الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غزل خَلْفَ مطاوي الرمال

غزل خَلْفَ مطاوي الرمال
25 أكتوبر 2012
للشاعرات البيضانيات (في المغرب) طقوس إبداعهن الخاصة، غالباً ما ترتبط بمظاهر حياتهن اليومية وبتجاربهن المتنوعة وعيشهن في رحاب الصحراء الواسعة والممتدة، والتي تشكل مصدراً استلهامياً يستقين منه مواضيعهن وإبداعاتهن. لذلك يظل الإنتاج الشعري عندهن يمثل جنساً أدبياً رئيساً داخل نسيج الثقافة الشعبية الحسَّانية، وإبداعاً كلامياً متفرِّداً إن على المستوى الجمالي الصوتي، أو على مستوى الروافد التي يمتح منها ويستند إليها. من عمق هذا الابداع، يبرز ما يسمَّى “التَّبْرَاعْ” وهو كلام شعري منظوم تبدعه النساء الحسَّانيات تغزُّلاً في الرجال، وذلك في أجواء خاصة تطبعها السرية والكتمان والحرص الشديد على عدم التداول والانتشار نتيجة للحشمة والوقار والرقابة التي تمارسها الطقوس البدوية بالصحراء. التَّبْرَاعْ هو تغزُّل المرأة شعراً في الرجل، والتَّغَزُّل من الغزل وهو لا يغدو أن يكون حديثاً في الهوى، وليس مقصوراً على ما يقوله الرجل في حديث هواه عن المرأة، فهو أيضاً وسيلة المرأة الشاعرة والنساء الشواعر، إذ هي/ هُنَّ أرادت/ أردن التودُّد إلى الرجل والترجمة عن مشاعرها/ مشاعرهن في مثل هذا الضرب من الأحاديث. يُشاع أن أصل التَّبْرَاعْ شعر رجالي في صورة البيت الواحد وزنه الواقدي، وأن أقدم تبريعة هي قول فتاة مغرمة بناقة حبيبها المسمَّاة “البيضاء” التي عادت إلى الحي. والتَّبْرَاعْ كلام منظوم تنشده الفتيات تغزُّلاً في محبيهن بعيداً عن أنظار الرجال داخل مجموعات النساء وفي مجالس معيَّنة. وهذا الكلام المنظوم يتقاطع مع الشعر الشفوي لنساء “البَّشْتُونْ” الأفغانيات المعروف باسم “اللاَّنْدَايْ”، والكلمة تعني حَرفياً “الوجيز” و”المقتضب”، وهو نص شعري مكثف وقصير جداً، يجد هويته الجمالية في فعل الوجَازَة والاقتضاب، اقتصاد الكلمات، والاكتفاء غالباً بسطرين شعريين بدون قَوَافٍ إجبارية دائماً، لكن مع صرامة في التقطيع الداخلي. إنه شعر شعبي شفوي تبدعه النساء البيضانيات بكثير من البساطة اللغوية، ويُعَدُّ نوعاً من الشعر المثنوي الذي يعتمد قافية واحدة في شطريه. ويمكن تقسيمه إلى قديم يجري في شعاب الأودية وعلى الكثبان الرملية وفوق الربى وبجوار المضارب، يمتاز بالحشمة وتطغى عليه الرمزية واللغز، وإلى جديد وظف ما طرأ على الحياة من مواقف وتصرُّفات يمتاز بالوضوح والبساطة ويتضمَّن تعابير معاصرة وقضايا راهنة. ونظراً لاعتبارات جمالية، فإن الكثيرات يفضلن التَّبْرَاعْ القديم، أما الفتيات المعاصرات فيُحبذن الجديد منه. وفي علاقة بالتحوُّلات الاجتماعية والاقتصادية، عَرَفَ التَّبْرَاعْ اتجاهاً عند بعض الشواعر اللائي أصبحن يَتَغَنَّيْنَ برجال بعيدين عن المجتمع الذي ينتمين إليه، كالرؤساء والزعماء السياسيين وأبطال المسلسلات. إنه شطران، وغرض واحد هو الغزل في الرجل من جانب البنات العاشقات، أو اللائي يوهمن الأخريات بأنهن عاشقات لرجل معين تَتَكَالَبُ الفتيات على الإعجاب به. زيادة على ذلك، يُعتبر التَّبْرَاعْ نظم الفتيات المنحدرات من المجموعات المهنية (في الغالب) ويُنْشِدْنَهُ بعيداً عن أنظار الكبار في شعاب الأودية وعلى الكثبان الرملية. هذا النوع من الغزل النسوي تغلب عليه الشكوى من غياب المحبوب واستحالة الوصول إليه، كما تملؤه حرقة الهجران والفقدان ما يجعله يعكس وضعاً وجوديا واجتماعيا عميقا بتجاوز تجربة الحب والعشق، ويمتد لحالات الانفصام الجذري بين الرجل والمرأة الذي يزداد ويتَّسع في ظل رقابة الدين وسلطة الأعراف والتقاليد. مثال: رَبِّ لاَ تَـمَّيْــــــتْ كَلْ انْهَارْ انْدَوْرْ الْ مَ رَيْـتْ وتقول إحداهن معبِّرة عن افتتانها بجمال ابتسامة محبوبها وتَعتبرها آسِرَةً وغاية في الاغراء، وأن إبليس بَنَى خيمته في هذه الابتسامة واستقر بها: عَنْـــدُ تَبْسِيـــمَ بَانـِي فِيـهَ ابْلِيـسْ خْوَيْـمَ وهذه أخرى انشغلت بغياب محبوبها الذي اعتادت على رؤيته بشكل يومي، فراحت تنشد: البَـــارَحْ مَ جــــَانَ وَاللَّيـــــْلَ فِيــــهَ مــُولاَنَ بخلاف أخرى سعدت كثيراً بعودة حبيبها لها: وَمْجِيـــهْ لْبــــَارَحْ فـَرْحُ بِيـهْ اسْبَــعْ اجــْوَارَحْ إلى جانب هذه النماذج التي تجسد قدرة الشواعر البيضانيات على التعبير عن عواطفهن بشكل تطغى عليه الحشمة والرمزية والإلغاز، يبرز نمط آخر جديد من التَّبْرَاعْ يتَّسم بالبساطة والوضوح ويتضمَّن تعابير مستحدثة لها ارتباط مباشر بالتحوُّلات الاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها المجتمع الحسَّاني، لدرجة أن الكثير من الشواعر (لَمْغَنْيَاتْ) أصبحن يتغنَّين (شعراً) برجال بعيدين عن مجتمعهن كالقادة والرؤساء والزُّعماء السياسيين وأبطال الرياضة والسينما والتلفزيون، في هذا السياق تقول إحداهن أُغْرِمَت ببطل المسلسل المكسيكي المدبلج “أَنْتَ أَوْ لاَ أَحَد”: مُـــولاَنَ غُـونْـــزَالُ لاَ غَـــابْ بَالِــي عَـنْ بَــالُ ولأن موضوعه الحب والعواطف، فإن التَّبْرَاعْ يُقال في الخفاء وعلى بُعْدٍ من الأقارب. كما أنه لا يُقال في حضور المغنِّيين وأرباب الموسيقى لكي لا ينتشر ويشيع، ويصبح بالتالي في أفواه الناس. هذه السرية التي أحاطت بالشعر النسائي الحسَّاني لم تمنع وصول بعض روائعه التي تداولها العامة بشكل كبير فأرَّخت بالتالي لشخصيات وحقب وأحداث تمجد سيدات ورثن طقوس الشعر الفطري الخالص، كما تقول الباحثة الموريتانية سكينة اصنيب. ولا يقتصر شعر التَّبْرَاعْ عند النساء البيضانيات على التغزُّل بالرجال فحسب، بل يمتد إلى مجالات أخرى كالتغني بالمكان، أو الطبيعة لارتباطهما بأحداث وذكريات ماضية جميلة ترسَّخت في الذاكرة وسكنت الوجدان لدرجة يصعب نسيانها. والعشق في الثقافة الحسَّانية هو “لْعَشَگْ”، أي الإفراط في الحب، وفيه أمثال شعبية، ذلك لأن العاشق لدى القوم كان يستحسن استنكافه عن تناول طعام المعشوق حتى لا يُساء فهم دوافع الحب. ويرتبط العشق في ثقافة الصحراء باللوعة.. واللوعة اسم من أسماء الحب، حيث يقال: لاعه الحب. وفي اللهجة الحسَّانية تَرِدُ كلمة بنفس المعنى تقريباً، هي “اللَّيْعَ” تُجمع على لَيْعَاتْ، أي نار الحب المشتعلة وتباريح الشوق وتوهُّجه. ومن ذلك اللَّاعج، أي الهوى المحرق، حيث يُقال: هوى لاعج، لحرقة الفؤاد من الحب. والحسَّانيون بدو الصحراء عرفوا نوعاً من الحب العذري، وبرز فيهم شعراء تميَّز إبداعهم الشعري بتضمُّنه للكثير من معاني الشوق والغرام والحرمان ومفعماً بالشكوى والحزن والألم، فضلاً عن اتسامه بالعفة كما هو الحال لدى شعراء العرب “المتيَّمين” الذين لم يكن لديهم باعث على نظم الشعر غير حبّهم وارتباطهم الصادق بالمحبوبة. ومعروف في تقاليد العرب وثقافتهم أن الرجل لا ينظم شعراً غزلاً في المرأة إلاَّ إذا كان عاشقاً لها. والمرأة الشاعرة إذا عشقت تغزَّلت. كما أن الفتى الصحراوي إذا تملَّكه العشق وسكنه الهوى أصابته الحمى فيعرف أهلُه أنه عاشق قد يصل به سلطان العشق إلى الحُمق والجنون. أمّا الفتاة، فتصاب بالذهول والأرق وينحل جسدها وتفقد شهية الأكل. وتُعَدُّ فُرَصَ لقاء الحبيب بالحبيبة شبه منعدمة ببادية الصحراء، اللهم إذا استثنينا بعض المناسبات القليلة والنادرة التي يغتنمها الشباب من يملأ الحب وجدانهم من الذكور والإناث، سواء خلال سقي الماء، أو خلال جمع الحطب أو الرعي.. فهذه الفرص تكون نادرة ومحفوفة بالحيطة والحذر الشديد مخافة أن ينكشف أمر المتحابين وينتشر وسط الحي. لكن بعض الفتيات اللواتي بلغ الحب فيهن مدى عميقا يلجأن خلال الليل المتأخر إلى حيل لا تخلو من مخاطر، وهي أنهن يحدّدن موضع نومهن بالخيمة لمعشوقهن الذين يأتوا متسللين ويقوموا بقرص معشوقاتهم في الأرجل. حينذاك تنسل الفتيات من تحت الخيمة بحذر كبير حتى لا يفطن لهن آباؤهن ليلتقي العشاق بمكان معلوم بعيد عن الحي في عراء الصحراء، حيث يوقدون نارا خفيفة ويستمتعون بلحظات الغناء والعزف على الطبل المصحوب بعبارات التغزل والغرام ويجلس كل شاب بجانب عشيقته يحادثها ويغازلها ويسمر معها في حدود مسموح بها أدبيا وأخلاقيا.. ولا يمكن لأي شاب أن يبرح مكانه حتى ينفرط الجمع ويذهب كل واحد إلى حال سبيله وتعود الفتيات إلى الخيام بنفس الطريقة التي خرجن منها (مَنْسَلاَّتْ)، ولا تظهر عليهن خلال الصباح أية علامة تدل على أنهن سرقن وقتا (ممنوعا) لممارسة “الوَنْسَ” مع معشوقيهن، ويباشرن العمل البيتي الروتيني بشكل عادٍ وطبيعي. كاتب وناقد فني مغربي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©