الثلاثاء 14 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مساءلة المهيمنات الفلسفية.. تقويض المكرَّس

مساءلة المهيمنات الفلسفية.. تقويض المكرَّس
22 ديسمبر 2010 20:13
ينبش المفكّر والفيلسوف المغربي المعروف عبد السلام بنعبد العالي في كتابه الإشكالي والممتع والعميق: “الكتابة بيدين” الذي صدر مؤخراً ضمن سلسلة: “السلسلة المعرفية”، التي تصدرها دار توبقال للنشر في الدارالبيضاء، في عدد من الرموز والمفاهيم والأفكار الفلسفية التي شغلت واشتغل عليها أصحاب الأفكار الكبيرة التي أضاءت المشهد الفكري العالمي: رولان بارت، موريس بلانشو، الخطيبي، دولوز، نيتشه، بورخيس، بروست، غواتاري، ماركس، انجلز، وأسماء أخرى زار الدكتور عبد السلام بنعبد العالي غرفها ورفوف أفكارها، وقلّب في محتوى مؤلفاتها، وأعاد النظر في أفكارها من زوايا مختلفة ومتعددة. ويفتتح الدكتور عبد السلام بنعبد العالي كتابه متأملا في قولة لموريس بلانشو القائلة: “واليد ذات معان مجازية متشعّبة مثل الجاه والقدرة والسلطان وأول الشيء والأمر النّافذ والقهر والغلبة والحفظ والوقاية... “و” وحده شكل الانفصال يمكن أن يوحد الكلام والصمت، الجد والهزل، الحاجة إلى التعبير، وتردد فكر موزع لا يقر له قرار، وأخيرا رغبة الفكر في أن يعمل وفق منهج ونظام، ونفوره من المنظومة والنسق”. كتابة الـ “بين بين” يرى الدكتور بنعبد العالي أن المؤلفات التي تحمل توقيع أسماء مشتركة كثيرة، فهو يذكر “ماركس – انجلز، الإخوان غونكور، فيشان – بيشوه، الخطيبي – حسون، لاكولا بارط – ج.ل. نانسي، دولوز – غواتاري... إنها كتب تُخط بقلمين، وتكتب بيدين، وتُوقع باسمين. ويقول: “لا يخفى أن التوقف عند هذا النوع من التأليف من شأنه أن يتيح لنا الفرصة كي نعيد النظر في كثير من المفهومات التي تقوم عليها الكتابة شأن مفهوم المؤلف والتوقيع والتفكير والإبداع، بل ومفهوم الكتابة ذاته... إلا أن ما يهمنا هنا في هذا النوع من الكتابة هو كونه عملا يطبعه التعدد، ومن ثمة فهو يفتح لنا نافذة أخرى نستطيع من خلالها أن نطل من جديد على هذا المفهوم”. ويتساءل: ماذا يعني التأليف (والتفكير) بصيغة المثنى؟ هل يتعلق الأمر بتآزر فكرين وتعاونهما؟ أم بانصهار يُولد عنصرا ثالثا لا هو هذا الطرف ولا ذاك؟ هل يتعلق الأمر بتكامل أم باتحاد؟ بلغة الرياضيات: هل يتعلق الأمر بجمع أم بطرح، أم بضرب أم برفع إلى أسّ”. ويحيلنا إلى جيل دولوز، الذي قال عنه إنه يجيبنا عن مثل هذه الأسئلة موضحا كيف كان يشتغل إلى جانب فيليكس غواتاري عند تأليفهما للكتب العديدة التي وقعاها باسم مشترك: “لم يكن يهمنا أن نعمل معا، بقدر ما كان يعنينا هذا الحدث الغريب الذي هو أن نعمل بيننا. كنا نكف عن أن نكون “مؤلفا”. وهذا البين – بين كان يحيلنا إلى آخرين مختلفين عن هذا الطرف أو ذاك”. وبرأي الدكتور بنعبد العالي، الذي اقترب من هذا التقارب بين دولوز وفيليكس غواتاري: “لم يكن الأمر ليتعلق بمدرسة، ولا بالأولى بمذهب أو اتجاه فكري، وإنما بلقاءات، لقاءات يطبعها تقارب متباعد، تقارب مرجأ، ويورد قول دولوز: “ما كان يقوله لي فيليكس كنت أتمثله، وكان بإمكاني أن استخدمه ستة أشهر فيما بعد... لم نكن نرقص على الإيقاع نفسه، كنا دائما في تفاوت”. هذا التفاوت، هذا الإرجاء سرعان ما ينعكس على كل طرف ليجعله في انفلات عن ذاته. فكأن كلا الطرفين يبحث في الآخر عما يبعده هو عن نفسه. ما أبعدنا إذن عن مفهومات التآزر والالتقاء والتلاحم الفكري. رياضيا يمكن أن نقول إننا لسنا بصدد جمع وطرح، لسنا في الحساب العدد، وإنما في حساب التفاضل والتكامل، إننا لا نجمع جمعا حسابيا، بل نجمع جمعا تكامليا، أي إننا نضم الفروق والاختلافات: “لم نكن نعمل معا، كنا نعمل بين الاثنين.. لم نكن نعمل، كنا نتساوم ونتفاوض”. ليست الكتابة بيدين إذن كتابة بيد واحدة، وإنما هي كتابة بين يدين. فليس التعدد الاسمي كثرة مبعثرة من الوحدات، كما أنها لا ترمي إلى خلق وحدة تذوب فيها الأطراف وتنصهر. فلا يهم في الاسم المشترك إلا خط العارضة “الذي يفصل بين الطرفين مقربا أحدهما من الآخر”. بل ربما لا يهم الاسم المشترك ذاته، ما دمنا دوما أمام تعدد حتى وإن لم يكن اسميا. فلعل كل كتابة هي أصلا كتابة بيدين، حتى وإن كان الموقع يدا “واحدة”. الكتابة فضاء هويات سندبادية، فضاء البين – بين الذي يُخفي من ورائه أسماء متعددة حتى وإن لم يظهر منها إلا اسم بعينه. كل كاتب يكتب بيدين. “إحداهما تقبض، والأخرى تنتزع”. إحداهما تخط وتخط وتبني، والأخرى تسوّد ما خطته الأولى، كأنما تفصح عن رغبة في عدم الكتابة، أو عزوف عن التخطيط والبناء”. في اليد والآلة وفي مكان آخر من الكتاب، له علاقة ب “اليد، يتوقف الدكتور بنعبد العالي في مقالته “التفكير في عمل اليد” لينبهنا إلى أنه بالرغم من التطور البالغ الذي عرفته الكتابة فإنها لم تستطع أن تنزع عن اليد أهميتها وعلاقتها الحميمة بالكتابة. ولا أدل على ذلك من المكانة التي ما تزال المخطوطات تتبوؤها. فالتمكن من الاطلاع على عمل الكاتب “بخط يده” أمر لا يضاهى”. يقول بنعبد العالي: “إنه يجعلنا في التحام شديد مع النص بل مع صاحبه. وهذا لا يخص الكتابة وحدها. فكل عمل “من صنع اليد” يحظى في مجتمع التقنية بقيمة مادية ومعنوية تفوق أضعافا “مثيله” من صنع الآلة. لعل هذا ما جعل كتابا كبارا يمتنعون عن استعمال الآلة، أو لا يلجأون إليها في جميع نصوصهم، شأن جان جوني الذي كان يؤمن “أن الكتابة بواسطة الآلة لا يمكنها قط أن تكون كتابة جيدة”، أو شأن ديريدا الذي امتنع لمدة طويلة عن استعمال آلة الكتابة، بل عن استعمال الأقلام الحديثة مكتفيا باستعمال الريشة والحبر، وحتى عندما “انتصر” عليه الكومبيوتر فإنه لم يكن يستعمله، على حد قوله، إلا من أجل كتابات معينة كالدروس والرسائل، وحتى إن لجأ إليه فيما يخص نصوص المحاضرات والندوات فهو كان لا يجد بدا من أن يخط الصفحات الأولى بيده، أو شأن هايدغر الذي لم يكن يكتب قط إلا “بيده” إيمانا منه، على حد تعبيره بأنه “في الكتابة بواسطة الآلة، جميع الناس يتشابهون”. ذلك أن الآلة – برأي الدكتور بنعبد العالي- “تحول دون ظهور الخط اليدوي، دون ظهور “الحرف”،... كما يدل على ما يميز الشخص، أي على المزاج والطبع. في الكتابة الآلية يغدو اللفظ مجرد “أداة” وتختفي الطباع، بل يختفي الجسد. قد يقال بأن الكاتب سرعان ما يأخذ في النقر بيسر وسرعة وسهولة، سرعان ما “يألف” الآلة “فيتكون لديه، على حد تعبير دريدا، جسدا آخر... إلا أنه ليس الجسد نفسه”. كما قد يقال إن كانت اليد التي تحمل القلم تتوارى، فان اليد التي تنقر (أو كما تقول اللغة الفرنسية تضرب) تظل تعمل. إلا أن اليد لا تكتفي بان “تضرب” أو بأن “تحمل” القلم. اليد تصون وتحفظ. اليد تخط علامات، إنها تبين وتدل وتضير. اليد تتكلم. اليد تنطق. لكن ما يميزها أساسا هو أنها تعطي وتتلقى، “تقبض وتنتزع”. نقرأ في اللسان: “إنما سميت يدا لأنها إنما تكون بالإعطاء، والإعطاء إنالة باليد”. هذا ما جعل هايدغر ينفي أن تكون للحيوان أيدي. الحيوان يملك قوائم، والقوائم لا تصون ولا تشير ولا تدل ولا تتكلم ولا تهب وتعطي لا تأخذ ولا ترد... إنها لا تفكر، “لأن التفكير عمل اليد” (هايدغر).”. كما يتوقف الدكتور بنعبد العالي عند مسألة التسامح لدى جاك ديريدا، ففي مقالة الدكتور بنعبد العالي “من التسامح إلى الضيافة”، يشير الأستاذ بنعبد العالي إلى أن جاك ديريدا يدعونا إلى أن نعيد مُساءلة “مفهوم التسامح من جديد، لا اعتراضا عليه بل وفاء له. ذلك أن هذا المفهوم ربما لم يعد كافيا لتسليحنا بما يلزم لمقاومة العنف الهائج الذي يكتسح العالم، والذي يتخذ إشكالا متعددة ليس اقلها شأنا شكلها الرمزي. فلو نحن اعرنا انتباها إلى ما يجري من حولنا لتبين لنا أن زلزالا عنيفا قد اخذ يقوض الأوضاع التي اتخذ فيها التسامح شكله الأول منذ عدة قرون”. مؤكدا على أن ديريدا يصر على تذكيرنا بالأصول الدينية لمفهوم التسامح: “فقد تركت الحروب الدينية التي دارت بين المسيحيين، أو بين المسيحيين وغير المسيحيين، بصماتها على كلمة التسامح، فالتسامح فضيلة مسيحية أولا وقبل كل شيء، أو قل فضيلة كاثوليكية على وجه الخصوص”. ثم إن التسامح، مهما قلنا ومهما تحفظنا، يجيء دوما من جانب “الأقوى حجة”. فهو دوما تأكيد لسيادة. فكأن المتسامح يقول: سأغض الطرف عن كثير من الأمور وسأفسح لك المجال في بيتي، إلا أن عليك أن تتذكر دائما انك في بيتي. بهذا المعنى فالتسامح نقيض الضيافة، أو هو “ما يضع حدا لها”. فإذا أنا قرنت الضيافة بالتسامح وجعلت هذا شرط تلك، فمعنى ذلك أنني متمسك بالحفاظ على سيادتي ونفوذي وكل ما يتعلق بالرضى وبيتي وديانتي ولغتي وثقافتي... أنا أهب الضيافة وافتح بيتي متسامحا، أي شريطة أن يلتزم الغريب بمعايير حياتي، إن لم يكن بثقافتي ولغتي وتشريعاتي. معنى ذلك أنني لا أتحمل “الضيف”، ولا أتحمل الغريب والآخر، إلا في حدود معينة، إلا وفق شروط. فالتسامح ضيافة متخوفة، ضيافة متحفظة، ضيافة سيد لمسود، ضيافة حذرة غيورة على سيادتها، ضيافة مشروطة. فهو اذا ليس ضيافة. ذلك أن الضيافة لا تكون كذلك إلا إذا كانت منفتحة على ما لا يمكن توقعه، إلا إذا كانت منفتحة على غرابة الغريب، إلا إذا كانت متقبلة للضيف وما يضيفه. إنها لا تكون ضيافة إلا إذا كانت زيارة، وليس تلبية لدعوة واستجابة لطلب. فإذا كان التسامح ضيافة مقننة، ضابطة لقواعد الاستقبال، معقَّمة ضد فيروسات الآخر، مسلحة ضد ما فيه من غرابة، فان الضيافة “الخالصة” انفتاح على ممكنات، ومخاطرة. إنها متطلعة لما في الغريب من غرابة”. ويرى الدكتور بنعبد العالي أن ديريدا يعترف “أن مفهوم الضيافة الخالصة هذا “لا يمكن له أن يصبح بندا من بنود القانون أو السياسة”، إلا أن هذه الضيافة تظل مع ذلك، ورغم ما يبدو في الأمر من مفارقة، “هي الشرط الأساسي لما هو سياسي ولما هو حقوقي”. فالسياسة والحقوق، بل الأخلاق ذاتها لا يمكن أن تكون بلا ضيافة. والتسامح، أي الضيافة المشروط، لا بد وأن يقترن بالضيافة اللامشروطة. وأنا لا أستطيع أن أفتح باب بيتي للاستضافة من غير “تسجيل الشيء غير المشروط في نسق معين للشروط”. في التذكر والنسيان وفي مكان آخر من هذا الكتاب القيم، يأخذنا الدكتور بنعبد العالي في مقالته “في النسيان” ليخبرنا أن “من حسنات التحليل النفسي كونه أعاد لبعض الأفعال النفسية قيمتها، وبيّن أن كثيرا مما كان يصدر عن الإنسان من حركات وأقوال، ويعدّ من قبيل ما ليس له معنى، لم يكن كذلك، وإنما هو ذو مغزى محدد، بل هو يرمي إلى أهداف وغايات. وهكذا فقد تبيّن أن دلالات الحياة النفسية ومعانيها تظهر أكثر ما تظهر في ما كان ينظر إليه على أنه تافه لا قيمة له شأن الهفوات والأحلام وفلتات اللسان و... والنسيان. تبين إذن أن النسيان ليس مجرد إهمال وإغفال، وانه ليس “قوة” سلبية، وإنما هو، مثلما سبق لنيتشه أن قال: “قدرة ايجابية بالمعنى الدقيق للكلمة”، “قدرة تغلق من حين لآخر أبواب الوعي ونوافذه” فتحول دون تدفق الماضي وسعيه لان يحضر ويتجمد ويتطابق.” وبرأي المؤلف فإن “ما نقوله عن النسيان عادة من حيث هو خسارة وضياع، كما ينبه هايدغر، ليس إلا نتيجة للفهم الأفلاطوني الميتافيزيقي للذاكرة من حيث هي امتلاء وغنى. يقول: “لقد تعودنا أن نرى في النسيان مجرد عدم الاحتفاظ، مجرد ضياع... هذا في حين أن تاريخ الفكر الغربي لم يبدأ بالتفكير في ما يمكن أن يفكر فيه بل بالضبط بتركه طيّ النسيان. عندما نُصح كل مقبل على نظم الشعر قديما أن يحفظ ديوان الأشعار عن ظهر قلب، لينساها فيما بعد، فليس ذلك إلا لكون النسيان قوة حارسة “بفضلها يحافظ على سر الأشياء”. فكل شاعر هو، مبدئيا، منقب في الآثار التي طواها النسيان أو كاد، كل شاعر مصارع لقوة جبارة هي قوة النسيان.وفي الكتاب، مقالات أخرى عميقة تتوقف عند إشكالات وأفكار فلسفية لا يجب أن نتجاوزها وكلها كتبت بأسلوب يشد القارئ، مقالات لها نكهتها الساحرة، وقوتها التي توصل الفكرة بالشذرة، وبالسخرية أحيانا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©