السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«اختطاف» الدانماركي.. الحياة موضع تفاوض

«اختطاف» الدانماركي.. الحياة موضع تفاوض
18 أكتوبر 2012
في الوقت الذي يعيش فيه العالم على وقع أنباء شبه يومية عن عمليات اختطاف السفن في عرض البحر، يأبى المخرج الدانماركي توبياس ليندهوم إلا أن يُقرب إلى المشاهد العالمي معاناة المختطفين ومفاوضات القراصنة مع مسؤولي المخطوفين في قالب درامي تراجيدي ولمسات إخراجية في منتهى الروعة والإبداع، وبطريقة تجمع بين التمثيل المتقن، والتصوير السهل الممتنع الذي لا يغفل أي ثغرة في مشاهد الفيلم التي دارت بين مقر شركة “روزن” في كوبنهاجن، وعرض المحيط الهندي. نجح توبياس في خطف أنظار المشاهدين إلى آخر ثانية من الفيلم، وجعل أنفاسهم تحتبس طيلة لحظات المفاوضات، والدموع تنهمر من مُقَلهم في لحظات تأثر عاطفي نقلت معاناة أهالي المختطفين، فبدا الفيلم قصة واقعية تجعل المشاهد يشارك فيها بعقله وقلبه، ويتفاعل مع كافة تفاصيلها وجزئياتها. كيف لا وقد أحال بثراء مخيلته الثرية في التأليف والإخراج جريمة دولية يقوم بها قراصنة ذوو بشرة سمراء وأجسام هزيلة وبنيات ضعيفة ويكبدون بها العالم مئات الملايين من الدولارات سنوياً وعدداً من الأرواح، إلى ملحمة تراجيدية، لا هي بالفيلم الوثائقي، ولا هي بالإنتاج السينمائي الوصفي السردي، بل هي منزلة ما بين المنزلتين. هشام أحناش من الروائع التي أتى بها مهرجان أبوظبي السينمائي في دورته السادسة فيلم “اختطاف” الدانماركي لمخرجه توبياس ليندهوم. فقد أبدع المخرج بدرجة عالية، واستطاع نقل دراما تراجيدية دامت في عرض البحر وبر كوبنهاجن لمدة فاقت أربعة أشهر، هي مدة احتجاز قراصنة صوماليين لطاقم سفينة شحن بحري عددهم سبعة. ألبس المخرج قبعة البطولة لطاهي السفينة، ميجيل (جوهان فيليب أسباك)، والرئيس التنفيذي لشركة “روزن”، بيتر (سورون مالينج)، فكانا أهلاً بها. أحال جو السفينة في لحظة واحدة من مرح وفرح بقرب عودة أفراد طاقم السفينة إلى الديار بكوبنهاجن، إلى حزن وكآبة وضغط نفسي وخوف من الموت وجهل تام بالمصير. أما رئيس الشركة بيتر الذي يتمتع بشخصية حازمة ومهارات تفاوضية عالية، فيكون منهمكاً في اجتماعاته المتتالية وصفقاته التجارية الناجحة. يفشل نائبه لارس في إقناع شركاء يابانيين في تخفيض قيمة تجديد عقد، فيتدخل لإقناعهم ويكبح جماح طموحهم بمضاعفة الأرباح تعويضاً عن الخسائر التي طالتهم بسبب تسونامي، فيُخفض مقابل قيمة صفقة من 19 مليون دولار إلى 14,5 مليون دولار. وقبل أن تكتمل فرحته بصفقته مع اليابانيين، يجد بيتر نفسه في وضع جديد يحتم عليه إجراء مفاوضات لم يعهدها، ليس مع رجال أعمال، وإنما مع قراصنة صوماليين يجهل عنهم كل شيء. يستدعي خبيراً فيوصيه بالاستعانة بشخص آخر للتفاوض معهم لتفادي إقحام العواطف أثناء المفاوضات، حرصاً على أرواح أفراد طاقم السفينة التي قد يعبث بها القراصنة في حال ارتكاب أي خطأ أو السماح بطغيان العواطف على العقل. يرفض بيتر القيام بذلك، وهنا تتجلى شخصيته القوية الحازمة، فيقرر ضد رغبة الخبير أن يُجري المفاوضات بنفسه مع القراصنة، معتبراً أنه الأجدر والأحق بذلك من أي شخص من خارج الشركة، وبأنه أحرص على أرواح عماله من أي كائن آخر. في عرض البحر تتعرض سفينة الشحن البحري لشركة “روزن” للاختطاف في عرض بحر المحيط الهندي، وهو مكان لم يألف القراصنة اعتراضه، في إشارة إلى كون عمليات القرصنة أصبحت خطراً داهماً يُهدد السلامة البحرية لكل الكوكب، ولا يستثني أية منطقة أو جهة. أول ما يطلبه القراصنة عند صعودهم متأبطين بنادق كلاشينكوف هو طاهي السفينة وربانها، ثم يفرقون أفراد الطاقم إلى مجموعتين دون أن تعرف إحداهما مكان الأخرى، ولا حتى إنْ كان الآخرون على قيد الحياة. يختار القراصنة الطاهي ميجيل ليكون صلة وصل بينهم وبين الشركة التي يطالبونها بفدية قدرها 15 مليون دولار. يبدأ ميجيل باستعطاف أحدهم ليكتشف أنه مترجم ساخط ومستاء، أو كأنه غير مقتنع بما يقوم به، فهو يردد على مسامعه كلما التقاه أنه غير متورط مع القراصنة، وأنه يريد العودة إلى أفراد أسرته تماماً كما يتمنون هم ذلك. وقد نجح المخرج باختيار زوايا التصوير بدقة وعناية، فأبدع في تصوير ممرات السفينة، بدءاً من درجها وسطحها، إلى مطبخها وأدراجها وقمرة قيادتها وأقبائها، إلى مرافقها التي تحولت إلى أماكن تنعدم فيها أقل شروط النظافة بسبب منع المحتجزين من استخدام دورات المياه، وإجبارهم على التبول في ركن بنفس المكان الضيق الذي ينامون فيه. يتمكن زميل ميجيل من إقناع أحد القراصنة بتركهم يستعملون المرحاض، فيكون ذلك يوم النصر له ويعجز عن إخفاء فرحته. ويُظهر المخرج بشكل درامي ساخر كيف يمكن أن يتحول حق بسيط في الحياة كاستخدام دورات المياه إلى طموح حقيقي في ظروف الخطف والاحتجاز. مفاوضات شاقة يشك الخبير جاري بورتر في البداية في قدرة الرئيس التنفيذي للشركة بيتر على إجراء المفاوضات مع القراصنة بنفسه، لكنه يبدأ شيئاً فشيئاً بالاقتناع بقدرته على ذلك عندما يرى مهارته في إدارة التفاوض برباطة جأش وحزم وتحييد للعواطف. يرد بيتر على طلب 15 مليون دولار بعرض زهيد لم يتجاوز ربع مليون دولار، ما يجعل المترجم يسخر منه ويغلق سماعة الهاتف. يحسب بيتر وفريق عمله الساعات والدقائق في انتظار معاودة المترجم عمر للاتصال. يتصل هذا الأخير لكنه يجلب معه الطاهي ميجيل لابتزازه عاطفياً من أجل دفع ما يطلبونه حتى يعود حياً لزوجته وابنته. يرفض بيتر مواصلة التفاوض مع الطاهي، وتكون تلك “ضربة معلم” تفاوضية من منظور الخبير جاري الذي أثنى عليها. يتكرر مشهد جلوس بيتر على المكتب في انتظار رنين السماعة وهو مُحاط ببضع موظفين ومساعدين، إضافة إلى الخبير الذي يراقب عملية التفاوض، ويسدي إليه النصائح والتوجيهات بالإشارة وبالكتابة على سبورة بيضاء. يُعاود المترجم عمر الاتصال، فيرفع بيتر السعر إلى 900 ألف دولار، ما يثير غضب القراصنة ويهددون بقتل الطاهي إنْ لم يُستجَب بسرعة لمطلبهم بدفع 12 مليون دولار هذه المرة. يُلازم بيتر مكتبه منذ تعرض السفينة للاختطاف، ويستقبل زوجته التي تأتي للاطمئنان عليه ببرودة، ثم يطردها لاحقاً في اللحظات العصيبة التي مر بها بعدما يكون قد سمع إطلاق الرصاص لحظة تفاوضه مع عمر واستعطاف الطاهي له، إذ يظن أن ميجيل قد قُتل. حدث ذلك بعد فقدانه السيطرة على أعصابه وتحدثه مع المترجم بعصبية وذاتية كانت نتيجتها سماعه إطلاق الرصاص، فتذكر حينها فقط مقولة الخبير بأن أي تأثر عاطفي يكون مكلفاً مع القراصنة. يعقد اجتماعاً مع موظفيه ويخبرهم بأن الشركة تمر بأوقات عصيبة بعد أن تتسرب أخبار اختطاف السفينة إلى الصحافة. وهو اجتماع عقبه استدعاؤه من قبل أعضاء المجلس التنفيذي للشركة وتهديده بأنه سيفقد وظيفته إنْ لم يتمكن من إسدال الستار على قضية اختطاف سفينة الشحن قبل نهاية الشهر الرابع، فيجد بيتر أن وظيفته على المحك، لكن ذلك لا يقلقه بقدر ما يؤرقه حال زوجة ميجيل وابنته التي حسبها قد تيتمت. يعقد بيتر لقاءً مع ذوي الأشخاص المختطفين السبعة الذين يشكلون طاقم السفينة، يجيب عن أسئلتهم ويعدهم ببذل ما في وسعه لإرجاعهم، دون أن ينسى طمأنتهم بأنهم بخير. وهي كلها لحظات عصيبة مفعمة بكثافة هائلة من الضغوط النفسية، نال القسط الأكبر منها بيتر من مقر الشركة، والطاهي ميجيل على متن السفينة. خنزير وماعز يمر الشهر الأول فالثاني وتبدأ عدة الطعام في النفاذ من مطبخ السفينة، ولا يبق إلا الأرز ومعلبة يطلب أحد القراصنة تناولها قبل أن يخبره ميجيل أنها للحم الخنزير! فيطالب الطاهي ورفيقيه بالصعود إلى سطح السفينة لشم هواء نقي، ثم يُطلب منهم أن يصيدوا أسماكاً ليسدوا رمقهم، فينجحون في الظفر بصيد ثمين عبارة عن سمكة كبيرة. وهنا ينتقل الجو من ظروف كآبة وحزن إلى لحظات احتفال يبتهج فيها المختطفون مع خاطفيهم بالسمكة الكبيرة ويتناول وجبتها مع بعض ويسهرون معاً، إلى أن يطلبوا في غمرة نشوتهم هذه من الطاهي تأدية أغنية، فيغني أغنية لابنته التي يفتقدها كثيراً، وينقلب حاله وحال رفيقيه فجأة إلى النقيض عندما يغني لها أغنية بعيد ميلادها يرددها معه رفيقاه والقراصنة. يعود المختطفون إلى قبوهم ثم يُطلب من الطاهي في يوم آخر أن يصعد إلى سطح السفينة لاستنشاق هواء نقي، فيجد أمامه ماعزاً ويُناوَل سكيناً، ويؤمر بذبح أحد الماعز بطريقة إسلامية، ما يوقع الطاهي في ضغط نفسي شديد باعتباره لم يألف منظراً كهذا، فتكاد عيناه تخرج من مقلتيه، ويبدو وكأنه يُخيل إليه أنه يخاف من أن يكون مصيره مثل مصير الماعز التي نحرها. مفاجأة غير متوقعة بعد يأس وطول انتظار وضغوط لا تُطاق من كل جهة وفشله في الاتصال بالقراصنة، يتوصل بيتر بفاكس من المترجم عمر، فيرد عليه بفاكس يطالبه به بالاتصال به هاتفياً. ثم يبعث بفاكس آخر يسأله هل الطاهي ميجيل حي أم ميت، فيتنفس هو وزملاؤه الصعداء عندما يعلم أنه لا يزال على قيد الحياة، ويكون ذلك مؤشراً من القراصنة على الاستعداد لاستئناف المفاوضات. يُخفض المترجم عمر بطلب من القراصنة مبلغ الفدية إلى 8,5 مليون دولار ويعتبره آخر عرض، فيطلب بيتر التشاور ومعاودة الاتصال. يستعمل عمر الطاهي ميجيل مرة أخرى لممارسة ابتزاز عاطفي، لكن مع زوجته وابنته هذه المرة، مستغلاً انهياره العصبي والعاطفي، فيتلقف ميجيل هذا باستبشار وفرحة غير محدودين، كيف لا وقد حظي بالحديث إلى زوجته التي لا يعلم هل سيلتقيها مجدداً أم أنها ستكون مكالمة الوداع. تهرع زوجة ميجيل إلى مقر شركة “روزن” وهي في غاية التأثر وتستعطف بيتر من أجل إعادة زوجها. يُعلن بيتر صراحة أنه يريد إغلاق هذا الملف ووضع حد لمعاناة أهالي طاقم السفينة، فيرفع السعر إلى 1,5 مليون دولار، لكن القراصنة يرفضون مجدداً ويطالبونه بأن يكون أكثر جدية في التفاوض. ينوي بيتر بعد فترة وجيزة رفع الرقم إلى 2,5 مليون دولار، لكن نائبه لارس يتدخل هذه المرة ويقترح إجراء مناورة تفاوضية واللعب على وتر عاطفي شخصي من خلال إيهام القراصنة بأن الشركة لا تستطيع أن تدفع أكثر من 2,5 مليون دولار، وأن بيتر سيدفع من مدخراته الشخصية نصف مليون دولار ليصبح الرقم الإجمالي للفدية 3,3 مليون دولار، فيوافق القراصنة. لا يُصدق بيتر الموافقة التي تلقاها على الفاكس، ويرغب في التأكد، فيتوصل برسم وجه بابتسامة يفيد الموافقة والرد بنعم. فيهتف بيتر وباقي زملائه وتبش وجوههم بعد طول عبوس واكتئاب. وهنا تظهر أهمية روح الفريق في التفاوض، ويستحضر المُشاهد لقطة لجوء لارس إلى بيتر لمساعدته في إقناع اليابانيين بتخفيض قيمة الصفقة من 19 مليون إلى 14,5 مليون، واستعانة بيتر بمشورة لارس لإقناع القراصنة بالقبول بالمبلغ المقترح عبر إيهامهم بالدفع من جيبه الخاص. فيبدو لارس، نائب بيتر، وكأنه تعادل مع رئيسه ورد له الكيل، وأنجح صفقته مع القراصنة، كما سبق له هو أن ساعده في إتمام الصفقة مع اليابانيين. يطلب القراصنة من المختطفين السبعة الصعود إلى سطح السفينة دون إخبارهم بالسبب، فلا يعرفون هل يقادون للنحر كالماعز أم لتلبية غاية في نفس القراصنة. يُرسل بيتر طائرة خاصة محملة بكيس فيه 3,3 مليون المتفق عليها، ويتأكد ربانها ومرافقه من أن أفراد الطاقم كلهم أحياء، ثم يرمي كيس الفدية فوق قارب صغير للقراصنة باستخدام منطاد، فيفرح بها القراصنة كأطفال ويغنون وينشدون ويهللون، ثم يخبرون المختطفين بأن القضية انتهت، وأنهم سيعودون أخيراً إلى ذويهم. يتعانقون ويهنئون بعضهم فرحاً بالبشرى. ويجلب الطاهي قلادته التي كان يخبئها في دولابه والتي تذكره بزوجته وابنته على عنقه، فيرمقها أحد القراصنة في أثناء حزم أمتعتهم وإنزالها إلى القارب الصغير، وينزعها من عنقه رغم امتناع ميجيل. يشهد ربان السفينة هذه الحادثة فيحاول سحب القلادة من يد القرصان وإقناعه بإرجاعها للطاهي إدراكاً منه لقيمتها الرمزية العاطفية بالنسبة لميجيل، لكن ذلك القرصان لا يتردد في قتل الربان، فينزعج المترجم عمر ويوبخ القاتل على فعلته، ويُصعَق الطاهي ويُصعَق معه المشاهد، لتعود سفينة الشحن أدراجها إلى كوبنهاجن بستة أفراد بدلاً من سبعة. يصل خبر قتل الربان إلى بيتر، فينزوي في غرفة صغيرة ويخبر زوجة الربان بأنه قُتل. ثم يأخذ سيارته التي ظلت مركونة في موقف الشركة طيلة أربعة أشهر، ويحررها ويعود أخيراً إلى بيته ليُصالح زوجته التي طردها من مكتبه. دامت مفاوضاته أربعة أشهر ونيف، ولم تصل إلى قرابة السنة كما يحدث مع البعض، لكن خسارته لفرد من الطاقم أفسد عليه إنجازه. أما مشاركه البطولة، الطاهي ميجيل، فقد ظل مفجوعاً مصعوقاً تحت وقع الصدمة وتأنيب الضمير من قتل الربان بسبب قلادته. كان بيتر ناجحاً في مفاوضاته مع مفاوضين لم يسبق له التعامل معهم، وكان ليخرج بأقل الخسائر لولا مقتل الربان، لكن طلقة طامعة طائشة غيرت المعادلة. انتهت محنة طاقم السفينة وذويهم ومحنة بيتر وفريق عمله وزملائه في الشركة، ولكن محنة الطاهي ميجيل ورفاقه الخمسة لم تنته، فهم محتاجون إلى علاج نفسي وتأهيل يعيدهم إلى حياتهم العادية ويُساعدهم على نسيان تراجيديا استمرت في عرض البحر أكثر من مئة يوم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©