الثلاثاء 14 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

نيرودا.. الشاعر الذي دُفن 5 مرّات!

نيرودا.. الشاعر الذي دُفن 5 مرّات!
30 يناير 2020 01:52

على الرّغم من رحيله عن عالمنا قبل 47 عاماً، إلا أن اسمه لا يزال يحتل عناوين الصّحف البارزة من حين إلى حين، نقرأ قصائده المشتعلة بالحب فنتنهّد، لكن غضباً عارماً سيعتمل في الصدور لو اكتشفنا غدره بأقرب النّاس إليه. كان معتدّاً بذاته فخوراً بقصائده التي يردّدها المحبّون والمهمّشون والفقراء، لكنّه في قرارة نفسه كان يعرف أنّه أتى أفعالاً لا تواجه إلا بالاحتقار والإدانة، وها هو اسمه يخرج علينا من جديد رغم موته الطّويل، ليس فقط عبر أخبار كتبه التي يعاد طباعتها بلغات عدّة، ولكن أيضاً ليحتل «مانشيتات» صفحات الجريمة ومجلات الفضائح، فالرّجل الذي شكّل طيلة حياته رمزاً ثورياً لا يتغيّر بقدر ما يتأقلم مع موجات الزّمن المتقلّبة بين مدّ وجزر، كان بوهيمياً عاشقاً للملذّات راغباً في عيش الصورة الأيقونية التي يتخيّلها عن نفسه، بكل تناقضاتها وجوانبها المتعدّدة، فهو الشّاعر والمناضل واليساري والخطيب والسّياسي، وهو أيضاً الرومانسي والحالم والعاشق والمجنون والمغامر. ربّما لكل هذه الشخصيات التي سكنته طوال حياته التي بلغت 69 عاماً، تعدّدت أيضاً مرّات دفنه مرّة بعد أخرى.
نعم.. بابلو نيرودا، أكبر شعراء تشيلي واللغة الأسبانية بأسرها، لا يكفّ عن إثارة المشاكل، بل لا يزال يُحدث الكثير من الجلبة والضّجيج، كأنّه في موته كما كان في حياته، لا يرضى سوى بالوجود تحت الأضواء الساطعة. مات نيرودا مرّة واحدة في ظروف غامضة ليلة 23 سبتمبر 1973، ليدفن بعدها أربع مرّات متتالية، مرّة أولى في 1973 وثانية في 1974 وثالثة في 1992، ليستقرّ أخيراً في 2016 جوار زوجته الأخيرة ماتيلدي أوروتيا في جزيرة نيجرا، على بعد 120 كيلومتراً إلى الغرب من العاصمة التشيلية سانتياغو.

ما بعد الموت
في الرابع من أكتوبر 2019، وللمرّة الخامسة، أمرت محكمة تشيلية باستخراج رفات الشّاعر بابلو نيرودا الحائز على جائزة نوبل في الآداب عام 1971، في إطار التّحقيقات المفتوحة منذ رحيله ليلة 23 سبتمبر 1973 لمعرفة سبب وفاته، فعلى مدار العقود الأربعة الأخيرة، حاصرت نظريّات المؤامرة سبب وفاة الشّاعر اليساري بعد أيام قليلة من نجاح الانقلاب العسكري الوحشي في تشيلي، والذي قاده الجنرال أوجستو بينوشيه في 1973 ضد الرّئيس سلفادور أليندي، وانتهى بقتل أليندي وتولي بينوشيه السلطة، صدم نيرودا من مقتل صديقه المقرّب أليندي، وناصبه نظام بينوشيه العداء، ليموت نيرودا بعد 12 يوماً فقط من نجاح الانقلاب في ظروف مريبة.

كان نيرودا قد أُدخل إلى إحدى العيادات الطبّية آنذاك مصاباً بسرطان البروستاتا، وتقول الرّواية الرّسمية إن سبب وفاته هو السّرطان، لكن بعض المقرّبين من نيرودا في الحزب الشيوعي، وكذلك سائقه وحارسه الشّخصي مانويل أرايا، أكّدوا منذ سنوات طويلة أن نيرودا مات في ظروف غامضة، ووفقاً لمانويل أرايا فإن نيرودا مات جراء حقنه بمادة سامة من قبل عملاء بينوشيه، بعد 3 أيام فقط من عرض المكسيك اللجوء السياسي عليه.

كانت ماتيلدي أوروتيا أرملة الشاعر، والمؤسسة الثقافية التي تحمل اسمه، رفضتا منذ البداية الرواية الرسمية لموت نيرودا، وهو ما دفع المؤسّسة إلى دعم الحكم الذي أصدره القاضي ماريو كاروزا في أكتوبر 2019 بإخراج رفات الشّاعر للمرّة الخامسة لفحصها، وناشدت أن يتمّ استخراج الرّفات «بأكبر قدر ممكن من الرّعاية والاحترام»، وطالبت بتوضيح «أي شكوك فيما يتعلّق بكيفية وفاة نيرودا».

الأميركي الغامض
في يونيه 2013 برز اسم جديد في التّحقيقات حول الموت المريب لنيرودا، بعدما قاد إدواردو كونتريراس، محامي مؤسّسة الشاعر، حملة جديدة للكشف عن شخصية طبيب ذُكر أنّه وُجد في غرفة نيرودا يوم مقتله، ليختفي بعد ذلك إلى الأبد! وأكّد كونتريراس أن الدكتور سيرجيو دريبر، الذي شهد في الأصل أنّه كان مع نيرودا وقت وفاته يوم 23 سبتمبر 1973، قال مؤخّراً أن طبيباً آخر يدعى «برايس» حضر إلى غرفة نيرودا يوم مقتله.

وبالعودة إلى قوائم أطباء العيادة التي مات فيها نيرودا، لم تظهر السجلات أي ذكر لاسم برايس هذا، وقال دريبر إنه لم يره مرّة أخرى بعد هذا اليوم. علاوة على ذلك، وصف دريبر برايس جيداً للمحقّقين، وقادت جميع المواصفات إلى افتراض أن هذا الطبيب ليس إلا مايكل تاونلي، عميل الـ CIA المزدوج الذي عمل مع الشرطة السرّية التشيلية تحت قيادة بينوشيه لتصفية معارضيه في السبعينيات، والذي كوفئ لاحقاً بحمايته ضمن برنامج حماية الشهود في الولايات المتحدة الأميركية، بعد إقراره بقتل معارضي بينوشيه البارزين في واشنطن وبوينس آيرس ومدن أخرى. بالنسبة إلى كونتريراس: «أياً كانت شخصية هذا الرجل الغامض، إلا أن الحقيقة المهمة هي أنه هو الذي حقن نيرودا بالسم»، وتم حينها استخراج جثة الشاعر، ليتم فحصها من قبل اختصاصي الطب الشرعي في تشيلي.
كما أثبتت تحقيقات الشرطة التشيلية أن نيرودا كان قد انتقل للعلاج في عيادة سانتا ماريا بالعاصمة التشيلية سانتياغو ليلة 19 سبتمبر 1973، وقالت أرملته ماتيلدي في مذكّراتها أنهم عرفوا حينها أن حياة نيرودا في خطر، لذا قاموا باتصالات لإخراجه من تشيلي على وجه السرعة، خاصة بعد نجاح انقلاب بينوشيه ومقتل الرئيس أليندي، وهنا قدّم السفير المكسيكي عرضاً لنيرودا باللجوء إلى بلاده، وكان على نيرودا أن يذهب إليه صباح 24 سبتمبر 1973 ليغادر تشيلي نهائياً، لكنه قتل ليلة 23 سبتمبر في غرفته بالعيادة، بعد حقنه بمادة غامضة أثناء نومه!

بكتيريا الرّفات
بعد أن أثبتت التّحقيقات أن ملفّات الطب الشرعي الرسمية لوفاة نيرودا ليست صحيحة، تأكّد للمحقّقين أن الشّاعر لم يمت جراء السرطان، بعدما كشف فريق من الباحثين الأسبان عام 2014 عن وجود هائل لبكتيريا غامضة في رفات نيرودا، وكان إدواردو كونتريراس قد أشار أثناء المحاكمة إلى أن هذه المكورات العنقودية الذهبية التي عثر عليها بكميات كبيرة في رفات نيرودا: «كانت البكتيريا نفسها التي عثر عليها في رفات جميع من قتلوا على يد بينوشيه، وهي ذات المادة التي كان يستخدمها يوجينيو بيريوس الكيميائي بالشرطة السرية لنظام بينوشيه والمسؤول عن تصفية معارضيه السياسيين».
ومن جانبه، أعرب مانويل أرايا سائق نيرودا الخاص، عن سعادته بأن يستمع العالم لأوّل مرة إلى ما يردده منذ 35 عاماً كاملة، فيما أكد المحامي كونتريراس أن نيرودا قُتل لأنّه باختصار: «كان آخر رمز للوحدة الشعبية في تشيلي، والعامل الأقوى على تعبئة الجماهير ضد بينوشيه، لذلك كان لا بدّ من قتله، ليتمكّن بينوشيه من إسكات أيّ معارضة ضده في تشيلي». ووفقاً لرواية أرايا، فقد اتّصل به نيرودا في اليوم الذي توفي فيه، ليخبره بأنه حقن بشيء ما في بطنه أثناء نومه، وطلب منه أن يحضر إلى العيادة على الفور، وهو ما تكمله أرملته في مذكّراتها فتقول إنهم عثروا على نيرودا حياً وهو يتلوى من الألم وقد تحول لون بشرته إلى الأحمر، وتوفي نيرودا في ذلك المساء بالعيادة، وقال أرايا في حديث لبي بي سي عام 2013: «لن أغيّر روايتي حتى مماتي. لقد مات نيرودا مقتولاً، لم يريدوا له أن يغادر البلاد فقتلوه».
أحدثت وفاة نيرودا صدى كبيراً في جميع أنحاء العالم، وأمر بينوشيه بإعلان حظر التجول في البلاد خوفاً من أن تتحوّل جنازة الشاعر إلى حدث عام، لكن آلاف التشيليين تمرّدوا وملأوا الشّوارع فور إذاعة إعلان حظر التجول، لتصبح جنازة بابلو نيرودا أوّل احتجاج علني ضد ديكتاتورية بينوشيه العسكرية في تشيلي، والتي استمرت 17 عاماً كاملة.

اغتصاب معلن
في الصفحة 44 من مذكّراته الشّهيرة التي حملت عنوان «أعترفُ أنّني قد عشت»، والتي ترجمها إلى العربية محمود صبح ونشرتها المؤسّسة العربية للدراسات والنشر في سبعينيات القرن الماضي، يروي نيرودا قصّة اغتصابه لخادمة شابة كانت تعمل ببيته في سريلانكا حين كان موفداً دبلوماسياً هناك عام 1928، وفي المذكّرات يروي نيرودا الواقعة كما لو كان ما ارتكبه فعل عادي، ويختتمها بقوله: «كان عليّ أن أحتقر نفسي وأن تحتقرني».
المدهش هنا أن هذا الاعتراف المشين مرّ مرور الكرام على مدى عقود وعقود، ما كتبه نيرودا من تفاصيل لهذه الجريمة نشر لأوّل مرّة بعد رحيله بعام واحد، أي سنة 1974، ولم تدفع القصة أحداً من الكُتّاب العالميين أو الصحافة أو المدافعات عن حقوق النساء آنذاك إلى التنديد بجريمة نيرودا، الذي حكى الواقعة هو الآخر بلا أي شعور بالذنب، كما لو كان يسرد علينا زيارته لطبيب أسنان!
المدهش أيضاً هو التواطؤ الذي أقدم عليه المترجم المصري محمود صبح في ترجمته لهذه الواقعة في مذكّرات نيرودا، حيث تلاعب بالكلمات والمفردات ليوحي إلينا بأنّ الفتاة المغتصبة لم تكن تمانع عملية الاغتصاب، بل استسلمت لها، وهو ما يتعارض مع النص الأسباني الذي كتبه نيرودا نفسه! وعن صمت الحركة الثقافية العالمية عن هذه الجريمة البشعة، تكتب الناقدة الأسبانية كارلا مورينا مقالاً لاذعاً تحت عنوان «أعترف أنّني قد اُنتُهكت» جاء فيه: «يدّعي المجتمع أنه يدين جرائم الاغتصاب وقتل النّساء، لكنّه في الحقيقة لا يفعل ذلك. بل يعلّم الرّجال الحطّ من النّساء بإهانتهنّ، ويعلّم النساء أن يكنّ ألعاباً جيّدة في أيدي الرجال»!

الابنة المنبوذة
جريمة أخرى لا يمكن أن تُغتفر لنيرودا، كشف عنها تحقيق صحفي قام به باحثان تشيليان عام 2007، ويزعم الكشف عن أكبر سر في حياة نيرودا، ألا وهو تخلّيه عن طفلته الأولى «مالفا مارينا» بسبب إصابتها منذ مولدها بمرض استسقاء الدّماغ الذي لا شفاء منه، والحقيقة أن ما حاول الباحثان التّأكيد عليه من أن العثور على ابنة سرية لنيرودا يعد اكتشافاً جديداً، وربّما سيدفع البعض إلى إعادة قراءة منجزه الشّعري والأدبي من خلال نظرة مغايرة، ما هو إلا سرّ معروف من قبل، ففي السّيرة الذاتية لنيرودا «أعترف أنّني قد عشت»، هناك أكثر من إشارة على لسان نيرودا نفسه إلى ابنته هذه، وظروف مرضها الذي ماتت على إثره بعد ذلك، صحيح أن هذه الإشارات تأتي سريعة وخاطفة، وكأنّ الشاعر يحاول جاهداً أن يهرب من الآلام التي تسبّبها له هذه الذّكريات، إلا أنها موجودة ونستطيع تلمّسها بوضوح، وفي الثّبت التّاريخي الذي تختتم به السّيرة، هناك أكثر من إشارة إلى قصّة ابنته، وربما يكون الإنجاز الحقيقي الذي توصّل إليه الباحثان، هو عثورهما على مقبرة الطفلة في مدينة «جودا» الهولندية، بعد أكثر من 70 عاماً على رحيلها.
صحيح أن نيرودا لا يستطرد كثيراً في مذكّراته عن ابنته الأولى مالفا مارينا وظروف موتها وحيدة بعيدة عنه وعن أمّها، إلا أنّنا لن نعدم العديد من الإشارات هنا أو هناك حول الطفلة ومعاناتها، ففي إحدى رسائله إلى صديقته سارة تورني يكتب نيرودا: «ابنتي، أو التي يجب أن أدعوها هكذا، كائن سخيف للغاية، تشبه الفاصلة المنقوطة برأسها الضخم ذاك، مصّاصة دماء من ثلاثة كيلو جرامات فقط».
كما يورد الباحثان خطاباً موجهاً من الشاعر الإسباني «فيديركو غارثيا لوركا» قبيل مقتله في 18 يونيو عام 1936 إلى صديقه نيرودا، يحمل قصيدة للوركا بعنوان «آياتي عن مالفا مارينا نيرودا»، وحتى وقت قريب كان هذه الخطاب مجهولاً، حتى تم اكتشافه ونشره في العام 1984، كما يورد الباحثان نصاً لرسالة مجهولة وردت من نيرودا إلى والده في العام 1934 يقول فيها عقب مولد الطفلة: «يبدو أنها ولدت قبل موعدها، نجاهد كي لا تموت، ولدت وهي لا تحمل من الوزن سوى 2 كيلو و400 جرام فقط، لكنها جميلة كدمية صغيرة، هي لم تشف بعد، لكنني أستطيع الجزم بأننا تخطينا الفترة الأصعب، وسوف تشهد الأيام القليلة المقبلة كيف ستكبر وتصبح بدينة».

عار التّخلّي
كان نيرودا قد انفصل عن زوجته الهولندية الأولى ماريا أنطوانيتا هاخينار بعد اندلاع الحرب الأهلية في إسبانيا عام 1936، أو بالأحرى هي التي قرّرت الانفصال عنه، بعدما أصبح نيرودا منشغلاً عنها وعن ابنته الصّغيرة بظروف الحرب الأهلية وقصائده ونضاله السياسي، خاصة بعد اغتيال صديقه المقرّب الشاعر غارثيا لوركا، انخراط نيرودا حينها في تنظيم الشباب والمثقفين للوقوف في وجه الفاشية، وكأنّه يهرب بهذا كله من مرض ابنته العضال واغتيال صديقه الوحيد. ورحلت الأم إلى هولندا حيث تركت طفلتها المريضة في رعاية إحدى العائلات بمدينة «خودا» الهولندية، لكن الطفلة ماتت هناك في الثاني من مارس عام 1943 وهي في عمر ثمانية أعوام، كانت الأم خلال هذه الأعوام تكتب كثيراً إلى نيرودا طالبة منه المال لمعالجة ابنته المريضة، لكنه لم يرد عليها أبداً.
في إحدى هذه الرّسائل تلوم الزوجة المهجورة نيرودا على إهماله لها ولابنته المريضة فتقول: «إهمالك تجاهنا أمر لن يُنسى، خاصة لطفلتك المريضة. اليوم هو 18 من الشهر ولم أتلق مالك بعد، اضطررت بداية هذا الشهر إلى دفع نفقات إقامة مالفا عن أكتوبر، لكن مع راتبي هذا لن يمكنني سوى دفع جزء ضئيل من نفقاتها، يا له من عار حقاً، إنهم عائلة طيبة، لن أجد أفضل منهم لرعاية مالفا، وهي أيضاً ارتبطت بهم، لقد تقدّم عقلها كثيراً. الآن لا أستطيع الذهاب لرؤيتها لأنني لا أملك قرشاً، سأنفق آخر ما أملك لأرسل لك هذه الرسالة».
وعندما تعدّدت مراسلاتها إلى نيرودا دون أن يصلها منه أي رد، ذهبت الزوجة إلى القنصلية التشيلية في لاهاي وحذّرت من موت ابنتها المريضة، لكنّها أيضاً لم تتلقّ أي رد، إلى أن ماتت الطفلة في مارس 1943، وماتت الأم بعدها بسنوات في لاهاي عام 1965، ودفنت في مقبرة جماعية بجوار ابنتها في مدينة جودا الهولندية.
أدى نبأ الكشف عن ابنة سرية لبابلو نيرودا في 2007 إلى ضجّة كبيرة في الصّحافة العالمية آنذاك، ولم يقف الإبداع الأدبي ببعيد عن هذه القصّة المؤلمة، فبعد 8 سنوات من كشف الصحافة التشيلية عن سر ابنة نيرودا، نشرت الروائية الهولندية هاخر بيترز روايتها المعنونة «مالفا» عام 2015، والتي استوحتها من قصة ابنة نيرودا السرية وتخلّيه عنها، وحقّقت الرواية نجاحاً في أوروبا ولغات أخرى، منها العربية التي نُقلت إليها عام 2018 عن دار السّاقي في لندن.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا الآن هو: لماذا تخلّى نيرودا عن ابنته المريضة بهذا الشّكل القاسي؟
قبل وقت قصير من ولادة مالفا في مدريد يوم 18 أغسطس 1934، وقع نيرودا في حب رسامة أرجنتينية تكبره بخمسة عشر عاماً تُدعى ديليا ديل كاريل، اشتهرت باسم «هورميجا» وسط زملائها في الحزب الشيوعي الفرنسي في إسبانيا آنذاك، وفي نوفمبر من العام نفسه قرّر نيرودا الانفصال عن زوجته الهولندية وترك ابنته المريضة ليغادر مع ديليا إلى باريس، التي سيطرت على نيرودا بقوة شخصيتها، منذ هذه اللحظة نأى نيرودا بنفسه عن مسؤولياته تجاه زوجته وابنته، بل تجاهل أبوته لها تماماً، كأنّها لم تكن.

الملهمة السرية
سر آخر، شاء له نيرودا ألا يخرج إلى العلن إلا بعد مماته: من هي الملهمة التي أوحت إليه بأجمل قصائد الحب في ديوانه الأشهر «عشرون قصيدة حبّ وأغنية يائسة؟» والتي ظلّت لعقود مجهولة للجميع، إلى أن كشفت ألبرتينا روسا أثوكار، قبل سنوات، عن حزمة من الرسائل العاطفية بينها وبين نيرودا، تؤكّد أنها كانت الملهمة التي كتب لأجلها أجمل وأعذب قصائد الحب الأسبانية حتى يومنا هذا، ويبدو أن حرص نيرودا طوال حياته على عدم ذكر اسم ألبرتينا لا في أحاديثه أو في مذكراته، يعود إلى أنها تزوجت فيما بعد من صديقه المقرب أنخيل كروشاغا.
بدأت الحكاية بين ألبرتينا ونيرودا في العام 1923، واستمرت حتى العام إلى 1932، تسع سنوات كاملة كتب خلالها نيرودا أفضل قصائده الرومانسية في حبيبته الجميلة، على الرغم من أن ألبرتينا نفسها تعترف في مذكراتها بأنها رغم علاقتها بنيرودا آنذاك، إلا أنه ظل يواعد أخريات، في هذه الفترة أرسل نيرودا كدبلوماسي إلى سيلان، حيث ارتكب جريمة الاغتصاب بحق الخادمة الشابة، وكتب من سيلان إلى ألبرتينا التي كانت حينها في أوروبا طالباً الزواج بها، إلا أنها لم تقبل العرض، لتنتهي القصة إلى الأبد، وليستمر نيرودا بعد ذلك في الانتقال من امرأة إلى أخرى، إلى أن أنهى حياته مع زوجته الأخيرة ماتيلدي التي حين التقاها أول مرة عام 1946 كان متزوجاً من الأرجنتينية ديليا دل كاريل، لكنّ لقاءه بماتيلدي لم يمر بسلام.
تقول الأسطورة: إن نيرودا وماتيلدي التقيا عام 1946، بعد ثلاث سنوات من زواجه من ديليا ديل كاريل التي ترك لأجلها زوجته الهولندية الأولى وأم طفلته المريضة، ثم التقيا مرة أخرى عام 1949، لتبدأ علاقتهما في الخفاء، إلى أن وصل الأمر لزوجته في عام 1955، فطلبت ديليا الطلاق، وانصاع نيرودا ليتزوج من ماتيلدي أوروتيا، والتي بقيت معه حتى موته الغامض ليلة 23 سبتمبر 1973.

«أعترف أنّني قد عشت»
«أعترف أنّني قد عشت» هو عنوان السّيرة الذّاتية التي كتبها الشّاعر التّشيلي الشّهير بابلو نيرودا (1904 – 1973)، وقد استغرق العمل عليها عدّة سنوات حتى اكتملت بوفاة نيرودا نفسه، الذي مات في ظروف غامضة بعد انقلاب الجنرال أوجستو بينوشيه عام 1973، وصدرت السيرة بعد عام واحد من رحيل نيرودا في 1974.
يستعرض نيرودا في سيرته الضّخمة بداياته مع الشِّعر وتحرّكاته كدبلوماسي وشاعر وسياسي ومناضل ضد الديكتاتورية العسكرية والفاشية في أميركا اللاتينية والعالم، فيبدأ من القرية الصغيرة التي ولد فيها في تشيلي، وصولاً إلى صداقاته وعلاقاته مع أسماء كبيرة لا تقل عن: إرنستو تشي جيفارا وجابرييل جارثيا ماركيز وفيديريكو جارثيا لوركا وبول إيلوار وبيكاسو وأراغون وميغويل هرنانديز وفيديل كاسترو وغيرهم. إضافة إلى رحلاته العديدة للمكسيك والاتحاد السوفييتي وآسيا وإيطاليا وفرنسا، ومشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية. كما يسرد علينا نيرودا ولادة مجموعاته الشعرية الأهم، والتي صنعت منه أحد أكبر شعراء اللغة الإسبانية والعالم، وجعلته يحوز جائزة نوبل في الآداب عام 1971، ومن أهمّها: الشفق (1923)، عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة (1924)، الإقامة في الأرض (1935)، إسبانيا في القلب (1937)، النّشيد العام (1950)، آيات القبطان (1952)، العنب والرياح (1954)، مائة سوناتة حب (1959).

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©