الثلاثاء 14 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لوعة الفراق (10)

لوعة الفراق (10)
1 أكتوبر 2009 00:16
قام الشعر العربي بوظيفة هامة في تربية العواطف وتغذية الوجدان، وكان لكبار الشعراء الأوائل فضل دمغ الأفكار الشيقة بصياغات شعرية بديعة؛ تناقلتها وتذوقتها الأجيال المتتالية، وتكفلت الموسوعات الأدبية بشرح الملابسات التي أحاطت بمولد هذا الشعر وسيرورته، وكان بشار بن برد من هذه الأصوات التي ما زلنا ننعم بمتعة فائقة في استحضارها والتمعن في كلماتها. يروي أبان بن عبد الحميد اللاحقي أنه قد نزل في ظاهر البصرة قوم من أعراب قيس بن عيلان، وكان فيهم بيان وفصاحة، فكان بشار يأتيهم وينشدهم أشعاره التي يمدح فيها قيسا فيجلونه لذلك ويعظمونه. وكانت نساؤهم يجلسن معه ويتحدثن إليه وينشدن أشعاره في الغزل، وكن يعجبن به، وكنت كثيرا ما آتي في ذلك الموضع فأسمع منه ومنهم، فأتيتهم يوما فإذا هم قد ارتحلوا، فجئت إلى بشار فقلت له: يا أبا معاذ، أعلمت أن القوم قد ارتحلوا؟ قال: لا. فقلت فاعلم. قال قد علمت لا علمت. ومضيت، فلما كان بعد ذلك بأيام سمعت الناس ينشدون: دعا بفراق من تهوى أبان ففاض الدمع واحترق الجنان: كأن شرارة وقعت في قلبي لها في مقلتي ودمي استنان (اندفاع) إذا أنشدت أو نسمت عليها رياح الصيف هاج لها دخان فعلمت أنها لبشار، فأتيته فقلت: يا أبا معاذ ماذا نبىء إليك؟ قال: ذنب غراب البين، فقلت هل ذكرتني بغير ذلك. قال: لا، قلت: أنشدك الله ألا تزيد، فقال: امض لشأنك فقد تركتك. وبوسعنا أن نتوقف في هذه الرواية عند أمرين لافتين: أحدهما هو رقة قلب بشار واستئناسه بصحبة نساء الحي وإنشادهن شعر الغزل، وحفاوتهن بذلك، مما يصحح صورة الحياة العربية في تصوراتنا، وإن كان بشار ضريرا فإن سمعته في الفتك كانت أخوف من المبصرين، أما الأمر الثاني فهو سرعة ذيول الشعر وانتشاره بين الناس، فلا يكاد ينظمه بشار حتى يتداولونه وينشدونه، وكأنه كان يمثل (الميديا) أو الإعلام المقروء أو المرئي في عهده، ويزيد عليه ما يتيحه من متعة فنية وجمالية خالصة. وقد كان النقاد والشعراء يحسون سحر أشعار بشار ويعترفون بتفوقه، فابن المعتز يقول عنه في طبقاته: «كان شعره أنقى من الراحة، وأصفى من الزجاجة، وأسلس على اللسان من الماء العذب، ومما يستحسن من شعره ـ وإن كان حسنا كله ـ قوله: أم تجنى حبيب راح غضبانا أصبحت في سكرات الموت سكرانا لا تعرف النوم من شوق إلى شجن كأنما لا ترى للناس أشجانا أود من لم ينلني من مودته إلى سلاما يرد القلب حيرانا يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا». ثم يعقب ابن المعتز بقوله: وهذا بديع لم يسبقه إليه أحد، ومما يستحسن من شعره أيضا، وهو المعنى الذي لم يسبق إليه: لم يطل ليلي ولكن لم أنم ونفى عني الكرى طيف ألم فاهجر الشوق إلى رؤيتها أيها المهجور إلا في الحلم ولازال هذا الشعر يلذ في أسماعنا ويغذي وجداننا ما بقيت العربية حية شاعرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©