الأربعاء 15 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

بين وجهه الوضيء وأخاديده الغائرة.. الجرح النرجسي للشعراء!

بين وجهه الوضيء وأخاديده الغائرة.. الجرح النرجسي للشعراء!
1 أغسطس 2019 03:53

محمود قرني

الجرح النرجسي الذي أصاب البشرية إزاء نظرية الانشطار النووي، واكتشاف الإنسان أنه ليس إلا واحداً من الشياطين الذين طردهم «دانتي» من «مطهره»، ربما هو نفسه الجرح النرجسي الذي أصاب الشعراء بعد هبوط أول رحلة بشرية على سطح القمر وتواتر آلاف الصور لعذابات الفراغ الصخري والغازي على سطحه. الاكتشاف نفسه لم يكن فحسب خصماً من رصيد الرومانسية على مر العصور، لكنه أيضاً كان خصماً من رصيد تلك الأساطير التي عاشت مع الإنسان ربما لملايين السنين القمرية. فتقديرات العلم لعمر القمر أنه يتجاوز أربعة مليارات من السنين، لذلك لن يمكننا إحصاء الغزليات التي حيكت في سحره ولا عدد النساء اللائي حلمن بحلوله فيهن. وإذا كان عصر العلم أسقط مئات الأساطير التي حاكها السومريون، والفينيق، والفراعنة، والآشوريون حول أبراج السماء الاثني عشر التي أطلقوا عليها منازل القمر، فالمؤكد أن الشعراء لم يسقطوا إلى حضيض العلم بأقمارهم التي يبدو أنها لا تموت. ينطبق هذا على شعرنا العربي منذ جاهليته وحتى آخر شعرائنا، كما ينطبق على الشعر الإنساني في معظم مدارسه وتجلياته. لذلك يبدو الترويج لفكرة فرار القمر من يابسة الشعر شائعة سخيفة لكنها طويلة الأجل، وربما كان الهدف منها التأكيد على أن العلم يستطيع أن يواصل قضمه لتركة الشعر في عالم مترام وغير عابئ بالشعراء. الشيء الوحيد ممكن التصديق هنا هو تحولات صورة القمر على مدار العصور حسب تصورات المذاهب الفنية التي لم تكن منفصلة بدورها عن التحولات الفكرية والسياسية والمجتمعية. لذلك لا يمكن للمرء أن يتعامل مع انتقاد شاعرة بحجم «نازك الملائكة» لظاهرة غياب القمر عن الشعر الحديث سوى باعتباره جزءاً من موقفها المرتبك من قصيدة الشعر الحر رغم ريادتها المؤكدة. وقد كالت نازك عشرات الاتهامات للنص الجديد في كتابها المهم «قضايا الشعر المعاصر»، إلا أن المحصلة تجاوزت نظرتها الأكثر من سلبية وأنتجت فترات المد القومي شعراً يعد بين أرفع شعرنا عبر تاريخه، ولا يمكننا أن نستثني نازك نفسها من المشاركة في تعظيم هذا الرصيد. كان موقف نازك شائعاً في أيامها لربطه الدوجمائي بين تناقضات المعرفة العقلية التي تميز عصر العلم والمعرفة الحدسية التي تميز تعقيدات الشعر. فالعلم هو نتاج المعرفة البرهانية، أما الشعر فهو نتاج المعرفة الحدسية، لذلك ربما كان الشعراء أعداء طبيعيين لمفاهيم المدنية الحديثة التي أنتجت أعلى حالات التشيؤ، فعندما سُئِل جوته عن تعريف المدينة قال: إنها ذلك المكان الذي لا يمكن للشعر أن يعيش فيه. الشاعر كذلك ضد الطبقية ومتهوس بفكرتي العدالة والحرية مهما كانت تبعاتهما، وقد فقد بوشكين منزلته القيصرية لأنه كان يذهب إلى السوق ليتناول غداءه مع الحمالين وينشدهم قصائده التي تحث على الثورة ضد الظلم، وكان مارفيل سكرتيراً خاصاً لجون ميلتون لكنه كان يمقت عقائديته وكان يصفه بأنه باحث عن قمر يمتدح مسيحيته لكنه في النهاية لم يترك نجمة واحدة في سمائه. وأظن أن شركاء نازك في تأسيس الحداثة الشعرية العربية من العراقيين على نحو خاص لم يغب القمر عن شعرهم، لاسيما في الديوان الأشهر لعبد الوهاب البياتي «قمر شيراز» حيث يبدو قمره أكثر صوفية، حيث يستعيد حافظ وسعدي الشيرازي في مطلع ديوانه حين يقول: «أجرح قلبي، أسقي من دمه شعري، تتألَّق جوهرة في قاع النهر الإنساني، تطير فراشات حمر، تولد من شعري، امرأة حامل قمراً شيرازيّاً في سنبلةٍ من ذهب مضفورٍ..»، كما تتبدى الصورة الأكثر رومانسية للقمر في قصيدة «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب: «عيناك غابتا نخيل ساعة السحر.. أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر».
إن استعادة أسطورة القمر والأساطير التاريخية كافة ليست إلا استعادة لعالم بكر يستعيد شهواته، كما أنها أعلى تعبيرات الإنسان الحر في عالم تبدو كل انتصاراته مؤقتة وعابرة. كل هذا يعزز فكرة قيامة الشاعر الأسطورية. وقد ظل القمر ولا يزال واحداً من أساطير تاريخنا الإنساني قبل أن يكون أسطورة في تاريخ الشعر. الأسطورة هنا نمط من أنماط المعرفة التي لا تعطي الطقس معناه فحسب بل تحوله إلى قيمة رمزية في دفتر المثالية في إطار صورة غير نمطية للمثال الأعلى في عالم تحاول فيه القدرة الإنسانية خلق أنماط جديدة للوعي. فالشاعر يعيش في انتظار ميلاد البطل، أو في انتظار الهزيمة التي يحل معها الظلام ثم الموت، لكنه يؤمن بالبعث الجديد وفراديسه الأرضية. تلك الصورة رسمها «نورثروب فراي» ليس للبطل الرومانسي فحسب بل لكل بطولة يمكن أن تحققها القصيدة. ليس غريباً إذن أن يوصف الشعراء بأنهم رعاة غير مهذبين وصلت بهم الصفاقة إلى إدانة فكرة النظام نفسها! فكيف إذن عاش القمر بين طيات القصائد حتى أزمنتنا تلك؟ لنتأمل مثلاً ديوان «منارات» لـ «سان جون بيرس» أحد رواد الحداثة الفرنسية، سنجد أنه لم يخل من ظلال القمر على امتداد نصه الملحمي حول بحار العالم. فالبحر عنده يلد الشرائع والأقمار كما يلد المرجان «إنه البحر الذي يجمع أطراف الشوارع كلها، كنموذج للسلطان الأعلى» كما أنه «جسد امرأة، دورة قمرية، أو أنه مدينة العاج كاسم أنثوي لامرأة نبيلة»، لكن الأقمار نفسها تحرق فتاة في المشهد الرابع من ملحمته «أناباز» تلك الملحمة التي كانت نعياً لأخطاء الجيوش الفرنسية أمام ألمانيا النازية، وهي الملحمة التي كانت سبباً في نفي بيرس وإسقاط الجنسية الفرنسية عنه. سنجد الصورة نفسها ضمن آخر طبقات الحداثة العربية. فالشاعر محمد الماغوط يطلق أجمل دواوينه تحت عنوان «حزن في ضوء القمر» كما يطلق صيحة ربما كانت الأكثر رومانسية في شعرنا الحديث عندما يفتتح ديوانه بالقول: «أيها الربيعُ المقبلُ من عينيها/‏‏ أيها الكناري المسافرُ في ضوء القمر/‏‏ خذني إليها/‏‏ قصيدةَ غرامٍ أو طعنةَ خنجر/‏‏ فأنا متشرّد وجريح/‏‏ أحبُّ المطر وأنين الأمواج البعيدة..». إن استخدامات القمر في هذا المقطع، المفرط في غنائيته، تبدو قديمة على حداثتها لأنها ترادف بين القمر والحبيبة بما جرى عليه الشعر العربي، لكنها تنطوي على جمال من نوع خاص يستبطنه تضافر اللغة والصورة الشعرية في مفارقة تجمع بين الغرام وطعنة الخنجر في سطر شعري واحد، وربما كان تجاور المتناقضات هو صانع سحرية الماغوط كلها دون أن يكون في حاجة لتقديم مبررات على ذلك. والشعر يمكنه أن يكون جميلاً دون أن يكون لدينا شواهد تسمح للنقد بأن يقوم بمهمة الفقيه في الدرس والتحليل، بل ربما يكون الشعر جميلاً دون أن يكون له معنى كما يقول بورخيس. لكن صورة القمر تستعيد أسطوريتها في ديوان «الجوع والقمر» كفصل من التراجيديا الريفية لدي شاعر من بطون الحداثة العربية هو محمد عفيفي مطر الذي تبدو استخداماته للقمر أكثر إيلاماً ووظيفية. تعود قصيدة «الجوع والقمر» إلى الأسطورة البابلية باعتبار القمر إله النماء، لذلك سنجد أن مقاطع القصيدة الأربعة تنتهي بتوسلات حارقة للقمر بأن يهب الأطفال الجوعى بعض الذرة، بعض الحياة. يقول مطر: «لا شيء يأكله الصغار/‏‏ فاترك عباءتك القديمة يا قمر/‏‏ واسرق لهم بعض الذرة.. بعض الذرة» إلى أن يصل إلى قوله: «الأمهات بلغن سن اليأس/‏‏ في صمت القرى عاماً فعاماً/‏‏ والسراويل القديمة في انتظار/‏‏ فخرجن في ليل القرى يخمشن أفخاذاً ويلطمن الفروج/‏‏ يحلبن أضواء البروج/‏‏يشهقن إغراء ويبكين ابتهالاً للقمر». إن استعادة شاعر من قلب الحداثة لأسطورة غارقة في ماضويتها قد يبدو في نظر العلم واحدة من أضاليل كثيرة لشاعر أخرق، لكنها في الحقيقة رديف لقيمة العدل المفقودة التي لا يمكن للعلم أن يدركها، وكذلك رديف لقيمة النماء التي تَعِدُ ببعثٍ جديد للجوعى وسط جحيم الحرب التي كان العلم نفسه ضالعاً في جرائمها. القمر إذن يمكنه أن يكون بحراً يحاكي امرأة في المنفي كما عند بيرس، ويمكنه أن يكون وطناً للحب أو طعنة لخنجر لدى محمد الماغوط، كما يمكنه أن يكون رغيفاً للجوعى كما يراه عفيفي مطر. لكنه أيضاً يمكن أن يكون وطناً خائناً أو حبيبة خائنة كما يتبدى في نص بديع لمحمود درويش هو «قمر الشتاء» من ديوانه عاشق من فلسطين: «سألّم جثتك الشهيدهْ/‏‏ وأذيبها بالملح والكبريت.. ثم أعبّها.. كالشاي كالخمر الرديئة.. كالقصيده/‏‏ في سوق شعر خائب وأقول للشعراء: يا شعراء أمتنا المجيدة!/‏‏ أنا قاتل القمر الذي كنتم عبيده !! ثم يقول في المقطع الأخير: عيني على قمر الشتاء.. وقد ترمّد في دمي.. قلبي على قرص الدخان! لا تظلموني أيّها الجبناء لم أقتل سوى نذل جبان/‏‏ بالأمس عاهدني وحين أتيته في الصبح.. خان» وتبدو هنا دلالة القمر مغايرة بدرجة كبيرة لما طرأ عليه استخدامه شعرياً باعتباره رديفاً للبهاء، ولبياض الوجه والسريرة، حيث يبدو مجرد خائن وما الشاعر هنا إلا الثائر ضد الخيانة، بينما يخاطب الشعراء وهو يقول هذا هو الخائن الذي لم تكونوا إلا عبيده. يصح طبعاً أن يكون الخائن هنا حبيبة أو وطناً، فدرويش واجه خيانات غير محصورة، تعددت وجوهها بين عاشقات وأصدقاء وحكومات وأنظمة سياسية.
وقد تعددت صورة القمر في الشعر العربي على مدار العصور بداية من العصر الجاهلي حتى عصرنا الحديث، فهو عند عنترة رديف الحبيبة: «وبدت فقلت البدر ليلة تمه/‏‏ قد قلدته نجومها الجوزاء/‏‏ بسمت فلاح ضياء لؤلؤ ثغرها/‏‏ فيه لداء العاشقين شفاء». وهو ليلة الخلس التي ينتظرها امرؤ القيس: «ألا رب يوم قد لهوت بدلها/‏‏ إذا ما أبوها ليلة غاب أو غفل/‏‏ فقالت لأتراب لها قد رميته/‏‏ فكيف به إن مات أو كيف يحتبل/‏‏ أيخفي لنا إن كان في الليل دفنه/‏‏ فقلن وهل يخفى الهلال إذا أفل؟!» أما شاعر الإحياء محمود سامي البارودي فيشابه بين القمر وصورة الحسن في وجه حبيبته: «فَتاة لَها فِي مَنْصِبِ الْحُسْنِ سُورَة/‏‏ تقصِّرُ عنها الغِيدُ وهي رواجحُ/‏‏ أحاطَ على مثلِ الكثيبِ إزارها/‏‏ ودَارَتْ عَلَى مِثْلِ الْقَناة الوَشائِحُ/‏‏ ففي الغصنِ منها إن تثنَّت مشابِهٌ/‏‏ وفى البدرِ منها إن تجلَّت ملامحُ».
وعلى ما تبدت عليه مراوحات صورة القمر قديماً وحديثاً في شعرنا وفي شعر العالم، لا يمكن للمرء أن يتفهم تلك القراءات المتعسفة التي حاولت اصطياد ملامح الحداثة في مشروع جيل الريادة ومن تلاه عبر تأويلات ليست هي جوهر الحداثة بأي معنى. فتحولات صورة القمر بين الماضي والحاضر لم تراوح مكانها سوى باستخدام مفردة القمر كرديف للبدر الذي شاع استخدامه في شعرنا القديم، وهذه الملاحظة تمثل جوهر ما توقفت عنده نازك الملائكة. فالحداثة مشروع حضاري بالأساس، لكن أهميتها تتأتى من موقفها النقدي من العالم، فهي تمجيد للتغيير والاختلاف والانفصال، والآخرية، والتعدد والابتكار على ما يحصيه إيهاب حسن واكتافيوباث، وهو ما يمكن اختصاره في مفردة المستقبل. وأظن أن الشعر العربي استطاع أن يحقق تجاوزاً هائلاً نحو هذا المستقبل من دون أن يكون ذلك عبئاً على فكرة الأبدية التي ترزح تحتها الثقافة العربية والتي تضرب عرض الحائط بفكرة الزمن. من هنا تتبدى مشكلتنا بعيداً عن الشعر. فهي مشكلة العقل النقدي الذي يرى التاريخ دائرياً، لذلك ثمة تيارات تدفع في اتجاه العودة إلى العام الأول للتقويم القمري، باعتبار أن هذا هو المرادف الوحيد لعودة العرب إلى صفائهم الأول!

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©