الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فرص أخرى للحياة

فرص أخرى للحياة
28 أكتوبر 2015 20:55
استطاع جمال الغيطاني أن يكرس نفسه في صدر الأقلام القصصية والروائية في مصر خلال فترة وجيزة، يمكن تحديد بدايتها بأواخر الستينيات، حيث كانت - كما يؤثر هو أن يقول تجربة 1967 قد صهرت جيله، وبرزت أسماء عديدة، ونشطت الحركة الأدبية. وإن كان ذلك لم ينته اليوم إلا إلى أقل القليل، لجملة من الأسباب المباشرة، وغير المباشرة، والتي يرى الغيطاني أبرزها في إيقاف المجلات الثقافية الجادة، وظهور بدائل هزيلة مثل مجلتي (الثقافة الجديد)، وبروز عناصر غير موهوبة، وإغلاق أبواب النشر في وجه الأقلام الجادة والموهوبة، مقابل فتح الفرص الخيالية أمام من لو كانوا يملكون أي قدر من الموهبة لكانوا قد غدوا عمالقة. ويسمي الغيطاني من هؤلاء (الحمامصي، فتحي سلامة، إسماعيل ولي الدين). ويضرب مثلاً بفترة تولي صالح جودت لمجلة الهلال وسلسلة روايات الهلال. في منتصف الليلة الأولى فيما عُرف بأحداث 17 و18 يناير العام 1977، وصلت إلى القاهرة، قادماً من دمشق. وبعد أيام كان يحبس منعُ التجول لياليها، التقيت جمال الغيطاني أول مرة، حيث كان يعمل في جريدة «أخبار اليوم». وقد أرسى ذلك اللقاء لصداقتنا التي ما فتئت تتعزز منذ كنا آنئذ في الثانية والثلاثين من عمرنا. في رحلتي تلك إلى القاهرة، والتي امتدت أسبوعين هما ما كانا العطلة الانتصافية التعليمية في سورية، التقيت لأول مرة أيضاً مع أمل دنقل وفاروق عبد القادر ومجيد طوبيا وسليمان فياض من الراحلين. ومع جمال وهؤلاء، ومع صنع الله إبراهيم الذي كنت قد التقيته قبل سنوات في مدينة جبلة، مارست الصحافة لأول ولآخر مرة، إذ أجريت حوارات معهم بتكليف ترك لي حرية الاختيار، من الشاعر الراحل محمد عمران، والذي كان رئيس التحرير للملحق الثقافي لجريدة «الثورة»، ذلك المنبر الصحفي البالغ الأهمية في الحياة الثقافية السورية، والذي ظهر فيه أو استقطب أبرز الأقلام السورية الشابة والمعمرة: ممدوح عدوان والطيب تيزيني ومحمد جمال باروت وسعدالله ونوس ووليد إخلاصي وأدونيس والفنان مصطفى الحلاج ورياض الصالح الحسين و... لمبدعٍ كبير مثل جمال الغيطاني، أظن أن من الأهمية بمكان أن يعاد نشر الحوار المبكر الذي أجريته معه ونشر في 17/‏3/‏1977. فالحوار يضيء ما كان يشغل جمال الغيطاني من هموم عامة وخاصة، وما كان يشكو منه في الحياة الثقافية المصرية والعربية، وهذا ما تزيده إضاءةً وإثراءً الرسائلُ الثلاث التي أرسلها لي في عامي 1977 و1978. ففي الرسائل والحوار يتحدث جمال الغيطاني عما أنجزه، وهو كثير وهام، في مستهل حياته، كما يتحدث عن مشروعاته وطموحاته وأحلامه، وليت رسائلي إليه في حوزتي، لأرى كيف كانت شواغلنا تتفاعل قبل قرابة أربعين سنة. هل من الممكن منحنا فرصة أخرى لنحيا من جديد: يتساءل جمال بمرارة وقنوط في رسالة، ويحكم على العمر القصير الذي كان قد عاشه (32 سنة) بأنه أحلام يقظة، وبالعامية البليغة: غير محسوب. ولطالما أعاد جمال صياغة هذا السؤال وردده في خلواتنا طوال العقود الماضية، كما كان يجهر بالسؤال أحياناً في لقاءات عامة وفي بعض الشهادات التي قدمها للصحافة المقروءة أو المرئية أو للمنابر. ولئن كان جمال مضرب مثل بالعمل اليومي الدؤوب في الصحافة والكتابة الإبداعية والنشاط الثقافي والأسفار، فقد كان يردد في (تجلياته) أننا صحونا متأخرين، أي إننا قد ضيعنا من العمر كثيراً، ولذلك لابد من حياة أخرى، لعلنا ننجز فيها بعض أحلامنا. وتتأسس مثل هذه الأفكار في النزوع الصوفي لجمال منذ شبابه، كما تجلى في كتاب (التجليات)، حتى بلغ ما يمكن القول معه إنه مفصل حاسم في التجربة الحداثية الروائية العربية. وفي هذا المفصل مما يسميه بعضهم صوفية الرواية أو الرواية الصوفية، وأسميه بالفعل الصوفي في الرواية، تميزت وتضافرت بخاصة تجربة جمال الغيطاني مع تجربة إدوار الخراط، واستقطبت روايات شتى مما كتبه الطاهر وطّار وعبد الخالق الركابي وسارة الجروان ويحيى القيسي ومويلم العروسي و... وإذا كان هذا المفصل الصوفي علامة فارقة لإبداع جمال الغيطاني، فهناك مفصل حاسم آخر، وعلامة فارقة أكبر، تجعل المرء يقول بالبلاغة الروائية الغيطانية، والتي تأسست في التراث السردي الزاخر وفي مقدمته ألف ليلة وليلة وحفريات الغيطاني الروائية في التاريخ، منذ الفاتحة الذهبية لكنزه السردي، وأعني رواية «الزيني بركات» التي صدرت أول مرة في دمشق عام 1974، وبها كانت البذرة الخصيبة الأولى لصداقتنا قبل أن نلتقي في جريدة أخبار اليوم ثم في (مسام) القاهرة التي يندر أن تكون لأحد بها خبرة مثل خبرة جمال الغيطاني، وربما، حتى شيخه وشيخنا جميعاً: نجيب محفوظ. كان قلب جمال قد خانه مبكراً. وقد أخبرني في رسالة أنه قد توقف عن التدخين بعد اكتشافه إصابة محدودة في القلب، من آثار الطفولة البعيدة. وقد ذكّرته بهذه الرسالة بعدما عوفي من جراحة القلب، وكنت لا أزال أدخن بشراهة، فانتزع السيجارة مني، وقال غاضباً: ستجعلك تلحق بي. ولم تتأخر نبوءته، فهاتفني بعدما لحقت به ضاحكاً: أهلاً بك في نادي القلوب المعطوبة. ما الذي لا يذكرني بجمال الغيطاني؟ اللاذقية أم البودي (قريتي) أم مصيف صلنفة والأيام التي لا تُنسى بصحبته وصحبة أسامة أنور عكاشة وعبد الرحمن الأبنودي وبهاء طاهر وغازي أبو عقل و.. أم هي القاهرة التي تذكرني بجمال، ومن لا يعرف القاهرة القديمة على يد جمال ربما ستظل معرفته بها ناقصة. ما الذي لا يذكرني بجمال الغيطاني؟ حلب وولعه بالطرب الحلبي أم دمشق وولعه بالبروكار الدمشقي؟ أم هي الشارقة؟ بل هي باريس أو الإسكندرية أو مجلة «أخبار الأدب» أو المعارك الثقافية التي ربما كان أكثر ما أوجعه منها: المعركة مع جابر عصفور؟ في آخر أحاديثنا كان صوته ذبيحاً وهو يجأر بالدمار السوري، وبالخوف من أن يكون تدمير سورية مقدمة لتدمير مصر. وقد كرر ذلك مراراً، ربما كان آخرها في اللقاء التلفيزيوني مع زاهي وهبه في قناة «الميادين». وها هو جمال قد رحل وتركنا لمصير أين منه المصير الذي آلت إليه حارة الزعفراني في روايته «وقائع حارة الزعفران» أو المؤسسة وما أدراك ما المؤسسة/‏ الدولة في روايته (حكايات المؤسسة). ولماذا أعدد ولا أكتفي بالمصير الذي لاقته السلطنة المملوكية في مرج دابق قبل خمسماية سنة في درّة العقد الروائي النظيم لجمال الغيطاني: الزيني بركات! بلا تدخين أخي الفنان نبيل سليمان صباح الخير منذ عدة أيام أرسلت إليك (الرفاعي) و(ذكر ما جرى) أرجو أن يكون المظروف قد وصلك. كيف حالك. أنا بحالة لا بأس بها. أقرأ بغزارة، وأعمل في رواية طويلة قد يستغرق العمل فيها وقتاً طويلاً، (خطط الغيطاني). الواقع الثقافي لدينا سيئ جداً. ولكن يجب أن يكون الإنسان جديراً بهذه الظروف. أي يجب ألا يدعها تقهره، أنا لا أدري أية ظروف تمر بها. ولكن يبدو أن جيلنا هذا سيئ الحظ. أفكر أحياناً، هل من الممكن منحنا فرصة لنحيا من جديد، فهذه المرة لا تحسب، أحلام يقظة؟؟ لا بأس. أرجو أن تكتب لي، وألا يصيبك الكسل في الكتابة، أفدني عما إذا كانت الكتب قد وصلت أم لا، كذلك أرسلت (ذكر ما جرى) إلى الصديق عبد الرزاق عيد، هل وصلت أم لا؟ أفدني عن ذلك، وأتمنى منك لو نشر أي شيء عن الرفاعي أرسله لي في مظروف واكتب عليه (مطبوعات) أو مع أي صديق قادم. كما أتمنى لو تمكنت من إرسال نسخة واحدة من (الحصار من ثلاث جهات) أو أكثر لأنه تصور أنني لا أمتلك إلا نسخة واحدة بعد صدور الكتاب بثلاث سنوات. العديد من الأصدقاء يسلمون عليك في القاهرة. الأخ يوسف القعيد وأبو عوف ومجيد. وفي انتظار حضورك لندعوك إلى المقهى. وإلى السهر في الحسين. وعلى فكرة من أهم أخباري أنني توقفت نهائياً عن التدخين نهائياً بعد اكتشاف إصابة محدودة في القلب من آثار الطفولة البعيدة. لكن سوف أدخن مرة او مرتين لو جئت إلى سورية (خاصة حلب) ولو ذهبت إلى تركيا. أخي نبيل أنتظر خطابك. ولك تحياتي جمال الغيطاني هل أنا متشائم؟ أخي العزيز الأستاذ نبيل سليمان صباح الخير.. أو... مساء الخير أرجو أن تكون في صحة طيبة، وأخبارك جيدة. وإنتاجك في غزارة وخصوبة. أنا بشكل عام جيد. الأحوال ليست على ما يرام ولكن كما قلت لك فإنه من أهم الأمور الآن بالنسبة للفنان أن يحافظ على ذاته أولاً. وهذا ليس بالسهل. وبالطبع فإن الهدف من المحافظة على الذات ليس لإبقائها في حالة جيدة أو سليمة فحسب، إنما من أجل أن يستمر الإنسان في التعبير عن عصره وعن قضاياه، إنني أقرأ جيداً، وأكتب، ولدي من المشاريع ما يستغرق عمراً بأكمله. انتهيت من الكتابة الأولى لرواية (الرفاعي) التي تدور حول الحرب. وأعتقد أن وقتاً لا أدري مقداره سيمضي حتى أكتبها مرة ثانية. إنها الكتابة النهائية كما أسميها. أعدّ لروايتي (خطط الغيطاني) وأعتقد أن العمل فيها سيمتد فترة زمنية طويلة. إنني يائس من ظروف النشر. وربما كانت الإيجابية لهذا اليأس هي الإعداد لأعمال تستغرق زمناً غير قصير. ومن يدري؟ قد تظهر هذه الأعمال بعد أن نرحل عن هذه الدنيا. هل أنا متشائم؟ ربما. لا أخفيك أنني أشعر بحالات اكتئاب، كنت أسمع أن الآخرين يصابون بها. وكنت أظنها بعيدة عني. لكنها تداهمني بين الحين والآخر. لكن العمل لا يتوقف. الخلق، الإبداع، لأن ذلك يعني لو حدث موتاً عضوياً أيضاً. أخي نبيل، اكتب لي، وأرجو أن يكتب لي الأخ عبد الرزاق عيد، وأخبرني عما تم بخصوص الحديث الذي أجريته معي. هل نشر؟ أرجو أن ترسل لي نسخة من الملحق إذا كان قد نشر. يهمني جداً أن أراه. (...) وقصة الفندق أيضاً. هل نشرت؟ أرجو إذا أمكن إرسال بعض نسخ من مجموعتي «الحصار من ثلاث جهات» (...). هل لك طلبات من مصر؟ اكتب لي وسألبي كل ما تريد فوراً. جمال الغيطاني 24/4/1977
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©