الثلاثاء 14 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

براءة المبدع مما كتبت يمينه

براءة المبدع مما كتبت يمينه
29 ديسمبر 2010 20:30
أصدر اتحاد كتاب المغرب بدعم من وزارة الثقافة، كتاب “إدريس الشرايبي: سلطة الكتابة وسؤال الهوية”. والكتاب يوثق لأعمال ندوة نظمها اتحاد كتاب المغرب بالمكتبة الوطنية في الرباط، اعترافاً بدوره التأسيسي، باعتباره أحد الرواد الأوائل للأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، وبما راكمه في مجال السرد والرواية. وهو يعتبر وثيقة نادرة غنية بالشهادات في حق الراحل إدريس الشرايبي، شارك فيها رشيدة بنمسعود والمصطفى أجماهري ورشيد بنحدو، أحمد المديني، عبد الفتاح الحجمري، فريد الزاهي، عبد الرحيم الخصار، عبد الله بيضة، مصطفى النحال. أصدر الشرايبي روايته الأولى “الماضي البسيط” سنة 1954، والتي تعتبر - برأي الناقدة رشيدة بنمسعود - “الصدمة التي خلخلت مسار المشهد الثقافي، في السنوات الأولى من الاستقلال، والعاصفة التي هبت على راكد الواقع المغربي”. وتمثل رواية “الماضي البسيط” بامتياز رواية أطروحة، هي التي أثارت ردود فعل قوية لدى المثقفين المغاربة، نظراً لتمردها على القيم الأبوية التقليدية، وإدانتها للتخلف والجهل والجمود، ومن ثم، تعرض كاتب هذه الرواية إلى نقد حاد وهجمة شرسة تصل إلى حد اتهامه بالخيانة، بل إن ضراوة النقد الذي وجه إلى الرواية – وهو يعتمد معايير غير جمالية وأدبية – جعلت يتنكر لهذه الرواية، ولم يرد الاعتبار إلى مؤلفه إلا في عقد السبعينيات مع ظهور مجموعة من الكتاب المغاربة (عبد الكبير الخطيبي، الطاهر بنجلون، عبد اللطيف اللعبي...). توظيف استعماري ألف إدريس الشرايبي جميع كتبه باللغة الفرنسية، وفي سياق التسلط الثقافي، الذي مارسه الاستعمار الفرنسي بالمغرب، ظهر ما يصطلح على تسميته بـ”الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية”، وهي تسمية لا يوافق عليها الشرايبي ويستعمل بدلها “الأدب الفرنسي المكتوب من قبل مغاربة”. يعتبر إدريس الشرايبي أحد أهم كتاب هذا الاتجاه. وقد عرف على وجه خاص بروايته الأولى: “الماضي البسيط” التي منعت لسنوات طويلة من التداول في المغرب. ويمثل إدريس الشرايبي في هذه الرواية القطيعة المطلقة مع الزمن المغربي، حيث اعتبرها النقاد وقتها ثورة ضد المجتمع المغربي وتقاليده وضد ديانته الإسلامية. مضامين هذه القصص حسب المصطفى أجماهري “تجمعها خصيصة واحدة، مهما تباينت أحداث القصص من واحدة إلى أخرى. فالشرايبي يثير في جميع مؤلفاته قضايا على جانب من الأهمية سواء بالنسبة للإنسان المغترب أو الإنسان عموماً، ونقصد بها قضايا المنفى والغربة والإحساس بالإحباط، وشجون العنصرية والزواج المختلط وتلاشي الهوية، وازدواج الشخصية والصدمة النفسية، وهي قضايا تخلقها ظاهرة المثاقفة إن لم تكن ناتجة عنها. من هذه الزاوية نجد الشخوص الرئيسية في مجموعة “أصوات أخرى”، تعيش حالات تثاقف في كنف مجتمعات ليست بالضرورة مجتمعاتها الأصلية، هذه الشخوص تأتي في سلوكها اليومي، بما يفضح تأثرها إن سلباً أو إيجاباً بالحضارة والثقافة الغربيتين. والشيء الذي يجعل هذه الشخوص معرضة لثقافة الغريب، وبالطبع هنا، الثقافة الأقوى، تترجمه رغبتها في السفر لربط اتصال مع أوطان أخرى. فكل شخوص المجموعة القصصية مسافرة، وبالتالي تستهلك كثيراً من الفضاء، كأنما هي تشبه الكاتب نفسه”. أما الكاتب المغربي رشيد بنحدو، فقد اعتبر رواية إدريس الشرايبي “الماضي البسيط” ظاهرة، ولم تكن هذه الراوية الفذة فقط “صرخة إدانة قوية لأحوال التخلف والجهل والجمود، التي كان المغرب يتخبط فيها آنذاك، بل كانت أيضا صرخة ثورة حقيقية شنها الكاتب بلسان بطله إدريس فردي على جبروت الأب المدعو في الرواية بـ “السيد أو المولى”. كان طاغياً في المنزل يقسو على زوجته الذليلة، التي ستنتحر بسببه، وعلى أولاده المقهورين الذين سيقتل أحدهم، ومستبداً في عزبته يستغل المستخدمين. وهي الثورة التي ستبلغ ذروتها في النص ببصق إدريس في وجه والده ورغبته في ذبحه بالسكين، ثم صفقه الأبواب فالرحيل، مودعاً وطنه بالبول عليه وهو محلق في السماء. وستبدأ خيوط القضية في التكوين والتشبك حين تلقف اليمين الفرنسي، ذو المصلحة في دوام استعمار المغرب، رواية الشرايبي من حيث هي وثيقة إثبات غير منتظرة تبرر الوجود الفرنسي في المغرب بزعم تحديث بنياته وتمدين أهاليه. بالفعل، تهافتت على الرواية بعيد صدروها جرائد عديدة، وقد جاء في جريدة “ريفارول” مثلا إن “شاباً مغربياً، وهو السيد الشرايبي، ألف كتاباً بعنوان “الماضي البسيط”، يكشف فيه لمواطنيه ولنا نحن أيضاً هذه الحقيقة العسيرة على القول، والتي يخفيها عنا أعداء الاستعمار...”، ويقصد بها طبعاً أن الاستعمار هو وحده الكفيل بإنقاذ المغرب. ويعود رشيد نحدو ليقول عن كاتبنا الراحل إدريس الشرايبي: “بين فينة وأخرى، تتخلل تواريخ الآداب في العالم وقائع يكون أبطالها أو ضحاياها أدباء استثنائيين. ولأنها وقائع مثيرة بل وصاخبة، فقد أصبحت لفرط تداولها تعرف بقضية فلان”. تاريخ القمع ويشبه ظاهرة إدريس الشرايبي وروايته (الصدمة) “الماضي البسيط” بظاهرة جورج صاند “في تاريخ الأدب الفرنسي، التي اتسمت حياتها، مثل روايتها، بالجرأة والشطط واللامألوفية. كنزوعها الغريب إلى الترجل وفضائحها الغرامية وإباحيتها في معالجة الجنس. كما أشير إلى قضيتي جوستاف فلوبير التي صودرت روايته “مدام بوفاري”، وشارل بودلير، الذي منع ديوانه “أزهار الشر” بدعوى انتهاكهما للأخلاق، وإلى فضيحة جون جوني، الذي لم يعترف للإبداع في نصوصه بأية حدود فنية أو روادع أخلاقية، وديفيد هيربرت لورنس، وبوريس باسترناك، الذي كان ضحية حملة شرسة شنها عليه الحزب الشيوعي بدعوى تنصل روايته “الدكتور زيفاكو” من السياسة وحصوله على جائزة نوبل، وألكسندر سولجينيتسين، الذي اضطرته الرقابة الجدانوفية على رواياته إلى الهجرة والإقامة الدائمة في أميركا، وإدغار ألان بو، الذي شنعه الوعي النقدي المحافظ بدعوى غرائبية محكياته وبسبب إدمانه السكر والقمار والمخدرات. وتعتبر قضية طه حسين المتصلة بموقف السلطة الدوكسولوجية الأزهرية من كتابه الرائد عن الشعر الجاهلي، نموذجاً للصراع بين التقليد والتجديد في تاريخ الأدب المصري والعربي، وتماثلها قضية السوري حيدر حيدر، التي فجرتها السلطة نفسها حول روايته “وليمة لأعشاب البحر”. ولا يشكل تاريخ الأدب المغربي استثناء لهذه القاعدة المطّردة عالمياً، فهناك فضيحة “الخبز الحافي” لمحمد شكري، التي لفقتها رابطة العلماء بالمغرب وكذا الإكليروس الديني في مصر، والتي أدت إلى منع الكتاب من التداول العلني، لا السري، ما زالت طرية في الأذهان، أما أحمد الصفريوي، فقد أدى انصرافه في رواياته عن التنديد بالسياسة الاستعمارية وهيامه الرومانسي بمظاهر التقليد والأصلانية في المجتمع المغربي إلى اتهامه بالخيانة ووصف تلك الروايات بالاستقالة من الواقع. لكن، ما صلة هذا الاستطراد بإدريس الشرايبي؟ إن ما يتحصل منه هو أن جميع هؤلاء لم يتنكروا لكتبهم التي عرّضتهم لتلك المصائر. فسواء كانت أحكام وفتاوى الإدانة والمنع والتحريم صادرة عن محافل دينية أو أخلاقية أو سياسية أو نقدية، في أي منها لم يلجأ أي واحد من أولئك الأدباء إلى أن يتبرأ مما كتبه بدافع ندامة أو تبكيت ضمير. أما إدريس الشرايبي، فكان له موقف غريب من إحدى أروع رواياته، موقف سيتمخض عما سيعرف بـ “فضيحة” “الماضي البسيط”. الكتاب: سلطة الكتابة وسؤال الهوية الناشر: اتحاد كتاب المغرب
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©