السبت 11 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وتعطلت لغة الكلام...

وتعطلت لغة الكلام...
22 ديسمبر 2010 20:09
الموسيقى زاد الروح وبركتها الضافية. ليس في الأمر مبالغة ولا مزايدة، فالموسيقى سيدة الحياة الأولى، بها بدأت الروح الإنسانية تتعرف إلى ذاتها. وفيها تستعيد إشراقاتها وانفتاحاتها النورسية تاركة وراءها أوشال الحياة المادية وأوساخها لتعلن أن النفس تكبر في المجرد، وتحلق الى مديات اكثر اتساعا وجمالا في ترانيم تسيل كما عذوبة موج بحر او رذاذاً يأتي على حين غرة وعلى غير موعد. في حضرة الموسيقى يحدث أن يطير القلب إلى الأعالي، ليزقزق في السماوات مثل بلبل أو نورس. في حضرة الموسيقى تتراجع تلك البلادة المتكدسة على الأرواح لتعبَّ من حرارة الموسيقى ما يذيب ثلوج الداخل، فتخف الأجساد، تشفّ، ترقى، تدور وتتمايل على إيقاع يوحدها في الحركة والقول. تعلن الموسيقى حضورها فيعلو صوتها على ضجيج الموات الذي يكاد يغلف أجمل ما في حياتنا. وهي وحدها، ربما من بين الفنون، تحكي مع الجميع، مع الغني والفقير، والصغير والكبير، لا تعرف فروقاً عمرية ولا طبقية، ولا تفهم في إيقاع المال والبورصات. إنها تفهم شيئاً واحداً تمارسه بإخلاص عجيب: أن تقيم وليمة فرح جماعية لعشاقها، وترتبهم وفق إيقاع قلبها. تولم لهم مما تيسر لها من الايقاعات والانغام، وعلى سلمها تأخذهم الى حضنها الواسع. وهي وحدها الموسيقى في حضورها الأسطوري تبدو بطلة المكان وسَمْتَهُ ويقينه، وربما تفاحة القلب الناضجة على عناق شغف يأخذها الى البوح أو يسري بها إلى عالم السحر على جناحي نغم فيما سلام حقيقي يلف العازفين ويأخذهم إلى جناته الوارفة. وإذ تفتح بواباتها للجميع، وتقيم لهم حفلها الجماعي، تقدم لهم دعوة مجانية للعبور الى الشاطئ الابعد، إلى الأقصى في الروح والقلب. بيت الحوار ورغم انها عصية على الحصر ولا تعرف سوى أن تكون طليقة في الأجواء، ورغم أنها لا تقبل الحبس بين الجدران ولا تسكن البيوت، الا ان بعض الاماكن تبدو مكاناً خالصاً للموسيقى، كأنما وجدت لتنولد فيها مقطوعة او تنجدل بين جدرانها مقامات الوجد. من هذه الاماكن الصغيرة في مساحتها الشاسعة الرحبة في غنائها وثرائها بيت العود العربي في جميلتنا أبوظبي، البيت الذي يشعر فيه المرء انه في “بيت للموسيقى”. والبيت ليس سوى “فيلا” صغيرة، مثقفة، أنيقة لكنها الأناقة الترفة الآتية من البساطة، مزينة باللوحات الفنية، تعبق فيها طيوب الزهور كما طيوب الابداع الموسيقي الناهض من آلات تبدو كمن استيقظ من نومه للتو... في البيت يلتقي عشاق الموسيقى، ينجدلون معا في ضفيرة انسانية وابداعية يبدو اثرها في بسماتهم والتماعات عيونهم، في اصابعهم وهي تدوزن الأوتار ومعها تدوزن الارواح والأعمار الغافية، تنبهها من غفلة او توشوش لها لتعبر بخفر على ارض المقام. في أفيائه العابقة بالمحبة، يلتقون من كل الأعمار والجنسيات ليصدحوا معا نغما إنسانيا موحدا يشيع الفرح والحبور، وينثر ورود الوئام بين الجميع في احتفائية جميلة تفتح القلوب قبل الأيادي للعناق، وهذه في تقديري واحدة من أهم الدروس التي تنطوي عليها الفكرة، في عصر باتت الفردية عنوانه الأبرز وتراجعت الى مكان سحيق تلك المودات الحميمية التي كانت تملأ جدران البيوت. يحق لهم ان يحتفوا ببيتهم الصغير هذا، البيت الذي نمت بين تفاصيله مواهبهم ووجدت لها يداً ترعاها، وروحاً تظللها وتحنو عليها وهي تعلمها اصول العزف على أوتار العود ولا تنسى ان تسرب لها مع التعليم الفني تعاليم الحياة الاخلاقية وفضائل المعرفة التي تستغرق الكائن في ملكوتها. وتزودها على مدى عامين هما مدة الدراسة في البيت، بالعديد من المهارات سواء فيما يتعلق بطرق العزف والتدوين أو فلسفة وفكر الإبداع الموسيقي، وحين ينضج ويصبح مؤهلاً لحمل الرسالة يقدم حفلاً موسيقياً هو مشروع التخرج بالنسبة إليه، المشروع الذي سيعتمد بعده كعازف منفرد لآلة العود، والذي سيطلقه في عالم الإبداع بجناحين من المعرفة العملية والنظرية تمكنانه من التحليق في عالم وضع بيت العود مفاتيحه بين يديه، وما عليه سوى أن يغذ السير باتجاه حلمه. يحق لكل هذه الأعمار او الأجيال أن تحتفي ببيتها، ففي أي مكان، يمكن أن يجتمع طفل عمره 7 سنوات إلى جانب شاب في الـ 20 وسيدة في الـ 30 ورجل في الـ 50 وينجزوا معاً حواراً ابداعياً، سوى في بيوت عمادها الثقافة الرصينة وغايتها الجمال. بيوت الفكر والفن والثقافة والموسيقى هي وحدها القادرة على إنجاز علاقة من هذا النوع، وحوار لا يلقي بالاً لكل ما يقال عن صراع الأجيال، فهو لا يفهم إلا في حوار الأجيال. في الفكرة عبدالله العامري مدير إدارة الثقافة والفنون في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، قال كلاماً دقيقاً وفي الصميم، بهذه المناسبة: “إن الإبداع الفني والموسيقي نادر ويحتاج إلى فترة زمنية طويلة ليتبلور لدى صاحبه، ولكن ما شهدناه من خلال بيت العود العربي في أبوظبي، وبفضل الأساتذة المشرفين على التدريس، جعل من الممكن للطلاب المهتمين بتعلم العزف على العود أن يبدعوا ويقدموا أفضل ما عندهم”. هذا الاستدراك من العامري، الخاص ببيت العود، لم يأت من فراغ، فهو متابع لما يجري وحريص على حضور حفلات البيت كلها، ولهذا يستطيع أن يصرح وعن معرفة بالأثر الهائل الذي تمارسه الموسيقى في بناء الإنسان من الداخل، يقول: “لقد استطعنا ومن خلال بيت العود خلق جسر جديد بين الناس والموسيقى للعودة إلى جماليات المعاني في اللغة العربية وقيمتها العالية لإيماننا بما للموسيقى من دور أساسي في تأسيس الإنسان بشكل راق من الداخل، وبخاصة آلة العود التي لا غنى عنها كونها تعود لـ 2350 سنة قبل الميلاد. وهي الآلة الأولى التي عاشت في كل الحضارات، في بلاد بين النهرين، في وادي النيل، وبعد ذلك انتقل العود إلى إيران وتركيا وإلى أوروبا، فالعود جوهر ثقافتنا الموسيقية العربية وجوهر الشرق بشكل عام”. وبيت العود العربي في أبوظبي الذي أسسته هيئة أبوظبي للثقافة والتراث في إطار استراتيجيتها للحفاظ على التراث الثقافي العربي والموسيقي منه على وجه الخصوص، ليس إلا واحد من بيوتات أخرى تتناثر في عواصم عربية عدة ويرعاها الفنان المبدع والموسيقى المجدد نصير شمة... هذا الحالم المفتون بالموسيقى والجمال، الذي بدت له فكرة إنشاء بيت العود “حاجة ملحة سببها الخلل الذي تنطوي عليه المناهج التدريسية للآلات العربية، يقول: “كانت الدراسة ست سنوات وأنجزت مع أستاذي علي الإمام البرنامج في عامين وبقيت أربعة أعوام تائهاً بين وجودي كطالب ومدرس بنفس الوقت، أثناء هذه الأربع سنوات بدأت بالتفكير جدياً بإنقاذ الطالب من عبء السنوات الستة وتكثيف الدراسة في عامين كاملين وبدون شروط العمر والمعدل، فكل من يملك موهبة من حقه أن يُمارسها. بالطبع لم ينفذ نصير في التو والحال، بل اختبر صوابية الفكرة في المعهد العالي للموسيقى بتونس، عندها أعلن عن فكرة بيت العود الذي أراده “مشروعاً ثقافياً بكل معنى الكلمة لا يعنى فقط بفكرة تأسيس العازف المنفرد بل بتكوينه الجمالي والثقافي والفني”. ويضيف شمة: “في البدء كانت الوجهة لندن، لكن تبنت الفكرة الدكتورة رتيبة الحفني مستشار رئيس دار الأوبرا المصرية وغيرت اتجاهي من لندن إلى مصر لإنشاء بيت العود بالتعاون مع دار الأوبرا المصرية التابعة لوزارة الثقافة، وفي غضون ستة أشهر قدمت بالفعل مجموعة من الهواة الذين انتموا للبيت بعرض احتراف، وسرعان ما بدأ صيت بيت العود يذيع، ونتائجه تصبح محط اهتمام الشارع العربي والإعلامي. يطمح نصير شمة من بيته هذا أن “يزرع عازفين بارعين بسن مبكر جداً في كل مكان من أرجاء العالم، ويعتقد أنه بعد مرور 13 عام على انطلاق الفكرة بمصر وخمسة أعوام في الجزائر وثلاثة أعوام في أبوظبي فإن هناك عشرات الخريجين في آلات العود والقانون قادرين على ملء الساحة لعدة عقود قادمة. الى ذلك يحلم بزيادة مساحة الجمال في المجتمع العربي من خلال هؤلاء وذويهم الذين دخلوا هذا العالم تشجيعاً لأبنائهم وشيئاً فشيئاً اكتشفوا جماليات الموسيقى وأدمنوا حبها. إن ما تحقق خلال السنوات الماضية يمنحني، يقول نصير شمة، القوة الدافعة لتأسيس بيوت للموسيقى في كل أرجاء العالم العربي من خلال خريجي بيوت العود. حلمٌ بدأ بسيطاً ولكني دافعت عنه وبذلت كل وقتي والخبرة التي تحصّلت وأتحصّل عليها لأضعها في متناول الطلبة لتختزل سنوات من أعمارهم وتضع هذه الخلاصة بين أيديهم بحب وبدون مقابل. وعن بيت العود في أبوظبي بشكل خاص يؤكد نصير شمة أنه بعد مرور 3 سنوات على تأسيسه “جاءت النتائج مبشرة بتعليم مجموعة من عشرات الشباب والشابات والأطفال الذين صارت لهم – بعد عام واحد فقط من افتتاح بيت العود - مشاركات في معهد العالم العربي في باريس، ومهرجان أصيلة بالمغرب، ومهرجان بعلبك في لبنان، ثم في ملتقى مصر الدولي الأول، وفي الاحتفال بافتتاح الأوبرا السلطانية بمسقط، للعود ناهيك عن الحفلات التي أقامها البيت في أبوظبي في عدة قاعات، بكل هذه الدول وبغيرها كان اسم الإمارات وبيت العود بأبوظبي مشاركاً بفعالية. في الأفق وعن آفاق البيت المستقبلية يضيف: “أتوقع من خلال متابعتي لتطوّر الطلبة أن يظهر من بيت العود بأبوظبي طاقات استثنائية لبعض الأطفال والشاب الشابات خصوصاً وأن العام المقبل 2011 م سيتخرج خلاله مجموعة من الأطفال الذين تحصلوا على مهارات رُبما لم تتوفر من قبل لأحد بالعود أو بالقانون، ونحن حالياً نستعد لتنظيم ملتقى أبوظبي الدولي الأول للعود الذي سيشمل مدارس عود مختلفة وصناعات العود وباحثي العود ومستقبله. وأما الجديد فهو إطلاق بيت العود في الاسكندرية بالتعاون مع مكتبة الاسكندرية وكذلك سيكون لدينا بيت جديد في المنصورة في جمهورية مصر العربية خلال العام القادم 2011م بالإضافة إلى طرابلس وليبيا”. ولا يخفي نصير سعادته بالجمهور الجميل الذي يُتابع كل نشاطات بيت العود في أبوظبي، ويحضر بكثرة ويشهد من حفل لآخر التطوّر الذي يحدث لكل الطلبة، ويلفت إلى أن مستوى الأداء من حفلة إلى أخرى يصبح أكثر إتقاناً ليصل إلى مرحلة الاحتراف، وهذا يُعطيني إيماناً راسخاً بأن الموسيقى الأصيلة قادرة على أن تتغلغل في وجدان المجتمع والجيل الجديد والتغيير الذي تحدثه بسلوكهم تغيراً لا يُمكن أن نراه في أي مجال غير مجال الموسيقى دوناً عن باقي الفنون. من رياض السنباطي، إلى عبد الوهاب والشريف محي الدين حيدر مروراً بالأعمال التركية والخليجية التراثية ومؤلفات نصير شمة الذي يصنع مع هؤلاء الموهوبين فرحه الخاص، ومع “نسم علينا الهوى” التي أداها الطفل علي حسين الشيخ البالغ من العمر 5 سنوات والذي كان مفاجأة الحفل، هبت نسائم الهوى الموسيقي وتعطلت لغة الكلام لكي تتواتر المباهج في احتفالية بيت العود معلنة سمتاً ثقافياً عالياً في ظل التلوث السمعي الذي يصب في الآذان صباح مساء، وفي كل شكل وقالب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©