المدمرة، خصوصا وأنها تنطوي على رغبات أشبه بقنابل موقوتة قد تنفجر تحت وطأة الانتقام العكسي، وردات الفعل الهائجة والمتوارية في اللاوعي. يعود الرجل إلى منزله ساهما ومحتشدا بالأفكار الغائمة، ويتواصل بشكل عادي مع زوجته وطفله المراهق والوحيد، وعندما تخبره الزوجة بالمشاكل الدراسية للابن وتغيبه لمدة شهرين عن المدرسة دون عذر، يفجر الرجل غضبه الكبير في عقاب ابنه بشكل شرس ودون أن يستمع لتبريراته، وفي المشهد التالي نرى الأب مستلقيا على السرير وهو ينتحب بصمت، ثم يسترسل مع زوجته الخائنة في علاقة حميمة تحفها الدموع والنشوة، ويحيطها الانكسار الداخلي المناور والباحث عن خلاص مؤقت، حتى لو جاء هذا الخلاص من الشريك الخائن نفسه! في اليوم التالي تقود الطبيبة الرجل إلى الأماكن التي يرتادها شريكاهما الخائنان، وتدله على الفندق الذي يتواعدان فيه، والغرفة التي يشغلانها دائما والتي باتت مكانا لعلاقة سرية آثمة لا تعرف حدودا للذنب والتراجع، وتشرع كاميرا المخرج سربرينيكوف وضمن معالجات غنية اشتهرت بها المدرسة السينمائية الروسية العريقة، في تقصي التوترات النابعة من الشخصية ونقلها إلى الشاشة بهدوء وصبر واسترسال حذر، وهو تكنيك إخراجي يتواءم مع الحيرة الداخلية والعذابات المتوالدة من مشاعر الغيرة المفتتة التي نرى شظاياها وهي منثورة وموزعة على كادرات بصرية مصاغة تماما على قياس الألم العميق والمشتبك بروح خانعة وخرساء. ومن خلال أداء قوي ومؤثر للممثلة الألمانية فرانشيسكا بيتري، الشبيهة هنا بالشخصية الأسطورية في الميثولوجيا الإغريقية (ميدوزا) فإن كل من تقابله هذه الطبية الجميلة والساحرة والغامضة، نراه وقد تحول إلى ذات مشوّهة تدمر نفسها وينتهي بها المطاف إلى الموت وفي أكثر أشكال هذا الموت بشاعة وفضائحية، حيث نراها وهي تحيك خطة جهنمية للتخلص من الزوجين الخائنين، بعد أن تغوي الرجل وتصطاده في شراكها، وينتهي الأمر بالزوجين الخائنين إلى السقوط من شرفة الفندق ميتين وعاريين في الباحة الثلجية البيضاء الشبيهة بكفن جاهز في العراء البارد والكبير والمكشوف، ومن دون أن يكشف لنا الفيلم عن التفاصيل المتعلقة بالجريمة، وبعد إغلاق ملف القضية ودفنها في النسيان، يظل شبح الطبيبة يطارد الرجل، ويستيقظ فجأة ذلك العشق النائم منذ سنوات، عندما يلتقيان صدفة ويكون كلاهما قد ارتبط بحياته العائلية الجديدة، ويبوح لها الرجل بأنه لم يتوقف عن التفكير فيها أبدا، رغم تغير الظروف ورغم الفترة الطويلة التي مرت ولم يلتقيا فيها، وتعود الدائرة النارية للخيانة مرة أخرى في التسارع، كي تشعل لهيبها الشيطاني، وتعيث خرابا في حياة جديدة اعتقد الاثنان أنها دفنت ركام الخطايا والعذابات القديمة. ويلتقي الاثنان مجددا في الفندق ذاته وفي الغرفة ذاتها التي شهدت جريمة القتل، وتعود البؤرة الملوثة في التمركز والهيمنة مجددا على الكادرات البصرية للفيلم، وتتحول ردهات وممرات الفندق الداخلية والخارجية إلى استعارات هيتشكوكية بامتياز، وإلى مناخات مريبة شبيهة بمناخات فيلم: “بريق” للمخرج العبقري ستانلي كوبريك، الذي حوّل أحد الفنادق التاريخية في فيلمه إلى حفلة رعب دموية، لا تخلو من ابتكارات في اللغة السينمائية لم يتطرق لها أحد من قبله، ولكن ما ميز أسلوب فيلم (خيانة) هو اعتماده على توليفات ناعمة وماكرة في ذات الوقت، تترجم قلق الشهوة واحتدام المشاعر المتضاربة والواعية لمصيرها الداكن، وهي مشاعر تسللت إلينا كمشاهدين من خلال هذا التوظيف الذكي للغة بصرية عارفة ومدروسة ومرتبة بدقة وتوازن في الزمن التصاعدي للفيلم. ينتهي الأمر بالرجل مقتولا في الغرفة، بعد أن يكتشف زوج الطبيبة الجديد خيانتها، بينما تنجو الطبيبة مرة أخرى من الانتقام المزدوج، كي تبقى أسطورة ميدوزا حية، كمثال للمرأة التي تحول كل من ينظر إليها إلى حجر، وكمثال على الأنوثة المسمومة التي تورد من يلمسها إلى هلاكه الحتمي، ونرى الطبيبة من خلال كاميرا محمولة ودائخة وهي خارجة من الفندق متعثرة بافكارها ومذهولة، ومختلطة بضجيج الشارع وإيقاع الحياة المتواصل، كي تظل لذة الخيانة ولعنتها منتشرة مثل خيوط غير مرئية لاصطياد ضحايا جدد في عالم يضج بالأزمات النفسية والعاهات السيكولوجية المهيأة لهكذا إغواءات مدمرة، ومزالق خطرة، ومصائر منذورة لأقدارها السوداء عند اتخاذ القرار الخاطئ في الظرف الخاطئ. يذكر بأن بطلة الفيلم الممثلة الألمانية فرانشيسكا بيتري قد فازت بجائزة “اللؤلؤة السوداء”، التي يمنحها مهرجان أبوظبي السينمائي، كأفضل ممثلة عن دورها في الفيلم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©