الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لقاء الببغاء والغراب في نقطة الإرهاب والخراب!!

24 أكتوبر 2015 21:46
قال الأديب الروسي الكبير ليو تولستوي: «إن اختراع مائة نظرية أسهل مائة مرّة من تطبيق نظرية واحدة». وفي ندوة للإرشاد الزراعي بمصر قبل أكثر من ثلاثين عاماً وقف خبير الزراعة الكبير يتحدّث عن نوع جديد من النباتات وأنه ذو إنتاجية عالية ويحقق عائداً مجزياً وأن نجاحه مضمون جداً.. وعندما فرغ من حديثه المتحمس لهذا النوع الجديد قام له مزارع بسيط لا يكاد «يفك الخط»، كما يقول المصريون، وقال له: هذا كلام جميل يا سيدي ولكنك لم تحدثنا عن التربة -هذا النوع نجح جداً في تربة بالخارج.. والسؤال: هل يصلح لتربتنا ومناخنا؟ إنه بالتأكيد لن يصلح لتربتنا ولن تصلح له.. ولو جربناه فإن التجربة ستفشل وستكون خسائرنا فادحة.. أنت تريد لنا الربح، لكن النتيجة ستكون خسارة.. وكنت من حضور هذه الندوة وتوقعت رد فعل الخبير الزراعي، كما حدث بالضبط فقد بدا متعالياً جداً وكان كغيره ممن نسميهم في أمتنا العربية النخبة يود أن يتحدّث والناس يستمعون.. يود أن يملي والناس يكتبون.. يود أن يدعو والناس يؤمنون.. يود أن يقرر والناس ينفذون ويرضخون.. بلا تعقيب ولا إبداء ملاحظات.. وهكذا بدا الخبير الزراعي متأففاً وساخطاً ومحتقراً لكلام المزارع البسيط وقال له بمنتهى القرف: لا يبدو أن هذه العقول المتحجرة والمتخلفة تريد أن تتطور.. نحن أعلم منك بما ينفع وما يضر.. دعك من هذا الكلام الفارغ.. واستفزني كلام الخبير الذي لم يعقب المزارع عليه وقبل أن أنصرف من الندوة غاضباً قلت للخبير بهدوء: أنت خبير معامل ومختبرات وهو خبير واقع.. أنت خبير نظريات وهو خبير تطبيق.. أنت غريب عن الأرض والتربة وهو ابنها. وقول تولستوي وقصة الخبير الزراعي والمزارع البسيط يلخصان الصراع القديم المتجدد بين النظرية والتطبيق.. وبين الفكر والواقع.. وهذا الصراع هو السبب الرئيسي لكل الأزمات والكوارث في أمتنا العربية، وهذا الصراع يبدو أنه سيستمر طويلاً أو يراد له أن يستمر حتى يدمر الأخضر واليابس وقد دمرهما بالفعل. القصص الدامية والموجعة في سوريا وليبيا وكل الدول التي ضربتها عواصف الخريف العربي هي محصلة الصراع بين النظرية والتطبيق وبين الفكر والواقع.. أصحاب النظرية يريدون إخضاع التطبيق لنظرياتهم بالقوة وأصحاب الفكر يريدون إجبار الواقع على تبني فكرهم.. والنظرية في أمة العرب مستوردة من تربة أخرى لا تماثل أبداً تربتنا.. والفكر سلفي ماضوي منفصم تماماً عن واقعنا.. والنظرية في عالمنا العربي تقليد ببغائي لحاضر غيرنا.. والفكر في أمتنا تقليد أعمى لماضينا نحن وإعادة إنتاج لنفس السيناريو بأشخاص وأبطال مختلفين والنتيجة أن العرب قوم مقلدون في كل الأحوال أو هم قوم متبعون وتابعون وليسوا مبتدعين ولا مبدعين.. وهم قوم مستهلكون لنظريات ومناهج الآخرين في الحاضر أو مستهلكون لأفكار أسلافهم في الماضي.. وفي هذه النقطة بالذات يلتقي العلمانيون والليبراليون والحقوقيون والنشطاء أو ما شئت من الأسماء الحديثة مع الأصوليين أو الإسلاميين أو جماعات الإسلام السياسي أو السلفيين أو المتدينين أو المتطرفين أو الإرهابيين أو ما شئت أيضاً من الأسماء التي تصف الماضويين. اللافتة التي تجمع الفريقين اللذين يبدوان على طرفي نقيض هي التقليد والببغائية والغراب الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداء. والتبعية التي هي آفة العرب منذ مئات السنين هي التي تحكم المشهد كله فنحن نستهلك ما ينتجة الآخرون في الحاضر وما أنتجه أسلافنا في الماضي -والتبعية الفكرية لحاضر الآخر وماضينا أخطر آلاف المرات من التبعية الاقتصادية والسياسية.. بل إن التبعية الفكرية هي أساس كل أنواع التبعية الأخرى.. وهي أساس الإخفاقات المتواصلة في جميع المجالات. والحالة الببغائية أو الغرابية العربية الناعقة موجودة وحاضرة بقوة لدى الضدّين.. العلماني الليبرالي المتحرر والأصولي الإرهابي المتطرف.. نفس حالة الأقوال الجميلة والأفعال القبيحة والنظريات البراقة والتطبيق المظلم والظلامي، وهذه المسافة الشاسعة بين القول والعمل والتي وصفها بدقة الشاعر العربي القديم الطغرائي منذ ألف عام وكأنه يتحدث عما يجري اليوم حين قال: غاضَ الوفاءُ وفاضَ الغدرُ واتسعت مسـافةُ الخُلْـفِ بيـن القولِ والعَمَلِ ما كنــــتُ أُوثِــرُ أن يمتــــــدَّ بــي زمنــــــي حتــى أرى جولـــــةَ الأوغــادِ والســّــفَلِ الليبرالية والعلمانية مثل التدين والأصولية أقوال بلا أفعال.. وترديد ببغائي بلا فهم، ونعيق غرابي بلا وعي.. حتى رقص العرب على السلم.. فلا هم محافظون ولا هم ليبراليون.. ولا هم متدينون ولا هم كفرة.. إنها الحالة النفاقية الفجة التي تحدث عنها القرآن الكريم في قول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ)، «سورة البقرة: الآيتان 204 - 205». هاتان الآيتان الكريمتان تتحدثان بمنتهى الدقة والإعجاز عن مسافة الخلف بين القول والعمل.. عن التناقض المنافق بين النظرية والتطبيق وبين الفكر والواقع.. فكل الليبراليين والديمقراطيين مثل كل المتطرفين والإرهابيين باسم الدين يقولون خيراً.. فإذا تولوا أمورنا فعلوا شراً وفساداً.. وهذه الحالة ماثلة بقوة لدى من نسميهم جماعات الإسلام السياسي أو جماعات الغلو والتطرف مثل «الإخوان» والحوثي ومن والاهم ولف لفهم.. فقد خدعوا الناس طويلاً بأقوال أعجبتهم وطربوا لها فلما تولوا الأمر عاثوا فساداً وخراباً.. وهكذا كان الإرهاب والخراب نقطة الالتقاء بين الببغاء والغراب!! محمد أبو كريشة* *كاتب صحفي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©