الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الغيطاني قبل أربعة عقود:كم سأعيــــش؟!

الغيطاني قبل أربعة عقود:كم سأعيــــش؟!
28 أكتوبر 2015 20:55
ولقد لاحظت أن الغيطاني في محاولته دراسة هذا الوضع المتأزم، يمزج المرارة الذاتية بالتحليل، ولكنه يركز تركيزاً شديداً على اعتبار المسألة الجوهرية هي صراع بين الموهوبين وغير الموهوبين، مما دفعني إلى ابتداء اللقاء معه بالسؤال عما يراه بين موهبة الأديب وموقفه؟ قال الغيطاني: ** في مرحلة معينة، حين يعبر الكاتب عن بشاعتها مثلاً، يكون تقدمياً وإن لم يقدم الأمل، وإن لم يكن معلن الولاء للخط التقدمي. * ولكن تعميم ذلك على أساس الموهبة وحسب يجعل من الأديب كائناً فوق التاريخ؟ ** انظر تولستوي مثلاً، بلزاك... الوهج الإنساني العظيم الذي يشع من أعمالهم، وقارن أي مقارنة، مع شخص كثروت أباظة. * تولستوي وسائر الأمثلة الجاهزة لمثل هذا الموقف، إنما جاءت تقدميتهم من تلمسهم للوهج الإنساني الذي تذكر في أعمالهم وتعبيرهم عنه، وليس من كونهم موهوبين فقط. ثم إن هناك موهوبين، وهناك من هم أقل موهبة، فكيف يمكن تركيب المعادلة؟ ** أنا أركز على الموهبة انطلاقاً من الخصوصية المصرية التي تتمثل حالياً في أن كافة الأدباء الموهوبين هم في خط التقدم العريض، أما الآخرون فإنهم ضحلون جداً. * القضية إذن هي مقدار تعبير هذه الدرجة أو تلك من الموهبة، عن الخط التقدمي، وهذا أمر يتم موضوعياً (أي في العمل) على الرغم من أن الموقف الذاتي لفلان أو سواه قد يكون ضد التقدم. هموم المثقف ومن الاتفاق على النقطة السابقة انتقلنا إلى الحديث عن أشكال المحافظة الشخصية على الذات في مثل وضعه. ويبدو أن هذه النقطة تحتل بين هموم الغيطاني حيزاً كبيراً، ولذلك فقد فصل فيها محدداً تلك الأشكال بما يلي: 1- رفض التعامل في مرحلة معينة مع أدوات ثقافية معينة. 2- البحث عن بديل مؤقت في أمكنة أخرى. 3- الاتجاه نحو المشاريع الشخصية، والتي تتحكم فيها بكل جلاء أوضاع القطاع الخاص، والعلاقات الشخصية. ولقد أسفرت تجربتي في هذا الصدد عن إصدار الطبعة الثانية من رواية «الزيني بركات» في القاهرة لدى «مكتبة مدبولي»، وكانت الطبعة الأولى قد صدرت عن وزارة الثقافة السورية في دمشق، كما ستنشر مكتبة مدبولي مجموعتي القصصية الأولى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» في طبعة ثانية هذا العام. وقد نشرت رواية «وقائع حارة الزعفراني» لدى دار الثقافة الجديدة في القاهرة ضمن هذا التوجه. 4- الاستمرار في الإنتاج، دون الوقوف عند أزمة النشر الحالية. 5- إنني أفكر جدياً مع بعض الزملاء في إقامة مشروع تعاوني للنشر، وعلى رأس هؤلاء مجيد ويوسف القعيد. 6- استغلال فرصة «الخمود» لاستكمال الأدوات وشحذها. لقد انكببت على دراسة اللغة الإنجليزية في الآونة الأخيرة تطبيقاً لهذا الأمر. بريء من الماركوزية آثرت بعد ذلك أن ننتقل إلى أبرز المسائل التي يثيرها نتاج الغيطاني: ابتداء مما يستشف من الملامح الماركوزية في روايتيه الثانية والثالثة، إلى محاولته المستمرة في إيجاد شكل خاص للقصة والرواية، نابع من الارتباط الوثيق ليس المضموني وحسب بالتاريخ، وأخيراً: على جهوده في صدد «القصة الحرب». عن المسألة الأولى قال: ** أود أن أعود قليلاً إلى الوراء: كنت آنئذ في مطلع العشرينيات، أدين جيلنا، أشعر أننا معزولون عن الكتلة الجماهيرية. ثم جاءت هزيمة 1967 معرية كل شيء على حقيقته، وتأكدت شكوكنا السابقة. في يوم من أيام 1968 كنت أسير في شارع القصر العيني، وفوجئت بمظاهرات الطلبة. أحسست أن جيلنا يتحرك. لم أشترك في المظاهرات إبعاداً لمزيد من الشبهات. وكما هو معروف فقد استمرت التحركات الطلابية بعد ذلك فترة قبل أن ترفد بالتحركات العمالية. هذا التوضيح التاريخي يبين أي دور لعبه المثقفون. ها هنا ثمة خصوصية مصرية أخرى: إن المثقفين يلعبون دوراً رئيساً في الخط التقدمي. وهم يدفعون بالدرجة الأولى الثمن دوماً. ولعل ذلك عائد – من بين أسباب كثيرة – إلى وضع القوى السياسية التي تغلب فيها العناصر المثقفة. بعد ذلك أستطيع أن أقول إنني قد قرأت ماركوز، ولكنه بعيد عن أعمالي، وأنا بريء من الماركوزية. إن المتمرد الوحيد في «وقائع حارة الزعفراني» هو القواد. * ولكن لحسان الطالب ورمانة العامل والسياسي والمتنور، وضع إضافي؟ ** باعتبار «حسان» يمثل الوعي، أما رمانة فهو عامل. * في خلاصة الرواية سلّم العامل الأمانة للمثقف. إن العمل الفني لا تنفع فيه النيات وحدها؟ ** هناك خلفية ذات شجون لهذا الكلام كله. إنني منزعج جداً من الوضع الانقسامي الراهن للذين يمثلهم رمانة أو حسان. استحضار محفوظ * في روايتك الأخيرة «وقائع حارة الزعفراني» كثير مما يستحضر نجيب محفوظ. فهناك أطروحة شيخ الرواية العربية عن الدين والعلم، وهناك العطب الذي أطبق على عالمه في «تحت المظلة»، وقبل ذلك هناك: القاهرة، القاهرة القديمة والقاهرة الجديدة؟ ** إن «لولي» في الرواية المذكورة، ليس من الأخوان المسلمين، والده هو الذي يبلغ عنه بهذه التهمة. * ولكن السلطة تعامله على هذا الأساس؟ ** أجل، وعلى كل حال فأنا أوافق على ما تدل عليه أطروحة نجيب محفوظ من تشخيص للمجتمع هنا. ولكني لا أتصور أن هذه النقطة تلعب دوراً مهماً في الرواية. إن الشيخ عطية، بطل الرواية الأساسي يائس من سائر الحلول والسلطات، ولذلك فهو يطرح الطلسم بديلاً، انطلاقاً من السؤال الذي يكويني شخصياً: كم سأعيش؟ أريد ان أرى شيئاً قبل أن أموت. إنني أحترم نجيب محفوظ وحده من بين جيله. لقد بدأت أقرأ له وأنا في العشرين، وكنت قد ظللت حتى الثامنة عشرة أقرأ التراث أو القصص الأجنبية. كنت أخرج من المدرسة إلى سور الأزهر، حيث لايزال إلى اليوم الشيخ نوام يؤجر الكتب. تجلس في الدكة التي وضعها للقراءة، وتقرأ، وتدفع القليل. كنت أظل عنده حتى المساء. قرأت في البداية أرسين لوبين ثم روايات الجيب، وأشياء من التراث، ثم جاء نجيب محفوظ، وإعجابي بهذا الرجل يمتد إلى سلوكه وتنظيمه الحديدي لوقته، ودأبه وجهده العنيف من أجل موهبته. إنه ابن الجمالية كما تعرف. ولقد نشأت أيضاً في المنطقة نفسها. إن نجيب محفوظ قد كتب عن القاهرة «القديمة» والطبقة المتوسطة. ولقد عشت ثمانية وعشرين عاماً في قصر الشوق والطبلاوي، ولكني جئت أخيراً لأكتب عن القاهرة الحالية. أنا أكتب عن الفقراء، عن البرجوازية الصغيرة للقاهرة القديمة، وهذا ما لم يعشه محفوظ، وما لم يكتب عنه. لقد قرأت باهتمام ما كتب عبد الرزاق عيد عن «الزويل» وما كتب عن «الزعفراني»، ولكني أتساءل لماذا غابت عنه المقارنة التي أثرتها أنت في هذه النقطة؟ إن نقاط التشابه هي حصيلة الواقع الواحد، أما التحليل والتعبير فهو مختلف لا ريب. وأما عن عطب الشخصيات، فهو عند محفوظ ميتافيزيقي، ليس له أساس اجتماعي. أما في «الزعفراني» فعلى العكس. صحيح أن الظلم ميتافيزيقي بمعنى ما، لكنه ليس أكثر من القشة التي قصمت ظهر البعير. العطب لدي أساسه اجتماعي. انظر شخصية «عويس الفران»: كل أحلامه عبارة عن «عربية» من خشب. قَدِمَ من الصعيد، انتهكت آدميته، والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية تهرسه، حتى انتهى إلى مسخ بيد الشيخ. إن القهر يلعب دوراً كبيراً في حارة الزعفراني، وفي الزيني بركات، وفي قصة هداية أهل الورى، وهذا سبب عطب الجميع. إنني مؤمن بقوة أنه ثمة قوة كبرى للقهر في العالم، ولكنها ليست ميتافيزيقية. شكل جديد * منذ مجموعتك القصصية الأولى، وعبر القصة القصيرة والرواية على السواء، يتضح بقوة وجلاء هذا الدأب على إيجاد شكل خاص متميز، فيه من الواقعية قدر ما فيه من التراث، من التخييل، من الرمزية، من سائر دقائق التشكيل، فماذا حققت في هذه الرحلة. وفي أي اتجاه تتوجه السفينة الآن؟ ** إنني مهتم جداً بإيجاد شكل متميز للقصة من خلال التراث العربي، وهذا ما سيفتح في اعتقادي آفاقاً رحيبة للقصة العربية، لأن البذرة موجودة في الكثير من كتب التاريخ وكتب العجائب. من ناحية أخرى أجد نفسي مهموماً كي أقيم عالماً له قوانينه الخاصة، فالواقع ليس نسخاً. مثلاً في «الزويل» لجأت إلى استخدام الأسلوب التسجيلي لإقناع القارئ. وفي الحقيقة «الزويل» لا وجود له. وفي (الزعفراني) عاودت اللعبة. إن أي عمل فني هو عالم قائم بذاته، وهو يفرض عليّ ما ذكرت. ولكن خلاصة ذلك قد تغني إمكانيات فتح طريق جديدة أمام الواقعية. لقد حاولت هذا الفتح في القصص (التاريخية) التي ليست أكثر من إعادة لخلق العالم. وهذا يجعل دور الخيال مضاعفاً. أما بالنسبة للفوتوغرافية في اللغة فقد جاءت من إعجابي بأسلوب المؤرخين المصريين في تدوين الحادثة بشكل شبه تقريري، ولكنه حار، كابن إياس الذي أعده أكبر من تعلمت منه في مسألة الأسلوب هذه. إن التقريرية في اللغة تأتي من تعمدي ترك مسافة بيني وبين الشخصية في العمل الفني. * هذا الكلام عن التجربة الفنية لن يجد تتمته في تقديري إذا لم يشمل أيضاً محاولاتك في القصة القصيرة عن الحرب، خاصة أنك عملت سنوات طويلة كمراسل حربي، ومجموعتك القصصية الأخيرة «حكايات الغريب» بكاملها عن الحرب. إن معادلة «القصة الحرب» تطرح إضافة إلى كل ما سبق إشكالات فنية مهمة جديدة فهلا حدثتنا عنها؟ ** هناك مشروع رواية اسمها (خطط الغيطاني) تستوحي شكل الخطط التي تتكلم عن المدن والحارات والشخصيات والعادات، وهو شكل عربي أصيل، استهدى فيه خاصة علي باشا مبارك صاحب الخطط التوفيقية. * هل قرأت «الشام» لمحمد كرد علي؟ إنها تجربة فذة في هذا الصدد؟ ** بكل أسف. * هل كتبت تمريناً لهذا المشروع على غرار القلعاوي؟ ** أجل، إنه آخر قصة قصيرة نشرتها تحت عنوان «ما جرى لأهل الوادي». ولكن التمارين هذه ليست غير خطوط أولية. وهي تنتهي غالباً نهايات أخرى كلياً. إن «الزيني بركات» في ثوبها الحالي لا تكاد تمت بنسب إلى بداياتها وتمريناتها الأولى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©