الثلاثاء 14 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشعر قاس كما الرياضيات

الشعر قاس كما الرياضيات
8 ديسمبر 2010 21:40
حدث ثقافي بارز سيشهده مسرح محمد الخامس في الرباط يوم 13 ديسمبر 2010 حيث سيتسلم الشاعر والروائي والكاتب المغربي الشهير الطاهر بند جلون جائزة الأركانة العالمية للشعر، بحضور ثلة من الشخصيات الفكرية والأدبية المغربية والعربية والأوروبية التى دعيت لهذا الحدث البارز. جائزة الأركانة العالمية للشعر، جائزة لها قيمتها الكبيرة لأن مانحها هو بيت الشعر في المغرب، وهو بيت ليس كبيوت الشعر الشبيهة لأن مؤسسه هو الشاعر المغربي الكبير محمد بنيس. وسبق لبيت الشعر أن أعلن قبل مدة عن منح جائزة الأركانة العالمية للشعر للشاعر والروائي المغربي الطاهر بن جلون وكانت لجنة تحكيم هذه الدورة برئاسة أحد أبرز رواد الشعر العربي الدكتور محمد الرسغيني. بالشعر بَدَأ الطاهر بن جلون الكتابة قبْلَ أنْ تقودَهُ إلى السَّرد، ولكنْ مِنْ غير أنْ يتنكرَ لِفِتنةِ البدايةِ الشعرية ووُعودِها. هكذا أتاحتْ لهُ الكتابة، على مدى قرابة نِصْفِ قرن، إقامة خَصيبَة بيْنَ شكليْن إبداعييْن، عَرَفَ الطاهر بن جلون كيفَ يُديرُ حواراً سِرِّيّاً بينهما بما يُقوّي وشائجَهُما، في ممارستِهِ النصية، ويجعل كلاًّ منهما يتغذى من الآخر. بهذِهِ الإقامة، أيضاً، اِنخرَطَ الطاهر بن جلون في الكتابة مِنْ داخِل حَيَويةِ سُؤال الأدب. حَيَوية اِحتفظتْ على رهاناتِها البعيدة، وأمَّنت، في الإنجاز النصّي، التعايشَ البنّاء بين السَّردِ والشعر، ومَنعَت الأوّلَ مِنْ أنْ يَحْجُبَ الثاني، على نحو ما هو بيِّنٌ مِنْ عناصِر تفاعُلِهما ووشائِجهِ الظاهرة والخفية في مختلف أطوار المسار الكتابي الطويل. وعود الشعر تنضوي البداية الشعرية للطاهر بن جلون ـ حسب بيان بيت الشعر ـ ضِمْنَ الوعْدِ الذي اِستنبَتتْهُ، منتصف الستينيات، مجموعة أنفاس بأعضائها الثلاثة: عبد اللطيف اللعبي ومصطفى النيسابوري ومحمد خير الدين، في سياق مجتمعي صعب، لمْ يَمْنعْ هذه المجموعَة مِنَ الحُلم، ومِنْ إشراكِ القصيدَةِ في النهوض بما يَسْتحِقهُ هذا الحُلم. وقد اِرتبطت كتابة الشاعر الطاهر بن جلون، مُنذ النصوص الأولى، بألمِ الإنسان وبالدفاع عن قيم الحرية والكرامة، وهو الارتباط الذي تشعّبَ فيما بَعْد، مُنصِتاً لِهذا الألمِ لا في بُعْدِهِ الوطني وحسْب، وإنّما، أيضاً، في بُعْدِه الكوني. من المجموعةِ الشعرية الأولى: “رجالٌ تحت كَفن الصّمت” إلى المجموعة الأخيرة “جِنِين وقصائد أخرى”، عَدَّدَتْ قصيدةُ الشاعر الطاهر بن جلون مَسَالِكها إلى ما تُعيدُ بناءَهُ عَبْرَ التخييل، وعَثرَتْ على مَسَاربها الصّامتة حتى نَحْوَ كتابَتِهِ السَّردية نفسِها. فقدْ أنصَتتْ قصيدتُهُ للفضاءِ المغربي اِنطلاقاً مِنْ إعادَةِ كتابةِ المُدُن المغربية شِعريّاً. كما حَرَصَت على إرساءِ شِعْريتِها بالاشتغال على الهامش وعلى بناء ذاكرةٍ لم تكن تُفرِّط في تمَسُّكِها بالمستقبل. ذاكرةٌ مُستقبلية تتغذى لا مِنَ المُنفتِح في الماضي وحَسْب، بل، أيضاً، من اِحتمال الآتي. وإلى جانبِ ذلك وفي تفاعلٍ معه، عَبَرَتْ كتابتُهُ الشعرية بالمخيال المغربي والعربي إلى لغةٍ أخرى، بما جعلَ اللغة الفرنسية، التي اِختارَها الطاهر بن جلون مادّةَ كِتابَتِه، تنطوي على ما هو مغربي، مُؤمِّنة لهُ حواراً ثقافيّاً منفتحاً. في شِعْرهِ، يحضرُ العنصر المغربي مُتفاعلاً مع ثقافةِ لغاتٍ أخرى، تضخُّ فيه دِماءً تمنعُ اِنغِلاقه وتسمحُ للقصيدة أنْ تُضمِرَ أصواتاً مُتعدّدة، تُبعِدُها عن حُدودِ الصوْتِ الواحد. ولكنّ الدّّمَ المغربي، في كلِّ ذلك، يَظلُّ، من داخل هذا التفاعل والوعْي الكتابي المُصاحِبِ لهُ، ساريّاً في عروق اللغة التي بها يكتبُ الشاعر الطاهر بن جلون. وفي هذا السريان، تَحْفظ القصيدةُ نسَبَها إلى الهُوية المغربية انطلاقاً من حمولة تخييلية، فيها وبها يتحاوَرُ الوطني والعربي والكوني. مسؤولية الكتابة مارسَ الشاعر الطاهر بن جلون الكتابة بما هي مسؤولية، وتصدّى شعرُهُ للقضايا المصيرية، وفي مُقدّمتها القضية الفلسطينية، التي تحْضُرُ في مُنجَزهِ اِنطلاقا مِنْ رَصْدِ فداحَةِ الدَّمار ومِنْ إدماج الشهداء الفلسطينيين في البناء النصي، بما يَسْتتبعُهُ هذا الإدماجُ مِنْ تفاصيلَ صامتةٍ، تُخوِّلُ للقصيدة أنْ تُواجهَ النسْيَانَ بلغةٍ رَفِيعَة، وأن تُدينَ الخَرَابَ بإيقاعِ الكلِمَةِ الشعرية واستعاراتِها. إنّ استحقاقَ التتويج بجائزة الأركانة العالمية لا يُكرِّسُ الطاهر بن جلون شاعراً مغربيّاً مُنصِتاً لحِوَار العالَمِ وحسب، بل يَكشِفُ، أيضاً، تعَدُّدَ الألسُن واللغات في خريطة الشعر المغربي المعاصر، وحَيَوية هذا التعدّد في إغناءِ الشعرية المغربية. في حفل التسليم الرسمي سيلقي الطاهر بنجون بعض أحدث قصائده الشعرية كما سيلقي كلمته: “الشعر.. الحياة” والتي كتبها الطاهر بنجلون بهذه المناسبة وقام بترجمتها الى العربية الدكتور عبد الرحمن طنكول عميد كلية الآداب ظهر المهراز بفاس ورئيس سابق لبيت الشعر. يقول الطاهر بن جلون في كلمته “الشعر .. حياة”: “لا قلبَ لطائرٍ كيْ يتغنّى في دغَلٍ من الأسئلة”، هكذا ينعتُ روني شار الشاعرَ المثقل بالانشغالات اليومية، المُنحدرَ من بلدٍ حيث الأسئلةُ مشاكل، حيث الشعر ليس موسيقى تصاحِبَ غروب الشمس، حيث الكاتب شاهدٌ يقظٌ ومسؤول. كنّا نتمنّى أن نكتبَ تزجية ً للوقت، من أجل التغنّي بجماليات العالم، للاحتفاء بالزمن السعيد. لكنّ السعادة ليست في حاجة إلى الأدب. إنّ الحياة المُكتملة والمُنسجمة والمتوازنة ليست في حاجة إلى الشعر. إنّ مثلَ هذه الحياة هي مجرّد خيال. الحياة صِراع يقتضي كلّ يوم إنقاذ روحنا وأحيانا جسدنا. الشاعرُ يعاندُ قصْـدَ تغيير العالم بكلماته وتغيير الناس بإرادته وأمنيته في الخير. غير أنّ الشعر لا يغيّر الإنسان والعالم فقط، بل يندِّد بهفوات الذات، يعمِّقها ويبرزها. صحيحٌ أنّ هناك أملا مهما وإلا لن يكتب أحد: الشاعر هو الذي يتكلم في حِضن الزمن. إنه في الزمن، مُختبئ كالقـنّاص في غابة غامضة. إنّه، كما يؤكّد ذلك ويليام فولكنر في روايته “أنا أحتضر” هو الذي يتحقّق من “وجع ويأس العظام التي تنفتح، الحبة الصلبة التي تُشدّ على الأحشاء المنتهكة للأحداث”. إنّ الشعر هنا، في هذا الاقتضاء المطلق، لا يترك مكانا لأي شيء إلا لوجَع العالم الذي ينتشر كل يوم أكثر بين الناس الأكثر حاجة والأكثر إهمالا. الرجال والنساء الذين ينامون كي يحتموا من الريح، من الغبار ومن احتقار أناس آخرين. ينبعثُ الشعر من هذا الرماد الذي تنبت عليه، من غير توقع، الوردةُ التي تكذّب مخاوفـنا وانقباضاتنا.لا يشكّل الشعر حِصارا ضِدَّ الفقر، لكنّه ذرّة الصمت التي تثبت الكرامة في جوهرها. إنّه يعكسُ في أعيننا جمال السماء، براءةَ نظرة الطفل الذي لا يطلب أيَّ شيء من العالم الذي يتجاهله. الشاعر يندّد، يصرخ، يهزّ الضمائر من غير أن يتمكّن من الانتصار. جدوى الشعر ويقول الطاهر بن جلون: أتذكّر حديثا مع الفقيد محمود درويش حول لاجدوى الشعر. فبفضلِ حياةٍ كلُّها شعر، كان بالإمكان أنْ نعتقدَ أن فلسطين ستحرر. لقد رحلَ مُتعبًا، منكسرا بسبب انعكاسات هذا التوهم. لكن في المقاومة وبالمقاومة يُشيّد الإنسانُ كرامته كإنسان، أي كشاعر. في “المسكونون” يضع ألبير كامو على لسان ليبوتين ما يلي: “ينبغي أنْ نذهبَ إلى ماهو أكثر استعجالا، هو أولا أن يأكل الجميع. أما الكتب، الصالونات، المسارح فإلى ما بعد. إنّ فردتي حذاء أفضل من شكسبير”. إنها طريقة فظة لطرح مشكل حقيقي. ماذا تساوي قصيدة، وماذا يساوي كتاب أمام رجل يموت جوعا؟ أمام شعب سُلبت أرضه؟ نسيته الهيئاتُ الدولية؟ ألقيَ به في المخيمات في انتظار عودة إلى البيت تبدو أكثر فأكثر وهمية؟ من البديهي أنّ الشعرَ لا يمنحُ الأكل ولا العدالة لشعب مُمزّق من قبل مستعمر طاغ. لكنْ عِند الاستعجال، يتوقّف الشعرُ ويتركُ المكانَ للفعلِ كيْ لا يأكل الإنسان فحسب، وإنما أيضا كيْ تُصانَ كرامتُه. إنَّ صيانة الكرامة هي نوعٌ من القصيدة. الصراع من أجل الكرامة هو بامتياز فعلٌ شعري. إنه ليس أمرا تجريديا أو تخييليا. إنه واقعٌ لا يمكنُ دحضُه. أنْ نجعلَ الحياة ترقص! أنْ نجعلها تغنّي في أنفسنا، في آمالنا والمطالبة بأن تكون عادلة، جميلة وكريمة. في هذا الموقف تَكمنُ القصيدة. إنّ الحياة هي الخلود الذي يلتحق بنا ويرغمنا على الدفاع عنها وإلى تجنيبها أوساخ الرداءة. لهذا فالشعر نادر. لا يقبلُ أيَّ ضعف ولا مُساومة. إنه مستقيمٌ وعنيد ولا يقبلُ التواطؤَ ولا اللـّغو. الشعرُ قاسٍ مثله مثل الرياضيات. الشعر من نفس الطبيعة: لا يساوم مع الحقيقة. صحيح، كما يلاحظ هرمان ملفيل “إن للحقيقة المعبّر عنها من غير تواطؤ حدوداً ممزقة”. الأمر هو نفسه بالنسبة للشعر الذي يَسخر كثيرا من حدوده التي مزقها الشقاء الذي يعلو على النجوم التي تُغرينا. الزمن هو الحراق الأكثر اندماجا بالنسبة للشعر. إنّ قوة القصيدة تكمُن في مقاومتها للزمن والتاريخ، لاشيءَ يتحرّك ولاشيءَ يضعف أو يشحُب. فرجينيا وولف (1882 ـ 1941) التي لم تكنْ شاعرةً كتبت في “بيت جاكوب”: “أحب الجمل التي لا تتحرك حتى ولو مرت فوقها عدة جيوش. أحب أن تكون الكلمات من فولاذ. لهذا الشعر وحده سيبقى حينما ستنسى الإنسانية كل شيء”. هذا ما نلاحظه اليوم: نستشهد بالشعراء وليس بالروائيين أو المؤرخين، نجعلُ منهم شهودا ونقول من بعدهم: “كما قال المتنبي، أحمد شوقي، شكسبير.. إلخ”. و في هذا المساء، وكما محمود، أنا أيضا أحـِنّ إلى خبز أمي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©